الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لا تعارض بين التوكل على الله والأخذ بالأسباب

السؤال

يقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي:..... إن أنت رضيت بما قسمته لك أرحت بدنك وعقلك وكنت عندي محمودا, وإن لم ترض بما قسمته لك أتعبت بدنك وعقلك وكنت عندي مذموما, وعزتي وجلالي لأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحوش في الفلاة ثم لا يصيبك إلا ما كتبته لك.... قرأت عندكم أن هذا الحديث ورد في بعض الكتب السماوية الأخرى, ولكن إذا سلمنا بصحته فلدي بعض الأسئلة التي تدور في نفس الفلك، فكيف يجمع الإنسان بين الرضا بما قسمه الله تعالى, وبين الأماني والمطالب الدنيوية, خاصة التي لم تتحقق كسيارة أو منزل أو زوجة؟.... وكيف يجمع الإنسان بين التدبير والسعي والكد في طلب الرزق, وبين التوكل على الله؟ سمعت البعض ينادى بترك التدبير الذي يورث الهم والغم.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالتوكل على الله والاعتماد عليه من شعب الإيمان، ولكنه لا ينافي الأخذ بالأسباب، فإن الله عز وجل لم يأمر بالتوكل إلا بعد التحرز والأخذ بالأسباب، قال الله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ {آل عمران:159}.

وقد كان سيد المتوكلين صلى الله عليه وسلم يستفرغ الوسع في الأخذ بالأسباب مع كمال توكله واعتماده على ربه، ففي الصحيحين عن عمر: أن أموال بني النضير كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على أهله نفقة سنة، وما بقي يجعله في الكراع والسلاح عدةً في سبيل الله.

قال ابن مفلح في الآداب الشرعية: فيه جواز ادخار قوت سنة، ولا يقال هذا من طول الأمل، لأن الإعداد للحاجة مستحسن شرعاً وعقلاً، وقد استأجر شعيب موسى ـ عليهما السلام ـ وفي هذا رد على جهلة المتزهدين في إخراجهم من يفعل هذا عن التوكل. اهـ.
وقد قال عليه الصلاة والسلام للذي سأله: يا رسول الله أعقلها ـ أي الناقة ـ وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟! قال: اعقلها وتوكل. رواه الترمذي، وحسنه الألباني.

فحقيقة التوكل إنما هي عمل القلب وعلمه، فعمل القلب الاعتماد على الله عز وجل والثقة به، وعلمه معرفته بتوحيد الله سبحانه بالنفع والضر، وعمل القلب لابد أن يؤثر في عمل الجوارح، والذي هو الأخذ بالأسباب، فمن ترك العمل ـ أي الأخذ بالأسباب ـ فهو العاجز المتواكل الذي يستحق من العقلاء التوبيخ والتهجين، قال ابن القيم: ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب وإلا كان معطلاً للأمر والحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً، ولا توكله عجزاً.

ولمزيد الفائدة راجع الفتاوى التالية أرقامها: 18784، 169971، 20101، 23867، 21491، 178009.

واعلم أن تدبير العبد لأمور معاشه وسعيه وكده في طلب الرزق إنما هو من باب الأخذ بالأسباب، ومجرد الأخذ بالأسباب ليس مذموما ولا ينافي التوكل ـ كما تقدم ـ وإنما المذموم هو تعلق القلب بذلك وترك التوكل على الله وعدم الرضا باختياره لعبده، لذلك فعندما يدبر الإنسان أموره ينبغي أن يتذكر سبق قدر الله عليه، وغلبة مشيئته، فإن لم يتحقق ما قصده من تدبيره استحضر حينئذ مشهد الإيمان بالقدر السابق، والاستسلام لمشيئته، قال سبحانه: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا {الإنسان:30}.

وقال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ {الحديد: 22ـ 23}.

قال عكرمة: ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن، ولكن اجعلوا الفرح شكرا والحزن صبرا.

وليثق العبد أن تدبير الله له خير من تدبيره لنفسه، فهو أرحم بعبده وأعلم بمصالحه من نفسه، فإذا شهد العبد بقلبه ذلك أورثه الرضا والطمأنينة وأبعد عنه الحزن والغم، ومما سبق يتبين أن مجرد كون الإنسان له أماني أو تطلعات دنيوية لا يقدح في رضاه عن الله تعالى، كما سبق في الفتوى رقم: 9466.

وإذا لم تتحقق أمانيه فعليه استحضار ما ذكرنا، قال الله جل وعلا : مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {التغابن:11}.

قال ابن كثير: أي: ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره، فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله، هدى الله قلبه وعوضه عما فاته من الدنيا هدى في قلبه، ويقينا صادقا، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه، أو خيرا منه، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ومن يؤمن بالله يهد قلبه ـ يعني: يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وقال الأعمش، عن أبي ظبيان قال: كنا عند علقمة فقرئ عنده هذه الآية: ومن يؤمن بالله يهد قلبه ـ فسئل عن ذلك فقال: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم ـ رواه ابن جرير وابن أبي حاتم...

ونشير إلى أن النص المذكور في السؤال ليس حديثا قدسيا ولا نبويا، وإنما غايته أن يكون من الإسرائيليات، وإن كان معناه صحيحا في الجملة، وقريب منه ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس. رواه الترمذي وأحمد، وحسنه الألباني.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني