الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الحمل والولادة في الجنة.. رؤية أهل العلم

السؤال

هل في الجنة ولادة؟ وهل لو تمنى أحد من أهل الجنة الولد يرزق به؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فينبغي قبل الجواب أن نقرر كمال نعيم أهل الجنة وتمامه، وأنهم لا يشاءون فيها شيئا إلا أعطوه، ولا يشتهون فيها شيئا إلا نالوه، قال تعالى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ {ق:35}.

وقال سبحانه: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {الزخرف:71}.

ومسألة الولادة في الجنة محل خلاف بين أهل العلم، وينبغي تحرير محل النزاع في هذه المسألة بتعلق مشيئة أهل الجنة بذلك، فيقال: هل يشتهون فيها الولد أم لا؟ ولا يقال: هل إذا اشتهوه فيها يعطونه أم لا؟! لأنهم إذا شاءوه فلن يمنعوه، وأجمع وأتقن من تكلم في هذه المسألة هو العلامة المدقق ابن القيم ـ رحمه الله ـ فعقد لها بابا في كتابه حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، فقال: الباب السادس والخمسون: في ذكر اختلاف الناس هل في الجنة حمل وولادة أم لا؟ وعرض فيها أدلة القولين تفصيلا، وجواب كل طائفة عن أدلة الطائفة الأخرى، فكان من أدلة المثبتين حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا: المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي.

ومن أدلة المانعين حديث أبي رزين العقيلي مرفوعا، وفيه في وصف حال أهل الجنة: الصالحات للصالحين تلذون بهن مثل لذاتكم في الدنيا، ويلذذن بكم، غير أن لا توالد.
ثم ختم ابن القيم هذا الباب بعد أن أطال فيه النفس، بقوله: حديث أبي سعيد الخدري هذا أجود أسانيده إسناد الترمذي وقد حكم بغرابته، وأنه لا يعرف إلا من حديث أبي الصديق الناجي، وقد اضطرب لفظه، فتارة يروى عنه إذا اشتهى الولد، وتارة أنه ليشتهي الولد، وتارة إن الرجل من أهل الجنة ليولد له، فالله أعلم، فإن كان رسول الله قد قاله فهو الحق الذي لا شك فيه وهذه الألفاظ لا تنافي بينها ولا تناقض، وحديث أبي رزين: غير أن لا توالد إذ ذاك ـ نفي للتوالد المعهود في الدنيا، ولا ينفي ولادة حمل الولد فيها ووضعه وسنه وشبابه في ساعة واحدة، فهذا ما انتهى إليه علمنا القاصر في هذه المسألة، وقد أتينا فيها بما لعلك لا تجده في غير هذا الكتاب. اهـ.

والترجيح من حيث الإسناد يكون لحديث أبي سعيد، فقد صححه ابن حبان، وقال عنه ابن القيم: إسناده على شرط الصحيح فرجاله محتج بهم فيه، ولكنه غريب جدا. اهـ.

وذكره الحافظ الضياء المقدسي في صفة الجنة، وقال: هذا الحديث عندي على شرط مسلم. اهـ.

وقد رواه الحافظ البيهقي من طريق شيخه الحاكم النيسابوري، ثم قال: قال الحاكم: قال الأستاذ أبو سهل: أهل الزيغ ينكرون هذا الحديث، وقد روي فيه غير إسناد، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذاك، فقال: يكون نحو ما رويناه، والله سبحانه يقول: فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين {الزخرف: 71} وليس بالمستحيل أن يشتهي المؤمن الممكن من شهواته الصفي المقرب المسلط على لذاته قرة عين، وثمرة فؤاد من الذين أنعم الله عليهم بأزواج مطهرة، فإن قيل: ففي تأويله أنهن لا يحضن ولا ينفسن، وأنى يكون الولادة؟ قلت: الحيض سبب الولادة الممتد أجله بالحمل على الكثرة والوضع عليه، كما أن جميع ملاذ الدنيا من المشارب والمطاعم والملابس، على ما عرف من التعب والنصب، وما يعقب كل منها مما يحذر منه ويخاف من عواقبه، وهذه خمر الدنيا المحرمة المستولية على كل بلية، قد أعدها الله تعالى لأهل الجنة منزوع البلية موفورة اللذة، فلم لا يجوز أن يكون على مثله ولد؟. اهـ.

وتعرض ابن كثير في النهاية لهذه المسألة فكان مما قال: نقل عن جماعة من التابعين، كطاووس ومجاهد وإبراهيم النخعي وغيرهم: أن الجنة لا يولد فيها ـ وهذا صحيح، وذلك أن جماعهم لا يقتضي ولدا كما هو الواقع في الدنيا، فإن الدنيا دار يراد منها بقاء النسل لتعمر، وأما الجنة فالمراد بقاء الملك، ولهذا لا يكون في جماعهم مني يقطع لذة الجماع، ولكن إذا أحب أحدهم الولد يقع كما يريد، قال الله تعالى: لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين. اهـ.

وهذا هو الراجح الذي تجتمع به الأدلة، فليس جماع أهل الجنة مما يترتب عليه الحمل والولادة كما في الدنيا، وإنما المسألة مسألة اشتهاء الولد، فيكون اشتهاء أحدهم للولد سببا في حصوله كما يريد وفي الحال، بمشيئة الله تعالى، وقد نظم ابن القيم هذه المسألة تفصيلا في نونيته ونوردها للفائدة، حيث يقول: فصل: في ذكر الخلاف بين الناس هل تحبل نساء أهل الجنة أم لا؟
والناس بينهم خلاف هل بها ... حبل وفي هذا لهم قولان

فنفاه طاووسٌ وإبراهيم ثـــــــــم مجاهد وهم أولو العرفان

وروى العقيلي الصدوق أبو رزيـ ... ـن من صاحب المبعوث بالقرآن

أن لا توالد في الجنان رواه تعـ ... ـليقا محمد عظيم الشان

وحكاه عنه الترمذي وقال إسـ ... ـحاق بن إبراهيم ذو الإتقان

لا يشتهي ولدا بها ولو اشتها ... ه لكان ذاك محقق الإمكان

وروى هشام لابنه عن عامر ... عن ناجيٍ عن سعدٍ بن سنان

أن المنعم بالجنان إذا اشتهى الـ ... ـولد الذي هو نسخة الإنسان

فالحمل ثم الوضع ثم السن في ... فرد من الساعات في الأزمان

إسناده عندي صحيح قد روا ... ه الترمذي وأحمد الشيباني

ورجال ذا الإسناد محتج بهم ... في مسلم وهم أولو إتقان

لكن غريب ما له من شاهد ... فرد بذا الإسناد ليس بثان

لولا حديث أبي رزين كان ذا ... كالنص يقرب منه في التبيان

ولذاك أوله ابن إبراهيم بالـ ... ـشرط الذي هو منتفى الوجدان

وبذاك رام الجمع بين حديثه ... وأبي رزين وهو ذو إمكان

هذا وفي تأويله نظر فـإ نَّ إذا لتحقيق وذي إتقان

ولربما جاءت لغير تحقق ... والعكس في إنْ، ذاك وضع لسان

واحتج من نصر الولادة أن في الجـ ... ـنات سائرَ شهوة الإنسان

والله قد جعل البنين مع النسا ... من أعظم الشهوات في القرآن

فأجيب عنه بأنه لا يشتهي ... ولدا ولا حبلا من النسوان

واحتج من منع الولادة أنها ... ملزومة أمرين ممتنعان

حيض وإنزال المني وذانك الـ ... أمران في الجنات مفقودان

وروى صدي عن رسول الله أ نَّ منيّهم إذ ذاك ذو فقدان

بل لا مني ولا منية هكذا ... يروي سليمان هو الطبراني

وأجيب عنه بأنه نوع سوى الـ ... معهود في الدنيا من النسوان

فالنفي للمعهود في الدنيا من الـ ... إيلاد والإثبات نوع ثان

والله خالق نوعنا من أربع ... متقابلات كلها بوزان

ذكر وأنثى والذي هو ضده ... وكذاك من أنثى بلا ذكران

والعكس أيضا مثل حوا أمنا ... هي أربع معلومة التبيان

وكذاك مولود الجنان يجوز أن ... يأتي بلا حيض ولا فيضان

والأمر في ذا ممكن في نفسه ... والقطع ممتنع بلا برهان. اهـ.

وراجع للفائدة الفتوى رقم: 51750.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني