الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم التوبة من ذنب مع الإصرار على ذنب آخر من نوعه

السؤال

هل تجوز تجزئة التوبة، يعني أتوب مثلا عن أني أرفع صوتي على أمي، يعني أنا تائبة من هذا، لكن لا أتوب مثلا عن أني أحيانا لا أسمع كلامها. هل هذا يفسد التوبة؟
أرجو إجابة واضحة.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن الله تعالى أمر المؤمنين بأن يتوبوا من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها، توبة نصوحًا أي: توبة صادقة لا يعودوا بعدها إلى الذنوب أبدًا؛ فقال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا {التحريم:8}، وقال أيضًا: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {الحجرات:11}. وعلى هذا فإن الواجب عليكِ التوبة من جميع الذنوب التي تقعين فيها، والتي من أعظمها وأكبرها عقوقُ والدتك.

واعلمي أن توبتك من رفع الصوت على والدتك، لا يكفي في التوبة من كبيرة العقوق إن كنتِ تعصينها ولا تطيعينها فيما تأمرك به من المعروف؛ وذلك لأن كلا العملين من أنواع العقوق، والتوبة من كبيرة العقوق تستلزم الانتهاء عن جميع صوره وأنواعه.

وقد اختلف أهل العلم في قبول توبة التائب من بعض الذنوب مع الإصرار على بعضها، وذكر الإمام ابن القيم في كتابه (مدارج السالكين) ذلك الخلاف بطوله، ثم قال: "... وَالَّذِي عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَصِحُّ مِنْ ذَنْبٍ، مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى آخَرَ مِنْ نَوْعِهِ، وَأَمَّا التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ، مَعَ مُبَاشَرَةِ آخَرَ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِ، وَلَا هُوَ مِنْ نَوْعِهِ، فَتَصِحُّ، كَمَا إِذَا تَابَ مِنَ الرِّبَا، وَلَمْ يَتُبْ مَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ مَثَلًا، فَإِنَّ تَوْبَتَهُ مِنَ الرِّبَا صَحِيحَةٌ، وَأَمَّا إِذَا تَابَ مِنْ رِبَا الْفَضْلِ، وَلَمْ يَتُبْ مِنْ رِبَا النَّسِيئَةِ وَأَصَرَّ عَلَيْهِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ تَابَ مِنْ تَنَاوُلِ الْحَشِيشَةِ وَأَصَرَّ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ، أَوْ بِالْعَكْسِ فَهَذَا لَا تَصِحُّ تَوْبَتَهُ، وَهُوَ كَمَنْ يَتُوبُ عَنِ الزِّنَا بِامْرَأَةٍ، وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الزِّنَا بِغَيْرِهَا غَيْرَ تَائِبٍ مِنْهَا، أَوْ تَابَ مِنْ شُرْبِ عَصِيرِ الْعِنَبِ الْمُسْكِرِ، وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى شُرْبِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ، فَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يَتُبْ مِنَ الذَّنْبِ، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ نَوْعٍ مِنْهُ إِلَى نَوْعٍ آخَرَ، بِخِلَافِ مَنْ عَدَلَ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلَى مَعْصِيَةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا فِي الْجِنْسِ ...اهـ.

وعلى هذا فإننا نشدد عليكِ في النصيحة بالتوبة النصوح من عقوق أمك، وبطاعتها فيما تأمركِ به بالمعروف. وإن مما يعينك على ترك عقوقها: علمُكِ بعظيم حق الوالدين، ووصية الله تعالى بهما، وشدة وعيده لمن عقَّهما؛ ومن ذلك قول الله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا {الإسراء:24،23}.

وقد دعا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على العاقِّ لوالديه فقال: «رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ» قِيلَ: مَنْ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ» رواه مسلم.

وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الله لا ينظر إلى العاق لوالديه يوم القيامة فقال: ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَالْمَرْأَةُ الْمُتَرَجِّلَةُ، وَالدَّيُّوثُ. وَثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَالْمُدْمِنُ عَلَى الْخَمْرِ، وَالْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى. رواه النسائي. إلى غير ذلك من النصوص التي تحمل الوعيد الشديد لمن عق والديه ولم يبرهما ويحسن صحبتهما، وباب التوبة مفتوح والحمد لله مادام في العمر بقية، وقد سبق لنا بيان شروط التوبة الصادقة في الفتوى رقم: 42083.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني