الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مضاعفة الحسنات تختص بمن نوى العمل وقام به لا لمن نواه فحسب

السؤال

لم أهتدِ لطريقة أجمع بها بين حديثين في مسألة حساب الحسنات والسيئات، وهي مسألة تهمني, وتشغل بالي جدًّا, فكيف نجمع بين الفتويين التاليتين:
الفتوى الأولى من موقع صيد الفوائد ونصها: "1- حديث أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِذا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلامَهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يعْمَلُها تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثالِها، إِلى سَبْعِمائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُها تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِها).
2- حديث ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فِيما يَرْوي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: (إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها كَتَبَها اللهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِها فَعَمِلَها كَتَبَها اللهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَناتٍ، إِلى سَبْعِمائَةِ ضِعْفٍ، إِلى أَضْعافٍ كَثيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها، كَتَبَها اللهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِها فَعَمِلَها كَتَبَها اللهُ لَهُ سَيِّئَةً واحِدَةً).
في هذين الحديثين بيان حكم الهم بالحسنة والسيئة, وأحوال ذلك, والفكرة والخاطرة إذا استقرت في القلب, وتحرك القلب بها, وعزم على العمل بها صارت هما حينئذ, وترتب عليها الثواب والعقاب؛ لأن الهم عمل القلب, استقرت النية على فعله, والإنسان إما أن يهم بفعل الحسنة, وإما أن يهم بفعل السيئة, فإن هم بفعل الحسنة فله حالتان:
الأولى: أن يعمل بها في جوارحه من كلام باللسان, أو غيره, فتكب له حينئذ عشر حسنات؛ لأن الحسنة تضاعف عشر مرات, كما قال تعالى: (مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا), وقد يضاعفها الله أكثر من ذلك, إلى سبعمائة ضعف, كثواب النفقة في سبيل الله, وتختلف المضاعفة في الحسنات بحسب اعتبار الزمان, والمكان, والحاجة, وما يقوم في قلب الفاعل من الإخلاص, واليقين, وسلامته من الموانع, والناس يتفاوتون في هذا تفاوتًا عظيمًا, وفضل الله واسع, يمن على من يشاء من عباده.
الثانية: أن لا يعمل بالحسنة بجوارحه, فحينئذ يؤجر على همه حسنة واحدة؛ لأن قلبه تحرك بالخير, وهذا يدل على صلاحه.
وإن هم بفعل السيئة فله حالتان:
الأولى: أن يعمل بها في جوارحه من كلام باللسان, أو غيره, فتكتب له حينئذ سيئة واحدة, ولا يضاعفها الله عليه من باب العدل, قال تعالى: (وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ), والسيئة لا تضاعف مطلقًا من حيث العدد في سائر الذنوب, ولكن ورد أنها تضاعف من حيث الكيفية في الزمن, والمكان الفاضل, والفعلة الشنيعة, كما قال تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ), وما ورد في السنة في بعض الذنوب العظيمة, واختار بعض السلف أنها تضاعف في مكة, كالحسنات, وفيه نظر, ولا يصح فيه حديث, والحاصل أن السيئات تعظم في أحوال خاصة, فهي دركات متفاوتة, يتفاوت فيها الناس.
الثانية: أن يترك العمل بها, ويقتصر على الهم, فحينئذ يكتب له حسنة واحدة؛ لأنه ترك العمل بالسوء, وهذا عمل صالح, والله يحب العمل الصالح, لكن هذا محمول على من ترك فعل السيئة خوفًا من الله, وطاعة لله, ويفسره بذلك حديث أبي هريرة: (إنما تركها من جرائي), يعني من أجلي, أما من ترك فعل الذنب رياء من أجل الناس, أو تركه لمانع يمنعه من القيام بالمعصية, وهو يشتهيه, وبحدث نفسه, ويترقب الفرصة لفعله, كمن عزم على السرقة في وقت, ثم تركها خوفًا من الشرط, أو غلبه القدر, كالمقتول الذي يريد قتل صاحبه, كما ورد في الحديث, فهذا لا يؤجر أبدًا؛ لأن تركه ليس طاعة لله, بل يكتب له سيئة؛ لأن قلبه قد تحرك بها, وهو عازم على فعل السوء, وإنما الأعمال بالنيات, وأما إذا كان القلب منعقدًا على عمل مستقل بذاته, كالشك, والنفاق, والعجب, والحسد, وسوء الظن, ونحوه, فهذا يؤاخذ به الإنسان, ويترتب عليه العقاب والملامة شرعًا, واعلم أنه أحيانًا يقوم في القلب من العمل, وسوء القصد ما يكون أشد جرمًا وإثمًا من بعض أعمال الجوارح, وكثير من الخلق غافل عن هذا المقام, فليحذر المؤمن من عظائم القلوب وسيئاته, وفي الحديث كمال فضل رحمة الله وجوده, وعدله مع العباد." والفتوى الثانية هي الفتوى رقم: 153195 في موقعكم الجميل هذا, فأفيدونا - جزاكم الله خيرًا -.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فلا تعارض بين محتوى الفتويين المذكورتين، والمحل الذي اشتركتا في تناوله هو: الهم بفعل الحسنة, وصدق النية, والعزم على ذلك، وهذا محل اتفاق بينهما، فقد جاء في ما نقله السائل: "إن هم بفعل الحسنة فله حالتان:
ـ الأولى: أن يعمل بها في جوارحه, من كلام باللسان, أو غيره, فتكب له حينئذ عشر حسنات ... وقد يضاعفها الله أكثر من ذلك ... .
ـ الثانية: أن لا يعمل بالحسنة بجوارحه, فحينئذ يؤجر على همه حسنة واحدة؛ لأن قلبه تحرك بالخير ... " .
وجاء في فتوانا التي أشار إليها السائل: " فليبشر من نوى الخير, وحرص عليه, بأنه يثاب بنيته ثوابًا عظيمًا ... ولكن مَن منَّ الله تعالى عليه, ووفقه للعمل, يحصل له من مضاعفة الثواب ما لا يحصل للناوي، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ... ". ثم ذكرنا كلام أهل العلم في بيان أن استواءهما في أصلِ أجرِ العمل دون مضاعفته، وأن المضاعفةُ يختصُّ بها من عَمِلَ العمل دونَ من نواه, فلم يعمله, وبهذا يتبين اتفاق مضمون الفتويين - ولله الحمد -.

ولمزيد الفائدة يمكن السائل الاطلاع على الفتوى رقم: 22692 ويجد فيها النص على أن الثواب الذي يكتب لمن هم بالحسنة لا يساوي الثواب المكتوب مع فعلها؛ لأن الفاعل يجمع له ثواب الهم مع ثواب الفعل، والهامُّ يكتب له ثواب الهم وحده.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني