الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أي الأعمال الصالحة يُقدَّم إذا تزاحمت أو تعارضت

السؤال

بعد بحث طويل في الآيات والأحاديث لم أجد صراحة ما يشبع فضولي عن كيفية العمل، لأنني أبحث عن الأفضل ثم الأفضل وعن الأكمل والأشمل، ويحدث عندي تعارض بين التكاليف الشرعية: مثل قضية بر الوالدين، أو الزواج والإحسان إلى الزوجة والأبناء بالنسبة لغير المتزوج، أو حفظ القرآن كاملاً عملاً بالحديث الذي صححه الألباني: يقالُ لصاحِبِ القرآنِ: اقرأ، وارتَقِ، ورتِّل كَما كُنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا، فإنَّ منزلتَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرأُ بِها ـ وغيرها، تتعارض مع قضية الجهاد مثلاً، أقصد من الناحية الكمية لا من الناحية النوعية، ومسألة الوقت هي محور الموضوع فلا يمكن التفرغ لتلك الأمور كلها والجمع بينها لمدة طويلة وغير ذلك من إشكالات، أرجو توجيهي، وإذا كان عندكم ما يفيد من الكتب في هذا المجال فأرجو إرشادي إليها، وأنفس ما قرأت في هذا ما قاله ابن القيم في كتابه القيم: طريق الهجرتين وباب السعادتين ـ ومنهم جامع المنفذ السالك إلى الله في كل وادٍ، الواصل إليه من كل طريق، فهو جعل وظائف عبوديته قِبْلَةَ قلبه ونصب عينه، يؤمها أين كانت، ويسير معها حيث سارت، قد ضرب مع كل فريق بسهم، فأين كانت العبودية وجدته هناك، إن كان علمٌ وجدته مع أهله، أو جهاد وجدته في صف المجاهدين، أو صلاة وجدته في القانتين، أو ذكر وجدته في الذاكرين، أو إحسان ونفع وجدته في زمرة المحسنين، أو محبة ومراقبة وإنابة إلى الله وجدته في زمرة المحبين المنيبين، يدين بدين العبودية أنى استقلت ركائبها، ويتوجه إليها حيث استقرت مضاربها، لو قيل له: ما تريد من الأعمال؟ لقال: أريد أن أنفذ أوامر ربي حيث كانت وأين كانت، جالبةً ما جلبت، مقتضيةً ما اقتضت، جمعتني أو فرقتني ليس لي مراد إلا تنفيذها والقيام بأدائها مراقباً له فيها، عاكفاً عليه بالروح والقلب والبدن السر، قد سلمت إليه المبيع منتظراً منه تسليم الثمن: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقد أحسنت في الحرص على الأفضل، وينبغي للمسلم أن يجعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ـ رضي الله عنهم ـ قدوة له وأن يكون متبعاً لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع أقواله وأفعاله، إذ لا سبيل للقرب من الله إلا بهذا قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ {آل عمران: 31}. وقال سبحانه: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا {الحشر: 7}.

فهؤلاء جمعوا بين الجهاد والتعلم والتكسب، وكانوا ينفقون على المحتاجين، فعلى المسلم أن يتابعهم في إيمانهم وجهادهم وعبادتهم، وفي هديهم في التكسب، وفي توظيف أوقاتهم، وبالاقتداء بالصحابة ومن تابعهم بإحسان في فهمهم للوحي وتطبيقهم له، يسلك العبد الصراط المستقيم وينجو من الانحراف والغلو والتقصير، لأنهم أزكى هذه الأمة نفوسا وأطهرها قلوبا وأكثرها علما وأقلها تكلفا، كما وصفهم ابن مسعود، وقد زكاهم الله عز وجل وأكثر من الثناء عليهم في القرآن، فوعدهم بالجنة وأخبر برضوانه عنهم وبأنهم صدقوا في إيمانهم، فقد روى الشيخان واللفظ لمسلم عن أنس بن مالك قال: جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أن ابعث معنا رجالا يعلمونا القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار يقال لهم القراء فيهم خالي حرام يقرؤون القرآن ويتدارسون بالليل يتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد ويحتطبون فيبيعونه ويشترون به الطعام لأهل الصفة وللفقراء، فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان فقالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا، قال وأتى رجل حراما خال أنس من خلفه فطعنه برمح حتى أنفذه فقال حرام: فزت ورب الكعبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إن إخوانكم قد قتلوا، وإنهم قالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا.

ومن أجمع ما قيل في الأفضلية كلام الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ حيث ذكر في مدارج السالكين اختلاف أهل العلم في ذلك وأظهر حجة كل قول، ثم بين الراجح بما يليق بهذه المسألة الجليلة، فقال ما ملخصه: أهل مقام: إياك نعبد ـ لهم في أفضل العبادة وأنفعها وأحقها بالإيثار والتخصيص أربع طرق، فهم في ذلك أربعة أصناف:

ـ الصنف الأول: عندهم أنفع العبادات وأفضلها أشقها على النفوس وأصعبها..

ـ الصنف الثاني: قالوا: أفضل العبادات التجرد والزهد في الدنيا..

ـ الصنف الثالث: رأوا أن أنفع العبادات وأفضلها ما كان فيه نفع متعد، فرأوه أفضل من ذي النفع القاصر، فرأوا خدمة الفقراء، والاشتغال بمصالح الناس وقضاء حوائجهم ومساعدتهم بالمال والجاه والنفع أفضل..

ـ الصنف الرابع: قالوا: إن أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، فأفضل العبادات في وقت الجهاد الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار، بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن، والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا القيام بحقه والاشتغال به عن الورد المستحب، وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل، والأفضل في أوقات السحر الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والاستغفار، والأفضل في وقت استرشاد الطالب وتعليم الجاهل الإقبال على تعليمه والاشتغال به، والأفضل في أوقات الأذان ترك ما هو فيه من ورده والاشتغال بإجابة المؤذن، والأفضل في أوقات الصلوات الخمس الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه والمبادرة إليها في أول الوقت والخروج إلى الجامع وإن بعد كان أفضل، والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه أو البدن أو المال الاشتغال بمساعدته وإغاثة لهفته وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك، والأفضل في وقت قراءة القرآن جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه حتى كأن الله تعالى يخاطبك به... والأفضل في وقت الوقوف بعرفة الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك، والأفضل في أيام عشر ذي الحجة الإكثار من التعبد لا سيما التكبير والتهليل والتحميد فهو أفضل من الجهاد غير المتعين، والأفضل في العشر الأخير من رمضان لزوم المسجد فيه والخلوة والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم، حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم وإقرائهم القرآن عند كثير من العلماء، والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته عيادته وحضور جنازته وتشييعه وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك، والأفضل في وقت نزول النوازل وأذية الناس لك أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم دون الهرب منهم، فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه، والأفضل خلطتهم في الخير فهي خير من اعتزالهم فيه، واعتزالهم في الشر فهو أفضل من خلطتهم فيه، فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلله فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزالهم، فالأفضل في كل وقت وحال إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه، وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق، والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد، فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص وترك عبادته، فهو يعبد الله على وجه واحد، وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره، بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت، فمدار تعبده عليها، فهو لا يزال متنقلا في منازل العبودية، كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى، فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره، فإن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العباد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم، وإن رأيت أرباب الجمعية وعكوف القلب على الله رأيته معهم، فهذا هو العبد المطلق، الذي لم تملكه الرسوم ـ طقوس معينة ـ ولم تقيده القيود، ولم يكن عمله على مراد نفسه، وما فيه لذتها وراحتها من العبادات، بل هو على مراد ربه، ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه، فهذا هو المتحقق: بإياك نعبد وإياك نستعين ـ حقا، القائم بهما صدقا، ملبسه ما تهيأ، ومأكله ما تيسر، واشتغاله بما أمر الله به في كل وقت بوقته، ومجلسه حيث انتهى به المكان ووجده خاليًا، لا تملكه إشارة، ولا يتعبده قيد، ولا يستولي عليه رسم، حر مجرد دائر مع الأمر حيث دار، يدين بدين الآمر أنى توجهت ركائبه. إلى آخر كلامه رحمه الله... اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني