الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مناقشة الشوكاني في أن آية (إلا على أزواجهم..) لا تدل على حرمة الاستمناء

السؤال

هل ما لم يأمر به النبي أو لم ينه عنه داخل في حكم المباح؟ هذا سؤال.
والثاني: أليس هناك قاعدة تقول إن المجمل لا يحتج به إذا فصل، فمثلا الآية التي في سورة المؤمنون "فمن ابتغى وراء ذلك" فهذا نص مجمل لا يحتج به على ما زاد من تفصيل النبي في أوجه استخدام الفرج فيما حرم إذا كان في زنى أو لواط، فهو مجمل قد فصل لا يحتج به على حرمة العادة السرية، فهي لم يرد بها نص شرعي واضح، وهذا الكلام ذكره الشوكاني في كتابه "بلوغ المنى"، فما قولكم في هذا؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فما لم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينه عنه داخل في حكم المباح، إذا لم يدل على حكمه دليل شرعي آخر. وقد عرف الشيخ ابن عثيمين رحمه الله (المباح) في رسالته الأصول من علم الأصول فقال: ما لا يتعلق به أمر، ولا نهي لذاته؛ كالأكل في رمضان ليلاً. فخرج بقولنا: "ما لا يتعلق به أمر"؛ الواجب والمندوب. وخرج بقولنا: "ولا نهي"؛ المحرم والمكروه. وخرج بقولنا: "لذاته"؛ ما لو تعلق به أمر لكونه وسيلة لمأمور به، أو نهي لكونه وسيلة لمنهي عنه، فإن له حكم ما كان وسيلة له من مأمور، أو منهي، ولا يخرجه ذلك عن كونه مباحاً في الأصل. اهـ .

وأما مذهب الشوكاني في مسألة الاستمناء، فقد سبق أن أشرنا إليه في الفتوى رقم: 122182. وكلامه الذي أشار إليه السائل قاله في معرض مناقشة الاستدلال بالآية على حرمة الاستمناء، ولفظه بطوله: استدل المانعون بقوله تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين. فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون}. وتقرير الاستدلال ما يفيده قوله تعالى: {فمن ابتغى وراء ذلك} فإن الإشارة إلى قوله: {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} فما غاير ذلك فهو من الوراء الذي لا يبتغيه إلا العادون. ويمكن أن يقال: إنه لا عموم لهذه الصيغة بكل ما هو مغاير للأزواج أو ملك اليمين مغايرة أي مغايرة، وإلا لزم كل ما يبتغيه الإنسان وهو مغاير لذلك، وأن لا يبتغي لمنفعة في المنافع التي لا تتعلق بالنكاح، ومع تقييد لذلك، لا بد من تقييده بكونه في فرج من قبل أو دبر، فيكون ما في الآية في قوة: فمن ابتغى نكاح فرج غير فرج الزوجات والمملوكات فأولئك هم العادون. فإن قلت: هذا يتم إذا كان التقدير: (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على فروج أزواجهم أو فروج ما ملكت أيمانهم) حتى يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، وذلك يستلزم أن يكون الاستمتاع بغير الفرج من الزوجات وملك اليمين من الوراء، فلا يحل! واللازم باطل، فالملزوم مثله! قلت: جواز الاستمتاع من الزوجات والمملوكات ورد به الدليل، كالأحاديث الواردة في جواز الاستمتاع منهما بغير الفرج، وكقوله تعالى: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم}، فلا يلزم بطلان اللازم، ولا بطلان الملزوم. فإن قلت: تقييد ما في الآية بالنكاح من فروج الزوجات والمملوكات غير ظاهر، بل المتبادر ما هو أعم من ذلك. قلت: هذا وإن كان هو الظاهر، لكن صدق اسم النكاح على الاستمتاع في الزوجات والمملوكات بغير الفرج غير ظاهر، وقد عرفت أنه لا بد من تقييد ما في الآية به، وإلا لزم الباطل بالإجماع كما قدمنا، فإن قلت: أنت لا تقدر النكاح بالكف بل مجرد ما في الآية من ذكر الحفظ. قلت: حفظ الفرج باعتبار مدلوله اللغوي أعم من حفظه عن النكاح وعن غيره، والمماسة للنبات والجماد، فلا بد من تقييد ما في الآية بالنكاح، وكما لا يصدق على الاستمتاع بغير الفرج من الزوجات والمملوكات اسم النكاح، كذلك لا يصدق على الاستمناء بالكف ونحوه اسم النكاح، فتدبر هذا. وقد قيل: إن الآية مجملة، والمجمل لا يحتج به إلا بعد بيانه، وقد بين الله في كتابه وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته ما يحرم نكاحه، مثل الزنى الذي أوجب الله فيه الحد. اهـ.
والراجح في هذه المسألة، وكذلك الراجح في معنى الآية ودلالتها، غير ما ذهب إليه الشوكاني ـ رحمه الله ـ فإن حفظ الفرج المذكور في الآية لا يقتصر على حفظه عن الفروج في النكاح، وحمله على ذلك فقط تقييد أو تخصيص بلا دليل، ولو صح ذلك لما كان في الآية دليل على حرمة استمناء الرجل بيد المرأة الأجنبية !!!

والظاهر الذي تدل عليه الآية أن الحفظ المذكور محمول على المعنى العرفي لاستعمال الفرج، وهو الاستمتاع ونيل الشهوة، فهذا ما يميز الفرج عن سائر أعضاء البدن، قال النسفي في (مدارك التنزيل): {فَمَنِ ابتغى وَرَاء ذلك} طلب قضاء شهوة من غير هذين {فَأُوْلَئِكَ هُمُ العادون} الكاملون في العدوان، وفيه دليل تحريم المتعة والاستمتاع بالكف لإرادة الشهوة. اهـ.
وإذا جعلنا هذا من المجمل الذي يحتاج إلى بيان، كان قوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] مجملا من باب أولى، فإنه يدور بين النكاح والاستمتاع والنظر والخدمة وغير ذلك. وكذلك قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] فإنه يدور بين الأكل والنظر والمس وغير ذلك. والصواب أنه ليس من المجمل، وأنه يحمل على المعنى المتعارف عليه، والذي يدل عليه السياق، قال الإسنوي في (نهاية السول): العموم إما أن يكون لغة أو عرفا، كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] فإن أهل العرف نقلوا هذا المركب من تحريم العين إلى تحريم جميع وجوه الاستمتاعات؛ لأنه المقصود من النسوة دون الاستخدام ونحوه. ومثله قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] فإن حملناه على الأكل للعرف. اهـ.
وقال الغزالي في (المستصفى): قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء: 23] و {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3] ليس بمجمل. وقال قوم من القدرية: هو مجمل؛ لأن الأعيان لا تتصف بالتحريم، وإنما يحرم فعل ما يتعلق بالعين وليس يدرى ما ذلك الفعل، فيحرم من الميتة مسها أو أكلها أو النظر إليها أو بيعها أو الانتفاع بها فهو مجمل. والأم يحرم منها النظر أو المضاجعة أو الوطء، فلا يدرى أيه، ولا بد من تقدير فعل، وتلك الأفعال كثيرة وليس بعضها أولى من بعض. وهذا فاسد؛ إذ عرف الاستعمال كالوضع، ولذلك قسمنا الأسماء إلى عرفية ووضعية. اهـ.
وكذلك المقصود بحفظ الفرج المذكور في الآية، وما يستثنى منه، يحمل على ما يناسبه، فيدخل فيه صونه من الشهوة، وستره وعدم كشفه، إلا مع من استثني من الزوجة وملك اليمين، كما جاء في حديث معاوية بن حيدة قال: قلت: يا رسول الله؛ عوراتنا ما نأتي منها وما نذر. قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك. قال: قلت: يا رسول الله؛ إذا كان القوم بعضهم في بعض. قال: إن استطعت أن لا يرينها أحد فلا يرينها. قال: قلت: يا رسول الله؛ إذا كان أحدنا خاليا؟ قال: الله أحق أن يستحيا منه من الناس. رواه أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه. وحسنه الألباني.
فمجرد كشف الفرج من غير حاجة يتنافى مع الحفظ المذكور، فضلا عن العبث به واستعماله في غير ما هو له، والحفظ عن الإبداء يستلزم الحفظ عن الإفضاء، كما قال الشهاب الخفاجي في حاشيته على تفسير البيضاوي. وقد مدح الله تعالى حفظ الفرج مطلقا في قوله: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } [الأحزاب: 35].
وقال السعدي: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} فلا يطؤون بها وطئا محرما، من زنى أو لواط، أو وطء في دبر، أو حيض، ونحو ذلك، ويحفظونها أيضا من النظر إليها ومسها، ممن لا يجوز له ذلك، ويتركون أيضا وسائل المحرمات الداعية لفعل الفاحشة. اهـ.
وقال الطاهر بن عاشور في (التحرير والتنوير): هذا الحفظ له حدود سنتها الشريعة، فالمراد: حفظ الفروج عن أن تستعمل فيما نهي عنه شرعا، وليس المراد: حفظها عن الاستعمال أصلا وهو الرهبنة، فإن الرهبنة مدحوضة في الإسلام بأدلة متواترة المعنى. اهـ.

ثم إننا لو سلمنا بأن الآية مجملة ـ وليست كذلك ـ فالجواب ما نقله الشوكاني في (إرشاد الفحول) عن الماوردي قال: إن كان الإجمال من جهة الاشتراك واقترن به تبينه أخذ به، فإن تجرد عن ذلك واقترن به عرف يعمل به، فإن تجرد عنهما وجب الاجتهاد في المراد منه، وكان من خفي الأحكام التي وكل العلماء فيها إلى الاستنباط، فصار داخلا في المجمل، لخفائه وخارجا منه، لإمكان استنباطه. اهـ.

وقد سبق أن ذكرنا وجه الدلالة في الآية على حرمة الاستمناء، ومن قال بذلك من الأئمة، فراجع الفتوى رقم: 23868.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني