الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل يعذر الجاهل الذي وقع في الكفر تقليدا لغيره

السؤال

قال بعض أهل العلم يجوز التقليد في مسائل الاعتقاد على الصحيح، ويجوز التقليد في الفروع إجماعا، لكن السؤال لو أن عاميا قلد غيره في العقيدة، وكان هذا الغير كافرا ملحدا مبتدعا... إلخ، فماذا نقول لو أجزنا التقليد ابتداء؟
جزاكم الله خيرا، وجعل ذلك في موازين حسناتكم.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فأما عن التقليد في مسائل الاعتقاد فهو جائز لمن عجز عن الاستدلال، ولا فرق في جواز التقليد بين مسائل الاعتقاد وغيرها، وهذا الذي عليه عامة علماء الأمة، قال السمعاني: وقد ذهب جميع المتكلمين وطائفة من الفقهاء أنه لا يجوز للعامي التقليد فيها ولا بد أن يعرف ما يعرفه بالدليل وقالوا: العقائد الأصولية عقلية والناس جميعا مشتركون في العقل، ولأن العلم بها واجب والعلم لا يحصل للمقلد بتقليد غيره، ولأن الدلائل على الأصول ظاهرة وليست غامضة، فتكليف العامي ليعرف الأصول بدلائلها لا يؤدى إلى الحرج الشديد فيسقط عنهم لذلك، واعلم أن أكثر الفقهاء على خلاف هذا وقالوا: لا يجوز أن نكلف العوام اعتقاد الأصول بدلائلها؛ لأن في ذلك المشقة العظيمة والبلوى الشديدة، وهى في الغموض والخفاء أشد من الدلائل الفقهية في الفروع، ولهذا خفى على كثير من العقلاء مع شدة عنايتهم في ذلك واهتمامهم العظيم، فصارت دلائل الأصول مثل دلائل الفروع، ولأنا نحكم بإيمان العامة ونقطع أنهم لا يعرفون الدلائل ولا طرقها، وإنما شأنهم التقليد والاتباع المحض، وإنما طريقهم أخذ شيئين في التقليد أحدهما أنهم عرفوا أن العلماء قد قالوا ما قالوا عن حجة ودليل، فيكون اتباعهم لأقوال العلماء اعتقادا عن دليل بهذا الوجه، وإما لأن العوام يعلمون أن العلماء يقولون ما يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد عرفوا إقامة النبي صلى الله عليه وسلم من المعجزات ما يعجز عنه البشر، وتحقق في قلوبهم ثبوته بهذا الطريق، وأنه يقول ما يقوله عن الله عز وجل، فحصلت عقائدهم عن علم ودليل قام لهم فيها بهذا الوجه، وأما إيجاب معرفة الأصول على ما يقوله المتكلمون بعيد جدا عن الصواب، ومتى أوجبنا ذلك من يوجد في العوام يعرف ذلك وتصدر عقيدته عنه بل يكون أكثر العوام بحيث لو عرض عليهم تلك الدلائل لم يفهموها أصلا، فضلا من أن يصيروا أصحاب دلائل ويقفوا على العقائد بالطرق البرهانية، وإنما غاية العامي هو أن يتلقى ما يريد أن يعتقده ويلقى به ربه من العلماء، ويتبعهم في ذلك ويقلدهم. اهـ. من قواطع الأدلة.

وقال ابن تيمية: أما في المسائل الأصولية فكثير من المتكلمة والفقهاء من أصحابنا وغيرهم من يوجب النظر والاستدلال على كل أحد، حتى على العامة والنساء حتى يوجبوه في المسائل التي تنازع فيها فضلاء الأمة، قالوا: لأن العلم بها واجب ولا يحصل العلم إلا بالنظر الخاص، وأما جمهور الأمة فعلى خلاف ذلك، فإن ما وجب علمه إنما يجب على من يقدر على تحصيل العلم، وكثير من الناس عاجز عن العلم بهذه الدقائق فكيف يكلف العلم بها؟ وأيضا فالعلم قد يحصل بلا نظر خاص بل بطرق أخر: من اضطرار وكشف وتقليد من يعلم أنه مصيب وغير ذلك. اهـ. من مجموع الفتاوى .

وأما ما يتعلق بإعذار المقلد: فإن الجهل ما يعذر به في الجملة عند عامة العلماء، ومن أنواع الجهل: تقليد الشخص من يظنه من أهل العلم والإيمان وهو خلاف ذلك، جاء في كتاب نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف للدكتور محمد الوهيبي: الذي يظهر من كلام الأئمة أن العذر بالتقليد من جنس العذر بالتأول والجهل، باعتبار المقلد جاهلاً لا يفهم الدليل أو الحجة، فإذا عذر من وقع في الكفر متأولاً رغم علمه واجتهاده، فعذر من يقلده من العوام الجهال من باب أولى، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ بعدما تكلم عن كفر وضلال أهل الحلول والاتحاد من غلاة المتصوفة كابن سبعين وابن عربي وابن الفارض وأمثالهم: ( ... فكل من كان أخبر بباطن هذا المذهب، ووافقهم عليه، كان أظهر كفراً، وإلحاداً، وأما الجهال الذين يحسنون الظن بقول هؤلاء ولا يفهمونه، ويعتقدون أنه من جنس كلام المشايخ العارفين الذين يتكلمون بكلام صحيح لا يفهمه كثير من الناس، فهؤلاء تجد فيهم إسلاماً وإيماناً، ومتابعة للكتاب والسنة بحسب إيمانهم التقليدي، وتجد فيهم إقراراً لهؤلاء وإحساناً للظن بهم، وتسليماً لهم بحسب جهلهم وضلالهم، ولا يتصور أن يثني على هؤلاء إلا كافراً ملحد، أو جاهل ضال ...)، فنلاحظ من كلام شيخ الإسلام إعذاره للجهال الذين يحسنون الظن بكلام هؤلاء الغلاة ولا يفهمونه حيث قال: إن فيهم إسلاماً وإيماناً ومتابعة للكتاب والسنة رغم ضلالهم وجهلهم، وفي موضع آخر يشير ـ رحمه الله ـ إلى موقف الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ من ولاة الأمر الذين قالوا بقول الجهمية، وامتحنوا وعاقبوا من خالفهم (ومع هذا فالإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ ترحم عليهم واستغفر لهم؛ لعلمه بأنهم لم يبين لهم أنهم مكذبون للرسول، ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطأوا، وقلدوا من قال لهم ذلك...) فالإمام أحمد ـ رحمه الله ـ عذر هؤلاء لأنهم مقلدون لمن يظنونهم من أهل العلم، وقد استدل شيخ الإسلام بهذا الموقف من إمام أهل السنة من بعض أتباع الجهمية على العذر بالتأويل والجهل ـ كما سبق ـ مما يدل على أن العذر بالتقليد عنده من جنس العذر بالجهل والخطأ والله أعلم.
وفي موضع ثالث يشير إلى عذر بعض من يقلد الشيوخ والعلماء فيما هو من جنس الشرك، قال ـ رحمه الله ـ بعد كلام حول هذا الموضوع: (... وإن كانت من جنس الشرك، فهذا الجنس ليس فيه شيء مأمور به، لكن قد يحسب بعض الناس في بعض أنواعه أنه مأمور به، وهذا لا يكون مجتهداً، لأن المجتهد لابد أن يتبع دليلاً شرعياً، وهذه لا يكون عليها دليل شرعي، لكن قد يفعلها باجتهاد مثله، وهو تقليده لمن فعل ذلك من الشيوخ والعلماء, والذين فعلوا ذلك قد فعلوه لأنهم رأوه ينفع، أو لحديث كذب سمعوه، فهؤلاء إذا لم تقم عليهم الحجة بالنهي لا يعذبون ...).
وقال أيضاً: (وأما المنتسبون إلى الشيخ يونس، فكثير منهم كافر بالله ورسوله، لا يقرون بوجوب الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وحج البيت العتيق، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، بل لهم من الكلام في سب الله ورسوله والقرآن والإسلام ما يعرفه من عرفهم، أما من كان فيهم من عامتهم لا يعرف أسرارهم وحقائقهم، فهذا يكون معه إسلام عامة المسلمين الذي استفاده من سائر المسلمين لا منهم...).
ويفصل الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ في بيان أقسام أهل البدع فيقول: (...وأما أهل البدع الموافقون أهل الإسلام، ولكنهم مخالفون في بعض الأصول كالرافضة والقدرية والجهمية وغلاة المرجئة ونحوهم، فهؤلاء أقسام: أحدهما: الجاهل المقلد الذي لا بصيرة له، فهذا لا يكفر ولا يفسق، ولا ترد شهادته إذا لم يكن قادراً على تعلم الهدى، وحكمه حكم المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله غفوراً رحيماً. القسم الثاني: المتمكن من السؤال وطلب الهداية ومعرفة الحق، ولكن يترك ذلك اشتغالاً بدنياه ورئاسته ولذته ومعاشه وغير ذلك، فهذا مفرط مستحق للوعيد آثم بترك ما وجب عليه من تقوى الله بحسب استطاعته، فهذا حكمه حكم أمثاله من تاركي بعض الواجبات، فإن غلب ما فيه من البدعة والهوى على ما فيه من السنة والهدى ردت شهادته، وإن غلب ما فيه من السنة والهدى قبلت شهادته، القسم الثالث: أن يسأل ويطلب ويتبين له الهدى، ويتركه تقليداً أو تعصباً، أو بغضاً ومعاداة لأصحابه، فهذا أقل درجاته أن يكون فاسقاً، وتكفيره محل اجتهاد وتفصيل...).
مما سبق يتبين لنا إعذار الأئمة لمن وقع في الكفر تقليداً إن كان جاهلاً لا بصيرة له ولا فقه، أما إن كان قادراً على فهم الحجة وفرط في طلبها فإنه يأثم، ولكنه لا يكفر إلا بعد قيام الحجة.

وراجع للفائدة الفتوى رقم: 60700، والفتوى رقم: 60824.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني