الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل يحشر المسلمون مع نبيهم؟

السؤال

هل نحشر مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

يقول الله تبارك وتعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا {النساء:69}.

قال ابن كثير: أي: من عمل بما أمره الله ورسوله، وترك ما نهاه الله عنه ورسوله، فإن الله عز وجل يسكنه دار كرامته، ويجعله مرافقاً للأنبياء، ثم لمن بعدهم في الرتبة، وهم الصديقون، ثم الشهداء، ثم عموم المؤمنين، وهم الصالحون، الذين صلحت سرائرهم، وعلانيتهم. اهـ.

وروى الطبراني في "الأوسط" و"الصغير": عن عائشة، قالت: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، والله إنك لأحب إليَّ من نفسي، وإنك لأحب إلي من أهلي، وأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت، فأذكرك، فما أصبر حتى آتيك، فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك، عرفت أنك إذا دخلتَ الجنة رُفعت مع النبيين، وإني إذا دخلتُ الجنة، خشيتُ أن لا أراك. فلم يرُدَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم، حتى نزل جبريل بهذه الآية: ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين الآية».

قال الضياء المقدسي في "صفة الجنة": لا أعلم بإسناد هذا الحديث بأساً. اهـ.

وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد": ورجاله رجال الصحيح، غير عبد الله بن عمران العابدي، وهو ثقة. انتهى.

ورواه ابن جرير الطبري، عن سعيد بن جبير وغيره مرسلاً.

قال ابن القيم -رحمه الله- في "طريق الهجرتين" بعد أن ذكر هذه الآية: والله تعالى يحشر الشكل مع شكله، والنظير مع نظيره، ويقرن بينهما في الدرجة، قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ. [الصافات: 22].

قال الإمام أحمد، وقبله عمر بن الخطاب: "أزواجهم" أشباههم، ونظراؤهم. وقال تعالى: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [التكوير: 7] روى النعمان بن بشير، عن عمر بن الخطاب، أنه سئل عن هذه الآية، فقال: يقرنِ الرجل الصالح، مع الرجل الصالح في الجنة، ويقرن الرجل السوء، مع الرجل السوء في النار. وقال الحسن وقتادة: يلحق كل بشيعته، اليهودي باليهودي، والنصراني بالنصراني. وقال الربيع: يحشر الرجل مع صاحب عمله. اهـ.

ولهذا كان أهل العلم يرجون أن يحشروا مع النبيين وأتباعهم.

كما قال الإمام ابن أبي العز الحنفي في مقدمة شرح الطحاوية: وقد أحببتُ أن أشرحها، سالكًا طريق السلف في عباراتهم، وأنسجَ على مِنوالهم... لعلي أن أُنظَمَ في سلكهم، وأُدخَلَ في عِدادهم، وأُحشَر في زمرتهم {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}. اهـ.

وقد دلت النصوص الصحيحة، على أن الإنسان يحشر يوم القيامة مع من أحب, كالحديث المتفق عليه عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: «جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! كيف تقول في رجل أحب قوماً، ولم يلحق بهم؟ فقال: "المرء مع من أحب"». متفق عليه.

قال الصنعاني في "التنوير على الجامع الصغير": فإنه من أحب شخصاً تخلَّق بما يحبه؛ فعلامة حبِّه صلى الله عليه وسلم، التخلق بسنته، والنصرة لها، والدعاء إليها (ومن أحبني كان معي في الجنة) فإنه قد ثبت أنه يحشر المرء مع من أحب، فمن ادعى حبه صلى الله عليه وسلم ولم يَقُم بسنته، فهي دعوى كاذبة، وأمانيُّ باطلة. انتهى.

وقال أيضاً: «المرء مع من أحب» يُحشَر معهم، ويُنزَّل في الآخرة منازلهم؛ إن أحب أهل الخير، لحق بهم، أو أهل الشر، عُد من جملتهم، وهو أيضًا في دار الدنيا ينسب إلى من يحبه ويقاربه، ويواصله. والحديث حث على حب الأخيار، والاتصال بالأبرار، وتجنب الأشرار، والأغيار. والإنسان حيث وضع نفسه، يدرك سعده في الدارين ويحسه, والخير ينجذب في الأخيار، والشرير يأرز إلى الأشرار. والحديث عظيم في باب الرَّجاء؛ ولذا قال أنس: ما فرحوا بعد الإِسلام بشيء، كفرحهم بهذا الحديث. عن ابن مسعود قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف تقول في رجل أحب قومًا ولما يلحق بهم، فذكره، قال العلائي: الحديث مشهور، أو متواتر؛ لكثرة طرقه، وعده المصنف في الأحاديث المتواترة. انتهى.

وفي "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للهروي القاري: «المرء مع من أحب» أي: يحشر مع محبوبه، ويكون رفيقاً لمطلوبه. قال تعالى: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم} [النساء: 69] الآية. وظاهر الحديث العموم، الشامل للصالح والطالح. انتهى.

وبناءً عليه؛ فإن من أحب النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل بمقتضى محبته: باتّباع سنته, والتخلق بأخلاقه, وامتثال ما أمر به, واجتناب ما نهى عنه, ما أمكنَ، فإنه يُحشر معه يوم القيامة، وفي الجنة.

والحشر معه صلى الله عليه وسلم لا يعني أنه يكون في مثل درجته, أو منزلته في الجنة.

قال النووي في شرح صحيح مسلم، تعليقًا على الحديث السابق: فيه فضل حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والصالحين، وأهل الخير الأحياء والأموات. ومن فضل محبة الله ورسوله، امتثال أمرهما، واجتناب نهيهما، والتأدب بالآداب الشرعية، ولا يشترط في الانتفاع بمحبة الصالحين أن يعمل عملهم؛ إذ لو عمله لكان منهم ومثلهم, ثم إنه لا يلزم من كونه معهم، أن تكون منزلته، وجزاؤه مثلهم من كل وجه. انتهى.

قال ابن حجر في "الفتح": قوله: «إنك مع من أحببت» أي ملحقٌ بهم، حتى تكون في زمرتهم، وبهذا يندفع إيراد أن منازلهم متفاوتة، فكيف تصح المعية؟ فيقال: إن المعية تحصل بمجرد الاجتماع في شيءٍ ما، ولا تلزم في جميع الأشياء، فإذا اتفق أن الجميع دخلوا الجنة.. صدقت المعية وإن تفاوتت الدرجات. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني