الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

التدرج في التكاليف الشرعية في زمن الصحابة ومن بعدهم

السؤال

يتحدث بعض العلماء والمشايخ أن الإسلام دين يسر، وأنه نزل بالتدرج، ولم ينزل دفعة واحدة، لتسهيله على الناس، والذي استفاد من التدرج هم الصحابة فقط، وعددهم مقارنة مع بقية المسلمين لا يكاد يذكر، فما الذي استفدناه من التدرج في تحريم الخمر مثلا؟ وهل نستطيع أن نقول لشخص يشرب الخمر عليك أن لا تصلي إذا كنت سكرانا، ثم ندرج له في الجواب وأنه لا يجوز؟ فما هي الحكمة من هذا التدرج المؤقت؟ ولماذا لا يحق لنا أن نتخذها سنة عن الرسول عليه الصلاة والسلام أن نتدرج مع المسلمين كما تدرج الرسول عليه الصلاة والسلام مع الصحابة؟.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فبداية نلفت نظر الأخ السائل إلى الفرق الظاهر بين من وُلِد ونشأ على الشرك والكفر بالله في جاهلية تامة، لا علاقة لها بدين الحق ولا تعرفه، كجيل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وبين من ولد ونشأ في الإسلام، أو شب وهو يسمع به وبأحكامه، كمن بعد الصحابة من الأجيال، وهذا الفرق لا يصح تجاهله، ومما يفيد في ذلك قول حذيفة رضي الله عنه: إنما كان النفاق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان. رواه البخاري.

قال القسطلاني في إرشاد الساري: مراد حذيفة نفي اتفاق الحكم، لا نفي الوقوع، إذ وقوعه ممكن في كل عصر، وإنما اختلف الحكم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتألفهم فيقبل ما أظهروه من الإسلام، بخلاف الحكم بعده. اهـ.

وقال ابن الملقن في التوضيح: قوله: إنما كان النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أي: إنما دخلوا في الإسلام خوفا، آمنوا بألسنتهم دون قلوبهم، وقوله: فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان ـ يعني: هؤلاء ولدوا في الإسلام وعلى فطرته، فمن أظهر منهم كفرا فهو مرتد، ولذلك اختلفت أحكام المنافقين والزنادقة والمرتدين، لأن المنافقين لم يكونوا مسلمين قط إلا بالإسلام، وهؤلاء ولدوا على فطرة الإسلام وفي الإسلام، فكانوا عليها حتى أحدثوا ما أحدثوا. اهـ.
بل إن هذا الفرق يمتد حتى يشمل التفريق بين السابقين للإسلام وبين المتأخرين عنه! فالسابقون هم الذي جرى عليهم التدرج في كل ما جاء متدرجا من الأحكام، وأما المتأخرون فمن أسلم منهم بعد مجيء الحكم الناسخ، فليس لهذا التدرج أثر عليه، فمثلا: من أسلم بعد تحريم الخمر ـ وقد حرمت بعد غزوة أحد في السنة الثالثة من الهجرة، كما ذكرنا في الفتوى رقم: 105516 ـ فمن أسلم بعد ذلك من الصحابة، وهم كثير جدا، التزم بهذا الحكم دون أن يسأل التدرج الذي مر على من سبقه إلى الإسلام، وقد أقيم حد الخمر على بعض الصحابة في حياة النبي صلى الله عليه سلم، فعن عقبة بن الحارث قال: جيء بالنعيمان أو ابن النعيمان شاربا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان في البيت أن يضربوا، قال: فكنت أنا فيمن ضربه، فضربناه بالنعال والجريد. رواه البخاري.
وأمر آخر ينبغي التنبيه عليه، وهو أن هذا التدرج لم يكن بطلب من المسلمين أو بعضهم، بل اقتضته حكمة الله تعالى في شريعته، وبمجرد مجيء الحكم الجديد، تصبح الحكمة في امتثاله، والحق في اتباعه، دون ترخص ولا ميل للهوى. وأخيرا ننبه على أن هذا لا يتعارض مع التدرج في الدعوة والبيان، واعتبار حال المدعو، فإن الحكمة في الدعوة إلى الله تقتضي هذا التدرج، بأن يبدأ بالأهم فالمهم، وأن يسكت عن بعض المنكرات التي يقع فيها المدعو حتى يتهيأ الظرف والوقت المناسب للبيان، ومع ذلك فلا يجوز له أن يحل حراما، أو يغير حكما، وإنما يراعي التدرج والرفق بالمدعو، دون تحريف لأحكام الشريعة، كما سبق أن نبهنا عليه في الفتوى رقم: 342847.

ولمزيد الفائدة عن ذلك يمكن مراجعة كتاب: التدرج في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ـ للشيخ إبراهيم المطلق ـ وراجع للفائدة الفتوى رقم: 172543.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني