الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تقديم أي المصلحتين العامة أم الخاصة، وإزالة الأذى عن الآخرين إن تسبب في الإضرار بالنفس

السؤال

ما حق الناس والمجتمع على الفرد؟ وهل هو مقدّم على مصلحة الفرد؟ وهل الواجب على المسلم كف الأذى عن غيره، حتى وإن كان الثمن أن يتعرض لأذى من نوع آخر، ثمنًا لمحاولته مساعدة الآخرين؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فلو ضرب لنا السائل مثلًا، واقتصرنا على الكلام فيه، لكان ذلك متيسرًا .. وأما إطلاق الكلام وتعميمه في مثل هذه الأمور، فلا يصح باطراد.

ومع ذلك؛ فيمكن القول: إن الأصل هو تقديم المصلحة العامة، على المصلحة الخاصة، كما سبق أن نبهنا عليه في الفتوى رقم: 41251.

ولكن إن قويت المصلحة الخاصة، وضعفت العامة، فكانت مشقتها ومفسدة تفويتها أقل من مفسدة تفويت المصلحة الخاصة؛ فعندئذ تقدَّم الخاصة، كما تقدم الضروريات على الحاجيّات، كأن يُخيَّر المرء بين أن يُقتَل، فتفوت نفسه بالكلية، وبين أن يفسد على الناس شيئًا من مصالحهم الحاجيّة، مع بقاء مُهَجهم، ومصالحهم الضرورية، قال الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي في الوجيز في أصول الفقه الإسلامي: المصلحة العامة في كل قسم من أقسام المصالح، تقدم على المصلحة الخاصة فيه، فالمصلحة العامة في أحد الضروريات، تقدم على المصلحة الخاصة فيه، كما لو تترس الكفار وراء أسرى المسلمين، وكما يجوز الإقدام على القتل والقتال في المعركة؛ للحفاظ على حياض المسلمين، والدفاع عن أرواحهم، والمصلحة العامة في الحاجيات، تقدم على المصلحة الخاصة في الحاجيات؛ فيحرم الاحتكار؛ لأن فيه ضررًا بمصلحة حاجية عامة، والمصلحة العامة في التحسينات، تقدم على المصلحة الخاصة فيها؛ ولذلك ورد النهي عن التطويل في الصلاة، وأن من أمَّ في الناس فليخفف. اهـ.

وعلى أية حال؛ فالذي يسعنا هنا هو نقل جُمَل من كلام أهل العلم في التأصيل العام لهذه القضية، ومن أجمع الكتب التي تناولتها: كتاب الموافقات، وفيه يقول الشاطبي: المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة؛ بدليل النهي عن تلقي السلع، وعن بيع الحاضر للبادي، واتفاق السلف على تضمين الصناع، مع أن الأصل فيهم الأمانة، وقد زادوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره مما رضي أهله وما لا؛ وذلك يقضي بتقديم مصلحة العموم على مصلحة الخصوص، لكن بحيث لا يلحق الخصوص مضرة. اهـ.

وقال في موضع آخر: لا يخلو أن تكون المصالح المتعلقة من جهة الغير خاصة أو عامة، فإن كانت خاصة، سقطت، وكانت مصالحه هي المتقدمة؛ لأن حقه مقدم على حق غيره شرعًا ... وإن كانت المصلحة عامة؛ فعلى من تعلقت بهم المصلحة أن يقوموا بمصالحه، على وجه لا يخلّ بأصل مصالحهم، ولا يوقعهم في مفسدة تساوي تلك المصلحة، أو تزيد عليها ... اهـ.

وقال في موضع آخر: المكلف إن لزم من اشتغاله بنفسه فساد، ومشقة لغيره، فيلزم أيضًا من الاشتغال بغيره فساد، ومشقة في نفسه.

وإذا كان كذلك، تصدى النظر في وجه اجتماع المصلحتين مع انتفاء المشقتين، إن أمكن ذلك، وإن لم يمكن، فلا بد من الترجيح، فإذا كانت المشقة العامة أعظم، اعتبر جانبها، وأهمل جانب الخاصة، وإن كان بالعكس، فالعكس، وإن لم يظهر ترجيح، فالتوقف. اهـ.

وكذلك مسألة إزالة الأذى عن الآخرين، إن تسبب في الإضرار بالنفس، فيها تفصيل بحسب الواقع وبحسب رُتَب الأذى، وقدر الضرر.

والذي يمكن إجماله هنا هو: أن الأصل عدم وجوب ذلك؛ لأن أمن الضرر على النفس شرط لوجوب النهي عن المنكر، قال ابن عطية في المحرر الوجيز عند تفسير قوله تعالى: كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة: 79]، قال: الإجماع على أن النهي عن المنكر، واجب، لمن أطاقه، ونهى بمعروف، وأمن الضرر عليه، وعلى المسلمين، فإن تعذر على أحد النهي لشيء من هذه الوجوه، ففرض عليه الإنكار بقلبه، وأن لا يخالط ذا المنكر. اهـ.

وقال النووي في حاشيته على صحيح مسلم: أجمع العلماء على أنه -يعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- فرض كفاية، فإن خاف من ذلك على نفسه، أو ماله، أو على غيره، سقط الإنكار بيده، ولسانه، ووجبت كراهته بقلبه. هذا مذهبنا، ومذهب الجماهير. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني