الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل محبة الله سابقة لمحبة العبد أم إن أفعاله سبب محبة الله؟

السؤال

هل محبة الله سابقة لمحبة العبد، أم إن أفعاله سبب محبة الله؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فهذه المسألة محل نظر وبحث:

ففي القرآن إشارة إلى أن محبة الله للعبد سابقة على محبة العبد له، فكأن محبة الله هي الأصل، ومحبة العبد فرعه، قال الواحدي في التفسير البسيط: قوله تعالى {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] بدأ بمحبته؛ لأنها الجالبة، والموجبة لمحبتهم، ولا يحب الله إلا من أحبه الله، ولولا محبة الله إياهم ما أحبوه. اهـ.

وقال الفخر الرازي في مفاتيح الغيب عند هذه الآية: فيه دقيقة، وهي أنه تعالى قدم محبته لهم على محبتهم له، وهذا حق؛ لأنه لولا أن اللَّه أحبهم، وإلا لما وفقهم حتى صاروا محبين له. اهـ.

وقال النيسابوري في تفسيره: إنما قدم محبته على محبتهم؛ لأن محبتهم إياه نتيجة محبته الأزلية إياهم، فتلك أصل، وهذه فرع. اهـ.

وقال الصفوري في نزهة المجالس: إن قيل: كيف قدم محبته على محبتهم له، وقدم ذكرهم على ذكره إياهم، قال تعالى: {فاذكروني أذكركم}؟

فالجواب ما قاله الشيخ عبد القادر الكيلاني: أن الذكر مقام طلب، (فكأنه) أمر بالطلب منه، فقدم ذكرهم له، وأما المحبة فهي تحفة إلهية، ليس للعبد فيها اختيار، فلا يصح وجودها إلا بعد بروزها من جانب الغيب على يد المشيئة؛ فلهذا قدم محبته لنا على محبتنا له، وله الفضل والمنة. اهـ.

ولهذا نظائر أخرى في القرآن، كقوله تعالى في آخر السورة نفسها: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [المائدة:119]، وقوله تعالى: ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا [التوبة:118]، قال الثعلبي في تفسيره عند هذه الآية: فبدأ بالتوبة منه -ثم روى بإسناده عن أبي يزيد البسطامي قال-: غلطت في أربعة أشياء: في الابتداء مع الله، ظننت أني أُحِبُّه، فإذا هو أحبَّني بقوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}، وظننت أني أرضى عنه، فإذا هو رضي عني، قال الله تعالى: {وَرَضُوا عَنْهُ}، وظننت أني أذكره، فإذا هو ذكرني، قال الله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ}، وظننت أني أتوب، فإذا هو تاب عليّ، قال الله تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا}. اهـ. وتبعه على ذلك القرطبي في تفسيره.

وقال السعدي في تفسيره: إذا أحب الله عبدًا يسر له الأسباب، وهوّن عليه كل عسير، ووفقه لفعل الخيرات، وترك المنكرات، وأقبل بقلوب عباده إليه بالمحبة، والوداد. اهـ.

وهناك إشارات أخرى في القرآن يؤخذ منها أن محبة الله للعبد، إنما تكون بعد إتيان العبد بمحابِّ الله تعالى، كقوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، قال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية: أخبر أنهم يحبهم إن اتبعوا الرسول، فاتباع الرسول شرط المحبة، والمشروط يتأخر عن الشرط. اهـ. وعلى نحو ذلك ما جاء في الحديث القدسي المشهور: وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه. رواه البخاري.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان: هذا يبين أن حبه لعبده، إنما يكون بعد أن يأتي بمحابِّه. والقرآن قد دل على مثل ذلك، قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}، فقوله: {يحببكم} جواب الأمر في قوله: {فاتبعوني}، وهو بمنزلة الجزاء مع الشرط؛ ولهذا جُزم، وهذا ثواب عملهم، وهو اتباع الرسول، فأثابهم على ذلك بأن أحبهم؛ وجزاء الشرط وثواب العمل ومسبب السبب، لا يكون إلا بعده، لا قبله، وهذا كقوله تعالى: {ادعوني أستجب لكم}، وقوله تعالى {يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم}، وقوله تعالى {اتقوا الله وقولوا قولا سديدا. يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم}، ومثل هذا كثير .. اهـ.

وقال ابن رجب في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى: درجة المحبة لله تعالى إنما تنال بطاعته، وبفعل ما يحبه، فإذا امتثل العبد لأوامر مولاه، وفعل ما يحبه، أحبه الله تعالى، ورقاه إلى درجة محبته، كما في الحديث الإلهي الذي خرجه البخاري: "وما تقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عندي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه". فأفضل ما تستجلب به محبة الله عز وجل فعل الواجبات، وترك المحرمات. اهـ.

وفي الحديث الآخر: إذا أحب الله عبدًا، نادى جبريل: إن الله يحب فلانًا، فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا، فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في أهل الأرض. رواه البخاري.

قال ابن حجر في فتح الباري: وقع في بعض طرقه بيان سبب هذه المحبة، والمراد بها، ففي حديث ثوبان: "إن العبد ليلتمس مرضاة الله تعالى، فلا يزال كذلك حتى يقول: يا جبريل، إن عبدي فلانًا يلتمس أن يرضيني، ألا وإن رحمتي غلبت عليه ... الحديث". أخرجه أحمد، والطبراني في الأوسط. ويشهد له حديث أبي هريرة الآتي في الرقاق، ففيه: "ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه" الحديث ... وفي حديث ثوبان عند الطبراني: "وإن العبد يعمل بسخط الله، فيقول الله: يا جبريل، إن فلانًا يستسخطني .. فذكر الحديث على منوال الحب أيضًا. اهـ.

ويمكن أن يجمع بين القولين، بأن محبة الله للمؤمن الذي يختم له بالإيمان سابقة في علم الله تعالى، ولكنها تتحقق في الواقع بفعل العبد للسبب الذي ينال به محبة الله؛ ولذلك فإن العبد الكافر أو الفاجر يبغضه الله حال كفره وفجره، وإن كان قد سبق في علم الله تعالى أنه يؤمن بعد ذلك، ويتوب، ويموت على الإيمان والتقوى، فلا تتحقق له محبة الله إلا بعد إيمانه وتوبته، وقد سبق لنا تحرير ذلك في الفتوى: 299689.

وقال شيخ الإسلام في دقائق التفسير: والتحقيق هو الجمع بين القولين، فإن علم الله القديم الأزلي، وما يتبعه من محبته، ورضاه، وبغضه، وسخطه، وولايته، وعداوته، لا يتغير، فمن علم الله منه أنه يوافي حين موته بالإيمان والتقوى، فقد تعلق به محبة الله، وولايته، ورضاه عنه أزلًا وأبدًا، وكذلك من علم الله منه أنه يوافي حين موته بالكفر، فقد تعلق به بغض الله وعداوته وسخطه أزلًا وأبدًا، لكن مع ذلك فإن الله تعالى يبغض ما قام بالأول من كفر وفسوق قبل موته.

وقد يقال: إنه يبغضه ويمقته على ذلك، كما ينهاه عن ذلك، وهو سبحانه وتعالى يأمر بما فعله الثاني من الإيمان والتقوى، ويحب ما يأمر به ويرضاه، وقد يقال: إنه يواليه حينئذ على ذلك. والدليل على ذلك اتفاق الأئمة على أن من كان مؤمنًا ثم ارتد، فإنه لا يحكم بأن إيمانه الأول كان فاسدًا بمنزلة من أفسد الصلاة والصيام والحج قبل الإكمال، وإنما يقال كما قال الله تعالى: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله}، وقال: {لئن أشركت ليحبطن عملك}، وقال: {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون}. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني