الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كيف يوفّق اللهُ تعالى الكفارَ وهم لا يتوكلون عليه؟

السؤال

عندي سؤال يحيرني: نحن -المسلمين- إذا عزمنا على شيء ما، نأخذ بالأسباب التي تعيننا على هذا الشيء بداية، ثم نتوكل على الله أن يوفقنا في هذا الشيء، والله -سبحانه وتعالى- إمَّا أن يكتب لنا التوفيق أو لا.
بالنسبة للغرب وغير المسلمين، أو الذين لا يؤمنون بدين، فهم يأخذون بالأسباب دون التوكل على الله، فكيف يكون التوفيق؟ وكيف ينجحون؟ والمبدأ الأساس غير موجود، ألا وهو التوكل على الله؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فلا ريب في أن التوكل على الله تعالى من أعظم أسباب التوفيق والفلاح، ومن ينتفي عنه التوكل، لا يوفق في إيمانه، ولا يفلح في آخرته، فهو شرط في الإيمان، والتوفيق، كما قال تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:122]، وقال: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23]، وقال: وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].

وأما في أمور الدنيا والمعاش، فالتوكل مع أنه من أعظم أسباب حصولها وتيسيرها، لا يعني أن من لا يتوكل على الله تعالى في مثل هذه الأمور: لا يصل إلى مبتغاه، أو لا يوفق في مسعاه! بل يمده الله من الدنيا؛ لأنها لا تساوي عنده جناح بعوضة.

ففي أمور الدنيا تعمل الأسباب، ولو من دون توكل، فلا يمنع الله رزقه فيها عمن غفل عنه، أو أعرض بالكلية، قال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا. وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا. كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا. انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [الإسراء:18-21]، قال السعدي: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} أي: ممنوعًا من أحد، بل جميع الخلق راتعون بفضله، وإحسانه. {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} في الدنيا بسعة الأرزاق وقلتها، واليسر والعسر، والعلم والجهل، والعقل والسفه، وغير ذلك من الأمور التي فضل الله العباد بعضهم على بعض بها. {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا} فلا نسبة لنعيم الدنيا ولذاتها إلى الآخرة بوجه من الوجوه. اهـ.

ولذلك لما خص الخليلُ إبراهيمُ - عليه السلام - أهلَ الإيمان بدعائه بالرزق، شمل الله برزقه أهل الكفر أيضًا، كما قال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [البقرة:126]، قال السعدي: فلما دعا لهم بالرزق، وقيده بالمؤمن، وكان رزق الله شاملًا للمؤمن والكافر، والعاصي والطائع، قال تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ} أي: أرزقهم كلهم، مسلمهم وكافرهم، أما المسلم فيستعين بالرزق على عبادة الله، ثم ينتقل منه إلى نعيم الجنة، وأما الكافر، فيتمتع فيها قليلا {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} أي: ألجئه وأخرجه مكرهًا {إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني