الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الترحّم على الوالد الملحد الذي يُشَكّ في تلفظه بالشهادة

السؤال

عاش أبي ملحِدًا لا يؤمن بالله العظيم حتى وقت الوفاة الذي شهده ابن عمّي، وأخبرني أنه وبعد أن ألحَّ عليه قد نطق بالشهادتين في آخر أنفاسه عند الاحتضار، وما عهدته عليه في آخر أيامه عجزه عن التكلم بوضوح من فرط شدة المرض، وحينها كنت في الثامنة عشرة من عمري، ولم يكن ابن عمّي معروفًا بالصدق، أو الدّين، وله أسباب دنيوية في ستر أبي أمام عشيرته وناسه، ومع أني لم أكن أحب أبي لاعتدائه الصارم عليَّ من معاملة أقسى وأذل من معاملة كافر بلا ضمير لعبده، لكني لا أنسى كيف كان يحملني الطريق الطويل في صغري فقط؛ لكوني لا أحب المشي، أو الجلوس في العربة، وما كان يؤثر على نفسه هو ووالدتي من أجل إطعامي الفاصوليا الحلوة التي كانت غالية الثمن أثناء دراسته في بريطانيا، والتلميذ فقير، كما هو معهود، وما كنت أحب طعامًا مثلما أحبها، كذلك الحلويات التي لم أكن أشبع منها، وكل ذلك ووالداي يرضيان بشبعي، ثم بعدما كبرت مرّت به ظروف صعبة، فصار يفرغ غضبه فيَّ بما ذكرت لكم من معاملة، وأكرر أن نبأ نطق أبي بالشهادتين غير موثوق به، فهل يحلّ لي أن أستغفر له؟ أفتوني -وفقكم الله-.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فتلقين المريض الكافر الشهادتين، أمر حسن، وهو من باب دعوته إلى الإسلام استنقاذًا له من النار، فإنه لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب: يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله، فقال أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعودان بتلك المقالة. متفق عليه.

وقد سئل الشيخ ابن باز: هل يشرع الحضور عند الكافر المحتضر وتلقينه؟ فأجاب: يشرع ذلك إذا تيسر، وقد كان عند النبي صلى الله عليه وسلم خادم يهودي، فمرض، فذهب إليه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فلقنه، وقال: قل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فنظر اليهودي إلى أبويه، فقالا له: أطع أبا القاسم، فقالها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار. اهـ.

وقال الشيخ ابن عثيمين في الشرح الممتع: ينبغي في هذا أن ينظر إلى حال المريض، فإن كان المريض قويًّا يتحمل، أو كان كافرًا، فإنه يؤمر، فيقال: قل: لا إله إلا الله، اختم حياتك بلا إله إلا الله، وما أشبه ذلك، وإن كان مسلمًا ضعيفًا، فإنه لا يؤمر، وإنما يذكّر الله عنده حتى يسمع فيتذكر. اهـ.

وينبغي في تلقين الكافر أن يجمع بين الشهادتين، فلا يكتفي بقول: لا إله إلا الله، بل يجمع إليها قول: محمد رسول الله ـ قال ابن حجر الهيتمي في تحفة المحتاج: أما الكافر فيلقنهما ـ يعني الشهادتين مجتمعتين ـ قطعًا، مع لفظ: أشهد ـ لوجوبه أيضًا على ما سيأتي فيه؛ إذ لا يصير مسلمًا إلا بهما. اهـ. وجاء نحو ذلك في حاشية الطحطاوي الحنفي على مراقي الفلاح.

وجاء في الموسوعة الفقهية: قال الإسنوي: لو كان ـ أي: المحتضر ـ كافرًا لقن الشهادتين وأمر بهما، وتلقين الكافر المحتضر الشهادة يكون وجوبًا، إن رجي إسلامه، وإن لم يرج إسلامه، فيندب ذلك، قال الجمل: وظاهر هذا أنه يلقن إن رجي إسلامه، وإن بلغ الغرغرة، ولا بعد فيه؛ لاحتمال أن يكون عقله حاضرًا، وإن ظهر لنا خلافه، وإن كنا لا نرتّب عليه أحكام المسلمين حينئذ. اهـ.

فإن غلب على ظنك صدق ابن عمّك، فيجوز لك الاستغفار لأبيك؛ قال القرطبي في التفسير: ظاهر حالة المرء عند الموت يحكم عليه بها، فإن مات على الإيمان، حكم له به، وإن مات على الكفر، حكم له به، وربك أعلم بباطن حاله. انتهى.

وإن ثبت لديك، أو غلب على ظنك أن والدك مات على إلحاده، فلا يجوز لك الترحّم عليه؛ فقد حكي الإجماع على حرمة الاستغفار للكافر.

قال النووي في المجموع: وَأَمَّا الصَّلاةُ عَلَى الْكَافِرِ، وَالدُّعَاءُ لَهُ بِالْمَغْفِرَةِ، فَحَرَامٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَالإِجْمَاعِ. اهـ. وانظر فتوانا: 367783، 285976.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني