الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كيفية توبة واستسماح من اغتاب بعض الناس

السؤال

أنا اغتبت بعض الناس، وتبت إلى الله، والحمد لله. سؤالي: هل ممكن طلب السماح من الأشخاص الذين اغتبتهم شخصيا؟
هل ممكن أن يكون طلب السماح عن طريق رسالة مجهولة؟ مثلا: أتواصل معه وأقول له: أنا اغتبتك، فلا تحرجني وتقول لي: من أنت؟ اسمح لي فقط؟ أم من شروطها أن يعرفني من أنا بالضبط؟،

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن الغيبة كبيرة من الكبائر التي نهى الله عنها في القرآن، فقال تعالى: وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ {الحجرات:12}، فقد ذكر الله تعالى المغتاب بهذا الوصف الذميم تنفيرًا له من هذه المعصية، وإظهارًا لقبحها.

ومن وقع فيها فليتب إلى الله تعالى بالندم عليها، والاستغفار منها، والتحلل ممن اغتابه -إن كان عالمًا بذلك-؛ فيعتذر إليه، ويطلب منه المسامحة. وإن كان لا يعلم؛ فالأولى أن يكون تحلله منه عاما، ولا ينبغي إعلامه بالغيبة؛ لأن مفسدة ذلك أعظم، وإنما يطلب منه المسامحة من حيث الإجمال -إن أمكن ذلك- سواء بالاتصال، أو بالمراسلة، ولا يلزم أن يعرفه على نفسه، وإن تعذر ذلك، فيكفيه أن يستغفر له، وأن يذكره بالخير في المواطن التي ذكره فيها بالسوء.

جاء في كتاب الأنوار البهية للسفاريني: مَنِ اغْتَابَ إِنْسَانًا، أَوْ قَذَفَهُ وَنَحْوَهُ، هَلْ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ تَوْبَتِهِ إِعْلَامُهُ بِذَلِكَ وَاسْتِحْلَالُهُ مِنْ ذَلِكَ؟ ... فَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا يَجِبُ الْإِعْلَامُ وَلَا الِاسْتِحْلَالُ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّهُ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَإِنَّهُ إِنْ تَابَ مِنْ قَذْفِ إِنْسَانٍ، أَوْ غِيبَتِهِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهِ، لَا يُشْتَرَطُ لِتَوْبَتِهِ إِعْلَامُهُ، وَالتَّحَلُّلُ مِنْهُ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي لِمَا رَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَنِ اغْتَابَ رَجُلًا ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لَهُ بَعْدُ غُفِرَ لَهُ غِيبَتُهُ»، وَبِإِسْنَادِهِ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «كَفَّارَةُ مَنُ اغْتِيبَ أَنْ يُسْتَغْفَرَ لَهُ»؛ وَلِأَنَّ فِي إِعْلَامِهِ إِدْخَالُ غَمٍّ عَلَيْهِ. انتهى

وأفاض ابن القيم في كتاب مدارج السالكين في ذكر الأقوال في المسألة ومنها: أنه لا يشترط الإعلام بما نال من عرضه وقذفه واغتيابه، بل يكفي توبته بينه وبين الله، وأن يذكر المغتاب والمقذوف في مواضع غيبته وقذفه بضد ما ذكره به من الغيبة، فيبدل غيبته بمدحه والثناء عليه، وذكر محاسنه، وقذفه بذكر عفته وإحصانه، ويستغفر له بقدر ما اغتابه. وهذا اختيار شيخنا أبي العباس ابن تيمية، قدس الله روحه.
واحتج أصحاب هذه المقالة بأن إعلامه مفسدة محضة لا تتضمن مصلحة، فإنه لا يزيده إلا أذى وحنقا وغما، وقد كان مستريحا قبل سماعه، فإذا سمعه ربما لم يصبر على حمله، وأورثته ضررا في نفسه أو بدنه، ... وما كان هكذا فإن الشارع لا يبيحه، فضلا عن أن يوجبه ويأمر به.
قالوا: وربما كان إعلامه به سببا للعداوة والحرب بينه وبين القائل، فلا يصفو له أبدا، ويورثه علمه به عداوة وبغضاء مولدة لشر أكبر من شر الغيبة والقذف، وهذا ضد مقصود الشارع من تأليف القلوب، والتراحم والتعاطف والتحابب.
انتهى منه بتصرف يسير.

ونقل ابن عبد البر في بهجة المجالس قول حُذَيْفَة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: كَفَّارَةُ مَنِ اغْتَبْتَهُ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: ‌التَّوْبَةُ مِنَ الْغِيبَةِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِمَنِ اغْتَبْتَهُ، وَقَالَ سُفْيَانُ: بَلْ تَسْتَغْفِرُهُ مِمَّا قُلْتَ فِيهِ، فَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: لَا تُؤْذِهِ مَرَّتَيْنِ. انتهى

واعلم أيها الأخ الكريم أن باب التوبة مفتوح، وأن الله يفرح بتوبة عبده، وأن الذنب مهما كان عظيما، فإن رحمة الله -تعالى- أوسع، وعفو الله -تعالى- أعظم. وقد قال -عز وجل- مرغبا في التوبة: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر:53}.
وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ {الشورى:25}.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني