الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

العبادة والمجاهدة الدائبة حتى انتهاء العمر تهون لمن يريد النجاة وسعادة الأبد

السؤال

بارك الله في موقعكم المفيد.
أنا أحاول الاجتهاد في طاعة الله على قدر ما أستطيع، لكن يظهر لي أن الطريق طويلة، وكما يقول المثل الذي عندنا: الطريق طويلة، والبغلة عثارة.
كل يوم أحاول الاستيقاظ مبكرا لصلاة الصبح، وكبح نفسي على أمور أشتهي فعلها، وتضيع الكثير من الفرص لربح المال الكثير.
إلى متى كل هذه الأمور؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فاعلم أولا أن من سلك طريق الاستقامة، وجدَّ في السير إلى الله -تعالى- فإن نفسه ستطمئن بطاعة الله، وسيذوق حلاوة العبادة ولذة الأنس بالله -تعالى- مما ينسيه كل تعب، ويسهل عليه كل مكروه يلقاه في هذا السبيل.

ولكن هذا لا يحصل إلا بالمجاهدة، ومكابدة مشاق العبادة أول الأمر حتى تصير له الطاعة هيئة لازمة، وصفة راسخة، وملكة ثابتة، وانظر الفتوى: 139680.

ثم اعلم أن أجل انتهاء المجاهدة، ومكابدة التكاليف هو خروج الروح من البدن، فوطن نفسك على أنك ما دمت تعيش في هذه الدنيا فإنك في دار البلاء والامتحان، وعليك أن تصبر لحكم الله، وتجاهد نفسك على امتثال أوامر الله -جل اسمه- فليس ثم خيار آخر لمن أراد النجاة بنفسه غدا، وقد قال الله لنبيه صلوات الله عليه: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ {الحجر:99}.

واليقين هنا هو الموت، فلم يجعل الله -تعالى- لعبادة المؤمن أمدا تنتهي إليه قبل الموت.

قال ابن كثير: ويستدل بهذه الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ. عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ كَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْإِنْسَانِ مَا دَامَ عَقْلُهُ ثَابِتًا، فَيُصَلِّي بِحَسَبِ حَالِهِ. انتهى.

وقال القرطبي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99). فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ: وَهُوَ أَنَّ الْيَقِينَ الْمَوْتُ. أَمَرَهُ بِعِبَادَتِهِ إِذْ قَصَّرَ عِبَادُهُ فِي خِدْمَتِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَمَا فائدة قول:"حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ" وَكَانَ قَوْلُهُ:" وَاعْبُدْ رَبَّكَ" كَافِيًا فِي الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ.

قِيلَ لَهُ: الْفَائِدَةُ فِي هَذَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ:" وَاعْبُدْ رَبَّكَ" مُطْلَقًا، ثُمَّ عَبَدَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً كَانَ مُطِيعًا، وَإِذَا قَالَ" حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ" كَانَ مَعْنَاهُ لَا تُفَارِقْ هَذَا حَتَّى تَمُوتَ.

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ سُبْحَانَهُ:" وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ" وَلَمْ يَقُلْ أَبَدًا؟

فَالْجَوَابُ أَنَّ الْيَقِينَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ: أَبَدًا، لِاحْتِمَالِ لَفْظِ الْأَبَدِ لِلَّحْظَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلِجَمِيعِ الْأَبَدِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى.

وَالْمُرَادُ اسْتِمْرَارُ الْعِبَادَةِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحِ:" وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا". انتهى.

فاعلم وأيقن أن عبادتك لربك -تعالى- هي الوظيفة التي لها خلقت، ولأجلها أوجدك الله تعالى، قال جل اسمه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ {الذاريات:56}.

وما دامت هذه وظيفتك في هذه الحياة، فإنك لن تزال خاضعا لأمر الله، متحملا مشاق هذه التكاليف وإن ثقلت عليك حتى ينتهي عمرك، وينقضي أجلك.

وأنت بهذا تعمل لمصلحة نفسك، وتقدم لها الزاد الذي ينفعها يوم تلقى الله تعالى، فلا تستثقل شيئا من هذه التكاليف والعبادات، فإنها يسير بجانب ما وعد الله به المؤمنين من الكرامة.

وأشد أهل الدنيا بؤسا ينسى كل بؤسه وضره بغمسة يغمسها في الجنة، وفي الجنة الراحة الأبدية والنعيم المقيم، ومن ههنا قيل لبعض الصالحين: أتعبت نفسك. فقال: راحتها أريد.

فمن عرف جلالة هذا المطلوب، وخطر تلك السلعة، هان عليه جميع ما يبذله في تحصيلها من ثمن.

والله يوفقنا وسائر إخواننا لما فيه رضاه.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني