الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

شروط تقوية المراسيل بعضها لبعض

السؤال

هل الأحاديث المرسلة يعضد بعضها البعض بشكل مطلق بدون قيود؟
فمثلا جاء حديث مرسل عن الحسن البصري يقول إن النبي -صلى الله عليه وسلم- رَبا بطنه بعد وفاته. وجاء هذا الحديث مرسلا كذلك عن عبد الله البهي.
فهل كل من هذين المرسلين يعضد الآخر؛ فيكون الحديث حسنا على الرغم مما فيه من نكارة؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن المراسيل لا يُقوِّي بعضها بعضا بلا قيود.

بل لا بد من توافر شروط لتقوية المراسيل، ومن أشهر من فصّل شروط تقوية المراسيل الإمام الشافعي في كتابه الرسالة.

وقد لخص ابن رجب في شرح علل الترمذي كلام الإمام الشافعي، فقال بعد ذكره لنص كلامه بطوله:

وهو كلام حسن جدًّا، ومضمونه أنَّ الحديث المرسل يكون صحيحًا، ويُقبل بشروط، منها: في نفس المرسِل:

وهي ثلاثة:

أحدها: أن لا يُعرف له رواية عن غير مقبول الرواية؛ من مجهول، أو مجروح.

ثانيها: أن لا يكون ممن يخالف الحفاظ إذا أسند الحديث فيما أسندوه، فإن كان مِمّن يخالف الحفاظ عند الإسناد لم يُقبل مرسله.

ثالثها: أن يكون من كبار التابعين، فإنَّهم لا يروون غالباً إلا عن صحابي، أو تابعي كبير، وأمّا غيرهم من صغار التابعين ومن بعدهم؛ فيتوسعون في الرواية عمّن لا تقبل روايته، وأيضاً فكبار التابعين كانت الأحاديث في وقتهم الغالب عليها الصحة، وأما من بعدهم فانتشرت في أيامهم الأحاديث المستحيلة، وهي الباطلة الموضوعة، وكثر الكذب حينئذ.

فهذه شرائط من يُقبل مرسَلُه.

وأمّا الخبر الذي يرسله: فيشترط لصحة مخرجه وقبوله أن يعضده ما يدل على صحته، وأن له أصلاً.

والعاضد له أشياء:

أحدها: وهو أقواها أن يسنده الحفاظ المأمونون من وجه آخر عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-؛ بمعنى ذلك المرسَل، فيكون دليلاً على صحة المرسَل، وأن الذي أرسل عنه كان ثقة.

والثاني: أن يوجد مرسَل آخر موافق له عن عالم يروي عن غير من يروي عنه المرسِل الأول...

والثالث: أن لا يوجد شيء مرفوع يوافقه لا مسند ولا مرسَل، لكن يوجد ما يوافقه من كلام بعض الصحابة، فيُستدل به على أن للمرسَل أصلاً صحيحاً أيضاً؛ لأن الظاهر أن الصحابي إنما أخذ قوله عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.

والرابع: أن لا يوجد للمرسَل ما يوافقه، لا مسند ولا مرسل، ولا قول صحابي، لكنه يوجد عامة أهل العلم على القول به، فإنه يدل على أن له أصلاً، وأنهم مستندون في قولهم إلى ذلك الأصل.

فإذا وجدت هذه الشرائط، دلت على صحة المرسل، وأن له أصلاً، وقُبِلَ واحتُجَّ به، ومع هذا فهو دون المتصل في الحجة ...اهـ.

ثم ذكر ما ذكره الشافعي من احتمالات ضعف المرسل حتى مع توفر هذه الشروط.

وأما بخصوص الخبر الذي ذكرته: فهو واهٍ مُنكر، ولا يَتقوَّى بوروده من طريقين مرسلين.

فأما الطريق الأول: فقد روي من مرسل الحسن البصري: أخرجه ابن سعد في «الطبقات الكبرى»: قال: أخبرنا عبد الوهّاب بن عَطاء، أخبرني عَوف عن الحسن قال: لمّا قُبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ائتمر أصحابه فقالوا: ترَبّصوا بنبيّكم -صلى الله عليه وسلم- لعلّه عُرج به. قال: فتربّصوا به حتَّى ربا بطنه، فقال أبو بكر: مَن كان يعبد محمّدًا، فإنّ محمّدًا قد مات، ومَن كان يعبد الله، فإنّ الله حيّ لا يموت. اهـ.

والحسن البصري ليس من كبار التابعين.

وهو ممن يروي عن غير الثقات، فمراسيله من أضعف المراسيل وأوهاها عند كثير من الأئمة.

جاء في شرح علل الترمذي لابن رجب: قال الإمام أحمد في رواية الفضل بن زياد: ليس في المرسلات أضعف من مراسيل الحسن وعطاء بن أبي رباح، فانهما يأخذان عن كل.
وقال ابن سعد: قالوا: ما أرسل الحسن ولم يسنده فليس بحجة. اهـ.

وقد تقدم في شروط تقوية المرسل أن يكون المُرسِل من كبار التابعين، وأن يكون ممن لا يروي عن غير الثقات.

وهذان الشراطان لا يتوفران في مرسل الحسن البصري.

وأما الطريق الآخر: فعن عبد الله البهي، أخرجه ابن عدي في الكامل من طريق وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله البهي: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما مات لم يدفن ‌حتى ‌ربا ‌بطنه وأنتنت خنصراه.

وعبد الله البهي: مختلف في حاله إذا أسند الخبر، فكيف إذا أرسله؟

فقد قال ابن أبي حاتم في "العلل"، عن أبيه: لا يحتج بالبهي، وهو مضطرب الحديث. اهـ.

وقال ابن حجر في التقريب: صدوق، يخطئ. اهـ.

وذكره ابن حبان في "الثقات".

فمرسل عبد الله البهي لا يُقوِّي مرسل الحسن.

ثم عدا عن انتفاء شروط تقوية المرسل عن هذين المرسلين، فإن متن الخبر منكر شديد النكارة. فظاهره فيه غض من مقام النبوة.

ونكارة المتن موجبة لضعف الحديث -لو كان إسناده متصلا ظاهره الصحة-، فكيف والخبر مرسل؟

وقد حدث الإمام وكيع بن الجراح بمكة بهذا الخبر المنكر، وكاد تحديثه به أن يكون سببا لإزهاق روحه، وقد أنكر عليه أهل العلم تحديثه بهذا الحديث المنكر.

جاء في «سير أعلام النبلاء»: قال ابن خشرم: فلما حدث وكيع بهذا بمكة، اجتمعت قريش، وأرادوا صلب وكيع، ونصبوا خشبة لصلبه، فجاء سفيان بن عيينة، فقال لهم: الله الله، هذا فقيه أهل العراق، وابن فقيهه، وهذا حديث معروف.
قال سفيان: ولم أكن سمعته، إلا أني أردت تخليص وكيع...
قال الذهبي: فهذه زلة عالم، فما لوكيع ولرواية هذا الخبر المنكر، المنقطع الإسناد! كادت نفسه أن تذهب غلطا.

والقائمون عليه معذورون، بل مأجورون، فإنهم تخيلوا من إشاعة هذا الخبر المردود، غَضًّا ما لمنصب النبوة، وهو فى بادئ الرأى يوهم ذلك. اهـ.

فالخلاصة: أن هذا الخبر المنكر مردود، بنكارة متنه وضعف أسانيده، ولا يتقوى بروايته من وجهين مرسلين، ولا يستوفي شروط تقوية المرسل.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني