74 - فصل .  
وأما تفصيل مذهب  أبي حنيفة  وأهل  العراق   رحمهم الله تعالى ، فقال  أبو حنيفة     : لا نأخذ منهم شيئا إلا أن يكونوا يأخذون منا ، فنأخذ منهم ذلك على وجه القصاص .  
وحجة هذا القول حديث  أبي مجلز  أنه قال :  قيل  لعمر     : كيف نأخذ من أهل الحرب إذا قدموا علينا ؟ قال : كيف يأخذون منكم إذا دخلتم إليهم ؟ قالوا : العشر ، قال : فكذلك خذوا منهم     .  
وقال  زياد بن حدير     : كنا لا نعشر مسلما ولا معاهدا ، قيل : من كنتم تعشرون ؟ قال : كفار أهل الحرب ، نأخذ منهم كما يأخذون منا [ وقال      [ ص: 363 ] غيره من أهل  العراق      : ] ولا يؤخذ منهم شيء حتى يبلغ مائتي درهم .  
قالوا : فإن  قال : علي دين أو ليس هذا المال لي ، وحلف عليه   صدق على ذلك ولم يؤخذ منه شيء .  
قالوا : وإنما يؤخذ منه الصامت والمتاع والرقيق ، وما أشبهه من الأموال التي تبقى في أيدي الناس ، فإذا مر بالفواكه وأشباهها التي لا بقاء لها فإنه لا يؤخذ فيها منه شيء .  
قالوا : ولا يؤخذ منه في المال الواحد أكثر من مرة واحدة في السنة ، وإن مر به مرارا .  
وكان   سفيان الثوري  يقول : لا يؤخذ منه شيء حتى يبلغ مائة درهم ، فإذا بلغ مائة درهم أخذ منه نصف العشر فيه ، وبمقدار النصاب وبقدر الواجب .  
قال  أبو عبيد  بعد أن حكى بعض هذه الأقوال : " وكل هذه الأقوال لها وجوه :  
 [ ص: 364 ] فأما الذين قالوا من أهل  العراق      : إنه لا يؤخذ من الذمي شيء حتى يبلغ ماله مائتي درهم فإنهم شبهوه بالصدقة ، ذهبوا إلى أن  عمر  رضي الله عنه حين سمى ما يجب في أموال الناس التي تدار للتجارات ، إنما قال : يؤخذ من المسلمين كذا ، ومن أهل الذمة كذا ، ومن أهل الحرب كذا ، ولم يوقت في أدنى مبلغ المال وقتا .  
ثم قالوا : رأيناه قد ضم أموال أهل الذمة إلى أموال المسلمين في حق واحد ، فحملنا وقت أموالهم على الزكاة ، إذ كان لأداء الزكاة حد محدود ، وهو المائتان فأخذنا أهل الذمة بها وألقينا ما دون ذلك .  
وأما  مالك  وأهل  الحجاز   فقالوا :  الذي يؤخذ من أهل الذمة ليس بزكاة فينظر فيه إلى مبلغها وإلى حدها ، إنما هو فيء بمنزلة الجزية   التي تؤخذ من رءوسهم ألا ترى أنها تجب على الغني والفقير على قدر طاقتهم ، من غير أن يكون لأداء ما يملك أحدهم وقت يوقت ، وعلى ذلك صولحوا ؟  
قالوا : فكذلك ما مروا به من التجارات يؤخذ من قليلها وكثيرها .  
وأما  سفيان  في توقيته بالمائة فإنه لما رأى أن الموظف على أهل الذمة هو الضعف مما على المسلمين ، في كل مائتين عشرة ، جعل فرع المال      [ ص: 365 ] على حسب أصله فأوجب عليهم في المائة خمسة كما يجب عليهم في المائتين عشرة ليوافق الحكم بعضه بعضا ، وأسقط ما دون المائة كما عفي للمسلمين عما دون المائتين ، فصارت المائة للذمي كالمائتين للمسلمين ، فهذا رأيه في أهل الذمة .  
ولست أدري ما وقت في أهل الحرب غير أنه ينبغي أن يكون في قوله : إذ مر أحدكم بخمسين درهما وجب عليه فيها العشر .  
قال  أبو عبيد     : وقول  سفيان  هو عندي أعدل هذه الأقوال وأشبهها بالذي أراد   عمر بن الخطاب  رضي الله عنه ، مع  أن   عمر بن عبد العزيز  رحمه الله تعالى قد فسر ذلك في كتابه إلى  زريق بن حيان  الذي ذكرناه أنه كتب إليه : " من مر بك من أهل الذمة فخذ مما يديرون في التجارات من كل عشرين دينارا دينارا ، فما نقص فبحساب ذلك حتى يبلغ عشرة دنانير فإن نقصت ثلث دينار فلا تأخذ منه شيئا     " .  
قال  أبو عبيد     : فعشرة دنانير إنما هي معدولة بمائة درهم في الزكاة ، وهي عندنا تأويل حديث   عمر بن الخطاب  رضي الله عنه مع تفسير   عمر بن عبد العزيز  ، ولا يوجد في هذا مفسر هو أعلم منه وهو قول  سفيان     .  
قال : فهذا ما جاء في توقيت أداء ما تجب فيه الحقوق من أموال أهل الذمة والحرب .  
 [ ص: 366 ] وأما قولهم في  الذمي إذا ادعى أن عليه دينا   ، واختيار  سفيان  وأهل  العراق   أن يقبل منه ، وقول  مالك  وأهل  الحجاز   إنه لا يقبل منه وإن أقام البينة على دعواه فإن الذي أختار من ذلك قول بين القولين .  
فأقول : إن كان له شهود من المسلمين على دينه قبل ذلك منه ولم يكن على ماله سبيل ; لأن الدين حق قد وجب لربه عليه وهو أولى به من الجزية ; لأنها وإن كانت حقا للمسلمين في عنقه فإنه ليس يحصي أهل هذا الحق ، فيقدر على قسم مال الذمي بينهم وبين هذا الغريم بالحصص ولا يعلم كم يؤخذ منه ، وقد علم حق هذا الغريم فلهذا جعلناه أولى بالدين من غيره وإن لم يعلم دين هذا الذمي إلا بقوله كان مردودا غير مقبول منه ; لأنه حق قد لزمه للمسلمين فهو يريد إبطاله بالدعوى ، وليس بمؤتمن في ذلك كما يؤتمن المسلمون على زكواتهم في الصامت إنما هذا فيء وحكمه غير حكم الصدقة .  
وأما اختلافهم في ممره على العاشر مرارا في السنة ، وقول أهل  العراق   وسفيان  فيه : إنه لا يؤخذ منه إلا مرة واحدة ، وقول  مالك  وأهل  الحجاز      : إنه يؤخذ منه كلما مر وإن كان ذلك في السنة مرارا - إذا كان اختلافه من مصر إلى آخر سواه فإن الرواية في هذا للإمامين   عمر بن الخطاب   وعمر بن عبد العزيز  فقد كفينا النظر فيه .  
 [ ص: 367 ] حدثنا   محمد بن كثير  عن   حماد بن سلمة  عن   عطاء بن السائب  عن  زياد بن حدير     : أن أباه كان يأخذ من نصراني في كل سنة مرتين ، فأتى   عمر بن الخطاب  رضي الله عنه فقال : يا أمير المؤمنين إن عاملك يأخذ مني العشر في السنة مرتين ، فقال  عمر  رضي الله عنه : ليس ذلك له ، إنما له في كل سنة مرة ، ثم أتاه فقال : هو الشيخ النصراني ، فقال  عمر  رضي الله عنه : وأنا الشيخ الحنيف ، قد كتبت لك في حاجتك     .  
حدثنا  يزيد  عن   جرير بن حازم  قال : قرأت  كتاب   عمر بن عبد العزيز  إلى   عدي بن أرطاة     : " أن تأخذ العشور ثم تكتب بما تأخذ منهم البراءة ، فلا تأخذ منهم من ذلك المال ولا من ربحه زكاة سنة واحدة ، وتأخذ من غير ذلك المال إن مر به     " .  
قال  أبو عبيد     : فحديث  عمر  هذا هو عدل بين قول أهل  الحجاز   وقول أهل  العراق      : أنه إن كان المال التالي هو الذي مر به بعينه في المرة الأولى لم يؤخذ منه تلك السنة ولا من ربحه أكثر من مرة ; لأن الحق الذي قد لزمه فيه قد قضاه ، فلا يقضى حق واحد من مال واحد مرتين ، وإن مر بمال سواه أخذ منه ، وإن جدد ذلك في كل عام مرارا ، إذ كان قد عاد إلى بلاده ثم أقبل بمال سوى المال الأول ; لأن المال الأول لا يجزئ عن      [ ص: 368 ] الآخر ولا يكون في هذا أحسن حالا من المسلم ، ألا ترى أنه لو مر بمال لم يؤد زكاته أخذت منه الصدقة ، ثم إن مر بمال آخر في عامه ذلك لم يكن أخذت منه الزكاة أنها تؤخذ منه من ماله هذا أيضا ; لأن الصدقة لا تكون قاضية عن المال الآخر ؟ فهذا قدر ما في أهل الذمة .  
فأما أهل الحرب فكلهم يقول : إذا انصرف إلى بلاده ثم عاد بماله ذلك أو مال سواه ، إن عليه العشر كلما مر به ; لأنه إذا دخل دار الحرب بطلت عنه أحكام المسلمين فإذا عاد إلى دار الإسلام كان مستأنفا للحكم كالذي لم يدخلها قط لا فرق بينهما ، وكلهم يقول : لا يصدق الحربي في شيء مما يدعي من دين عليه أو قوله : إن هذا المال ليس لي ، ولكن يؤخذ منه على كل حال إلا أن أهل  العراق   يقولون : يصدق الحربي في خصلة واحدة إذا مر بجوار ، فقال : هؤلاء أمهات أولادي ، قبل منه ، ولم يؤخذ منه عشر قيمتهن .  
قلت : فقد حكى  أبو عبيد  الاتفاق على أن  الحربي يعشر كلما دخل إلينا   ، وفرق بينه وبين الذمي ، والذي نص عليه الإمام  أحمد   والشافعي  أنه لا يؤخذ منه في السنة إلا مرة ، وبعض أصحاب  أحمد   والشافعي  قال : يؤخذ منه [ كلما ] دخل إلينا ، وقد تقدم نص  أحمد  في رواية  حنبل  وابنه  صالح     : أنه لا يؤخذ منهم في السنة إلا مرة واحتج بحديث  عمر     .  
 [ ص: 369 ] وأعدل الأقوال في ذلك قول   عمر بن عبد العزيز  ، وهو الذي اختاره  أبو عبيد  فإن المال الثاني له حكم نفسه لا يتعلق به حكم المال الأول ، كما لو أخذت الزكاة من مسلم لم ينسحب حكمها على ما لم يؤخذ من سائر أمواله ، ولا يؤخذ منه في السنة مرارا فهكذا مال المعاهد ، والله أعلم .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					