الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 5 ] تفسير سورة سبحان ، وهي مكية كلها

                                                                                                                                                                                                                                      (بسم الله الرحمن الرحيم)

                                                                                                                                                                                                                                      سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير  

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : سبحان الذي أسرى بعبده يعني : محمدا عليه السلام ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى يعني : بيت المقدس . لنريه من آياتنا يعني : ما أراه الله ليلة أسري به .

                                                                                                                                                                                                                                      قال محمد : معنى (أسري به) أي : سيره ؛ ولا يكون السرى إلا ليلا ، وفيه لغتان :  سرى وأسرى .

                                                                                                                                                                                                                                      يحيى : [عن حماد ] عن أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بينما أنا عند البيت ؛ إذ أتيت فشق النحر فاستخرج القلب ، فغسل بماء زمزم ، ثم أعيد مكانه ، ثم أتيت بدابة أبيض ، يقال له : البراق ؛ فوق الحمار ودون البغل مضطرب الأذنين ، يقع خطوه عند منتهى طرفه ، فحملت عليه ، فسار بي نحو بيت المقدس فإذا مناد ينادي عن يمين [ ص: 6 ] الطريق : يا محمد ، على رسلك اسلك ، يا محمد ، على رسلك اسلك ، فمضيت ولم أعرج عليه ، ثم إذا أنا بمناد ينادي عن يسار الطريق : يا محمد ، على رسلك اسلك ، يا محمد ، على رسلك اسلك ، يا محمد ، على رسلك اسلك ، يا محمد ، على رسلك اسلك ، فمضيت ولم أعرج عليه ، ثم إذا أنا بامرأة على قارعة الطريق -أحسبه قال : حسناء- (حملا) عليها من كل الحلي والزينة ، ناشرة شعرها رافعة يديها تقول : يا محمد ، على رسلك اسلك ، يا محمد ، على رسلك اسلك ، يا محمد ، على رسلك اسلك ، فمضيت ولم أعرج عليها ، حتى انتهيت إلى بيت المقدس ، فأوثقت الدابة بالحلقة التي توثق بها الأنبياء ، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ، ثم خرجت فأتاني جبريل بإناءين : إناء من لبن ، وإناء من خمر ، فتناولت اللبن ، فقال : أصبت الفطرة ، ثم قال لي جبريل : يا محمد ، ما رأيت في رحلتك هذه ؟ قال : سمعت مناديا ينادي عن يمين الطريق : يا محمد ، على رسلك اسلك يا محمد ، على رسلك اسلك ، يا محمد ، على رسلك اسلك قال : فما صنعت ، قلت : مضيت ولم أعرج عليه . قال : ذاك داعية اليهود ؛ أما إنك لو عرجت عليه ، لتهودت أمتك . قلت : ثم إذا أنا بمناد ينادي عن يسار الطريق : يا محمد ، على رسلك اسلك ، يا محمد ، على رسلك اسلك ، يا محمد ، على رسلك اسلك . قال : فما صنعت ؟ قال : مضيت ولم أعرج عليه . قال : ذاك داعية النصارى ؛ أما إنك لو عرجت عليه لتنصرت أمتك . قلت : ثم إذا أنا بامرأة -أحسبه قال : حسناء- (حملا) عليها من كل الحلي [ ص: 7 ] والزينة ، ناشرة شعرها رافعة يديها تقول : يا محمد ، على رسلك اسلك ، يا محمد ، على رسلك اسلك ، يا محمد ، على رسلك اسلك . قال : فما صنعت ؟ قلت : مضيت ولم أعرج عليها . قال : تلك الدنيا ؛ أما إنك لو عرجت عليها لملت إلى الدنيا . ثم أتينا بالمعراج ؛ فإذا أحسن ما خلق الله ،  فقعدنا فيه ، فعرج بنا حتى انتهينا إلى سماء الدنيا ، وعليها ملك يقال له : إسماعيل جنده سبعون ألف ملك ، جند كل ملك سبعون ألف ملك ، ثم تلا هذه الآية وما يعلم جنود ربك إلا هو . فاستفتح جبريل ، فقيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : أو قد بعث إليه ؟ قال : نعم . قالوا : مرحبا به ، ولنعم المجيء جاء . ففتح لنا فأتيت على آدم ، فقلت : يا جبريل ، من هذا ؟ قال : هذا أبوك آدم فرحب بي ، ودعا لي بخير . قال : وإذا الأرواح تعرض عليه ؛ فإذا مر به روح مؤمن ، قال : روح طيب وريح طيبة ، [وإذا] مر به روح كافر قال : روح خبيث وريح خبيثة قال : ثم مضيت فإذا أنا بأخاوين عليها لحوم منتنة ، وأخاوين عليها لحوم طيبة ، وإذا رجال ينهشون اللحوم المنتنة ، ويدعون اللحوم الطيبة ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الزناة ؛ يدعون الحلال ويتبعون الحرام .  قال : ثم مضيت فإذا برجال تفك ألحيتهم ، وآخرون يجيئون بالصخور من النار ، فيقذفونها في أفواههم ، فتخرج من أدبارهم . قال : قلت : من هؤلاء [ ص: 8 ] يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى  ظلما ، ثم تلا هذه الآية : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ، ثم مضيت فإذا أنا بقوم يقطع من لحومهم بدمائهم فيضفزونها ولهم جؤار ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الهمازون اللمازون ، ثم تلا هذه الآية : أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه وإذا أنا بنسوة معلقات بثديهن -وأحسبه قال : وإذا حيات وعقارب تنهشهن- فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الظؤرة يقتلن أولادهن . قال : ثم أتيت على سابلة آل فرعون حيث ينطلق جمع إلى النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ؛ فإذا رأوها قالوا : ربنا لا تقومن الساعة ؛ لما يرون من عذاب الله ، وإذا أنا برجال بطونهم كالبيوت يقومون فيقعون لظهورهم وبطونهم ، يأتي عليهم آل فرعون فيثردونهم بأرجلهم ثردا ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء أكلة الربا  ، ثم تلا هذه الآية : الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ، ثم عرج بنا حتى انتهينا إلى السماء الثانية ، فاستفتح جبريل . فقيل : من هذا ؟ فقال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : أو قد بعث إليه ؟ قال : نعم . قال : مرحبا به ، وإنه لنعم المجيء جاء . ففتح لنا ؛ فإذا أنا بابني الخالة : يحيى وعيسى ، [ ص: 9 ] فرحبا بي ودعوا لي بخير ، ثم عرج بنا حتى انتهينا إلى السماء الثالثة ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : أو قد بعث إليه ؟ قال : نعم . قالوا : مرحبا به ، ولنعم المجيء جاء ، ففتح لنا ؛ فإذا أنا بيوسف ، وإذا هو قد أعطي شطر الحسن . قال : فرحب بي ودعا لي بخير ، ثم عرج بنا حتى انتهينا إلى السماء الرابعة ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : أو قد بعث [إليه] قال : نعم . قالوا : مرحبا به ، ولنعم المجيء جاء . ففتح لنا ؛ فإذا أنا بإدريس ، فرحب بي ودعا لي بخير ، ثم عرج بنا حتى انتهينا إلى السماء الخامسة ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : أو قد بعث إليه ؟ قال : نعم . قالوا : مرحبا به ، ولنعم المجيء جاء . ففتح لنا ، فإذا أنا بهارون وإذا بلحيته شطران : شطر أبيض وشطر أسود ، فقلت : من هذا يا جبريل ؟ قال : هذا المحبب في قومه ، وأكثر من رأيت تبعا . قال : فرحب بي ودعا لي بخير . قال : ثم عرج بنا حتى انتهينا إلى السماء السادسة ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من هذا ؟ قال جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : أو قد بعث إليه ؟ قال : نعم ؟ قالوا : مرحبا به ، ولنعم المجيء جاء ، ففتح لنا ؛ فإذا أنا بموسى ، وإذا هو رجل أشعر . فقلت : من هذا يا جبريل ؟ قال : هذا أخوك موسى . قال : فرحب بي ودعا لي بخير ، قال : فمضيت ، فسمعت موسى يقول : يزعم بنو إسرائيل أني أكرم الخلق على الله ، وهذا أكرم على الله مني . ثم عرج بنا حتى انتهينا إلى السماء السابعة ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ [ ص: 10 ] قال : محمد ؟ قيل : أو قد بعث إليه ؟ قال : نعم . قالوا : مرحبا به ، ولنعم المجيء جاء ، ففتح لنا فأتيت على إبراهيم وإذا هو مستند إلى البيت المعمور   -ويدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة- قلت : من هذا يا جبريل ؟ قال : هذا أبوك إبراهيم . فسلمت عليه ؛ فرحب بي ودعا لي بخير . وإذا أمتي عنده شطران : شطر عليهم ثياب بيض ، وشطر عليهم ثياب رمد ؛ فدخل أصحاب الثياب البيض ، واحتبس الآخرون . فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ ! فقال : هؤلاء الذين خلطوا عملا صالحا وعملا سيئا ، وكل على خير ، ثم قيل : هذه منزلتك ومنزلة أمتك ، ثم تلا هذه الآية : إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين قال : ثم انتهينا إلى السدرة المنتهى  ؛ فإذا هي أحسن ما خلق الله ، وإذا الورقة من ورقها لو غطيت بها هذه الأمة لغطتهم ، ثم انفجر من تحتها السلسبيل ، ثم انفجر من السلسبيل نهران : نهر الرحمة ، ونهر الكوثر  ، فاغتسلت من نهر الرحمة فغفر الله لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر ، ثم أعطيت الكوثر فسلكته حتى إنه ليجري في الجنة ؛ فإذا طيرها كالبخت ؟ قال : ونظرت إلى جارية ، فقلت : لمن أنت يا جارية ؟ فقالت : لزيد بن حارثة . قال : ثم نظرت إلى النار ، (فإذا) عذاب ربي لشديد لا تقوم له الحجارة ولا الحديد ، قال : ثم رجعت إلى السدرة المنتهى ، فغشيها من أمر الله ما غشى ، ووقع على كل ورقة ملك ، وأيدها الله بأيده ، وفرض علي في كل يوم وليلة خمسين صلاة ، فرجعت إلى موسى ، فقال : ماذا فرض عليك ربك ؟ فقلت : فرض علي في كل يوم وليلة خمسين صلاة . فقال : ارجع إلى ربك فسله التخفيف ؛ [ ص: 11 ] فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم ، فرجعت إلى ربي فقلت : أي ربي حط عن أمتي ؛ فإن أمتي لا تطيق ذلك ، فحط عني خمسا . قال : فرجعت إلى موسى فقال لي : ما فرض عليك ربك ؟ قلت : حط عني خمسا ، فقال : ارجع إلى ربك فسله التخفيف ؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك ، قال : فرجعت إلى ربي فحط عني خمسا قال : فلم أزل أختلف ما بين ربي وموسى حتى قال : يا محمد ، لا تبديل ؛ إنه لا يبدل القول لدي ، هي خمس صلوات في كل يوم وليلة  ؛ لكل صلاة عشر ، فتلك خمسون صلاة ، قال : فرجعت إلى موسى فأخبرته ، فقال : ارجع إلى ربك فسله التخفيف . قلت : قد راجعته حتى استحييت " .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 12 ]

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية