الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
[ ص: 23 ] ( الثامن )

قال الجلال السيوطي في الأوائل : أول من تفوه بكلمة خبيثة في الاعتقاد الجعد بن درهم مؤدب مروان الحمار آخر ملوك بني أمية ، فقال بأن الله - تعالى - لا يتكلم . قال شيخ الإسلام في الرسالة الحموية الكبرى : أصل فشو البدع بعد القرون الثلاثة ، وإن كان قد نبغ أصلها في أواخر عصر التابعين . قال : ثم أصل مقالة التعطيل للصفات إنما هو مأخوذ من تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئين ، فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام هو الجعد بن درهم ، وأخذها عنه الجهم بن صفوان ، وأظهرها فنسبت إليه ، وقد قيل : إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان ، وأخذها أبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم . ( وأخذها طالوت ، عن لبيد بن الأعصم ) اليهودي الساحر ، الذي سحر النبي - صلى الله عليه وسلم ، وكان الجعد هذا فيما قيل من أهل حران ، وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة بقايا أهل دين النمرود والكنعانيين ، الذين صنف بعض الساحرين في سحرهم ، والنمرود هو ملك الصابئة ، كما أن كسرى ملك الفرس والمجوس ، فهو اسم جنس لا اسم علم . قال : وكانت الصابئة إذ ذاك إلا قليلا منهم على الشرك ، وعلماؤهم الفلاسفة ، وإن كان الصابئ قد لا يكون مشركا ، بل مؤمنا بالله واليوم الآخر كما قال - تعالى : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ، لكن كثيرا منهم أو أكثرهم كانوا كفارا ومشركين ، وكانوا يعبدون الكواكب ، ويبنون لها الهياكل .

ومذهب النفاة الذين يقولون ليس له صفات إلا سلبية أو إضافية أو مركبة منهما ، وهم الذين بعث سيدنا إبراهيم خليل الرحمن إليهم ، فيكون الجعد أخذ عقيدته عن الصابئة الفلاسفة ، وأخذها الجهم أيضا - فيما ذكره الإمام أحمد ، رضي الله عنه - عنه وعن غيره ، وكذلك أبو نصر الفارابي دخل حران ، وأخذ عن فلاسفة الصابئة تمام فلسفته ، لما ناظر السمنية بعض فلاسفة الهند ، وهم [ ص: 24 ] الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات ، فرجعت أسانيد الجهم إلى اليهود والصابئين والمشركين والفلاسفة الضالين ، إما من الصابئين ، وإما من المشركين ، فلما عربت الكتب الرومية زاد البلاء مع ما ألقى الشيطان في قلوب أهل الضلال ابتداء من جنس ما ألقاه في قلوب أشباههم .

ولما كان بعد المائة الثانية ، انتشرت هذه المقالة التي كان السلف يسمونها مقالة الجهمية ; بسبب بشر بن غياث المريسي وذويه . وكلام الأئمة مثل مالك ، وسفيان بن عيينة ، وابن المبارك ، وأبي يوسف ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، والفضيل بن عياض ، وبشر الحافي ، وغيرهم في هؤلاء في ذمهم وتضليلهم معروف ، وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب ( التأويلات ) ، وأبو عبد الله محمد بن عمر الرازي في كتابه الذي سماه ( تأسيس التقديس ) ، ويوجد كثير منها في كلام خلق غير هؤلاء ، مثل أبي علي الجبائي ، وعبد الجبار بن أحمد الهمذاني ، وأبي الحسين البصري وغيرهم ، هي بعينها التأويلات التي ذكرها بشر المريسي في كتابه ، كما يعلم ذلك من كتاب الرد الذي صنفه عثمان بن سعيد الدارمي أحد الأئمة المشاهير في زمن البخاري ، وسمى كتابه ( رد عثمان بن سعيد على الكاذب العنيد ، فيما افترى من التوحيد ) ، فإنه حكى هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي ، ثم ردها بكلام إذا طالعه العاقل الذكي ، يسلم حقيقة ما كان عليه السلف ، ويتبين له ظهور الحجة لطريقهم ، وضعف حجة من خالفهم .

وقد أجمع أئمة الهدى على ذم المريسية ، بل أكثرهم كفرهم وضللهم ، ويعلم بمطالعة كتاب ابن سعيد الدارمي أن هذا القول الساري في هؤلاء المتأخرين الذين تسموا بالخلف هو مذهب المريسية ، فلا حول ولا قوة إلا بالله ، فمذهب السلف حق بين باطلين ، وهدى بين ضلالين ، قال سيدنا الإمام أحمد - رضي الله عنه : لا يوصف الله - تعالى - إلا بما وصف به نفسه ، ووصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا نتجاوز القرآن والحديث . قال شيخ الإسلام ابن تيمية - روح الله روحه : مذهب السلف أنهم يصفون الله - تعالى - بما وصف به نفسه ، وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من [ ص: 25 ] غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل ، فالمعطل يعبد عدما ، والممثل يعبد صنما ، والمسلم يعبد إله الأرض والسماء . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية