الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( الصفة السادسة ) : ما أشار إليها بقوله ( و ) يجب له - عز وجل - ( علم ) ، أي يجب الجزم بأنه - تعالى - عالم بعلم واحد وجودي قديم باق ذاتي ، ينكشف به المعلومات عند تعلقه بها ، وإنما قلنا بأن علمه كسائر صفاته - تعالى - للرد على الحكماء القائلين بنفي الصفات وإثبات غايتها ، وللرد على المعتزلة [ ص: 146 ] القائلين بأنه يعلم بالذات ، لا بصفة زائدة عليها ، والدليل على أن صفاته زائدة على ذاته ورود النصوص بأنه - تعالى - عالم وحي وقادر ونحوها ، وكونه عالما يعلل بقيام العلم به في الشاهد ، فكذلك في الغائب ، وقس عليه سائر الصفات ، وأيضا فالعالم من قام به العلم ، والقادر من قامت به القدرة 0 فإن قيل : قياس الغائب على الشاهد فقهي ، فالجواب أنه ليس كذلك ، بل هو قياس في الجملة ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح العقيدة الأصفهانية ، عن الإمام الرازي في كتابه نهاية الحقول ، قال نفاة الصفات : إن ذات الله لو كانت موصوفة بصفات قائمة بها ، لكانت الحقيقة الإلهية مركبة من تلك الذات ، ومن تلك الصفات ، ولو كانت كذلك لكانت ممكنة ; لأن كل حقيقة مركبة فهي محتاجة إلى أجزائها ، وكل واحد من أجزائها غيرها ، فإن كل حقيقة مركبة فهي محتاجة إلى غيرها ، وذلك في حق الله - تعالى - محال ، فإذن يستحيل اتصاف ذاته بالصفات . وقال الرازي في الجواب عن هذا : قوله يلزم من إثبات الصفات وقوع الكثرة في الحقيقة الإلهية ، فتكون تلك الحقيقة ممكنة ، قلنا : إن عنيتم به احتياج تلك الحقيقة إلى خارجي فلا يلزم ؛ لاحتمال استناد تلك الصفات إلى الذات الواجبة لذاتها ، وإن عنيتم توقف الصفات في ثبوتها على الذات المخصوصة ، فذلك مما نلتزمه ، فأين المحال ؟ وأيضا فعندكم الإضافات صفات وجودية في الخارج ، فيلزمكم ما ألزمتمونا 0 ثم قال الرازي : ومما يبين فساد عقول الفلاسفة في قولهم : الشيء الواحد لا يكون مؤثرا وقابلا ، أنهم اتفقوا على أن الله عالم بالكليات . واتفقوا على أن العلم بالشيء عبارة عن حصول صورة مساوية للمعلوم في العالم ، واتفقوا على أن صور المعلومات مودعة في ذات الباري - تعالى - حتى إن ابن سينا قال : إن تلك الصورة إذا كانت داخلة في الذات بل كانت من لوازم الذات ، لم يلزم منها محال ، وإذا كان كذلك ، فذاته مؤثرة في تلك الصور وقابلة لها ، ومن كان ذلك مذهبا له ، كيف يمكنه إنكار الصفات ؟ .

قال : وبالجملة فلا فرق بين الصفاتية وبين الفلاسفة ، إلا أن الصفاتية يقولون : الصفات قائمة بالذات ، والفلاسفة يقولون : هذه الصور العقلية عوارض مقومة بالذات . فالذي يسميه الصفاتية صفة يسميه الفلسفي عارضا ، والذي يسميه الصفاتي قياما ، يسميه الفلسفي [ ص: 147 ] قواما أو مقوما ، فلا فرق إلا في العبارة .

وقد عارضه شيخ الإسلام في بعض مقالته ، وغض من بعض أدلته ، فمما اعترض عليه ما ذكره من اتفاق الفلاسفة على أن الله - تعالى - عالم بالكليات ، قال : هو اتفاق ابن سينا وأمثاله بخلاف أرسطو وأتباعه . وكذلك ما ذكره من قولهم بإثبات صور المعلومات لذاته ، وأنها عارضة لذاته ، وهو قول ابن سينا وموافقيه ، صرح بذلك في الإشارات ، وهو مما اعترف الفلاسفة بتناقض ابن سينا وأمثاله بذلك في مسألة توحيدهم ونفي الصفات ، حيث قالوا بنفي الصفات الثبوتية مطلقا ، ثم قالوا بإثبات صور وجودية علمية قائمة بذاته ، وهو تصريح بإثبات الأمور الوجودية القائمة بذاته . ثم إن شيخ الإسلام بعدما أفسد كلام الفلاسفة ، وبرهن على إفساده ، قال : ثم إن نظار المسلمين ردوا عليهم ، أما الصفاتية فإنهم يلتزمون إثبات الصفات ، وأما المعتزلة وإن نفوا الصفات ، فإنهم يعترفون بما يستلزم إثباتها ، فإنهم يثبتون كونه حيا عالما قادرا ، وهذا بعينه يستلزم إثبات الصفات .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية : منشأ الضلال في هذا الموضع أن مسمى واجب الوجود عبروا به عن عدة معان : أحدها الذي يكون موجودا بنفسه لا يفتقر إلى مبدع ، وهذا هو الذي يدل عليه وجود الممكنات ، والثاني الذي لا يكون له تعلق بغيره ، ولا ملازمة بينه وبين غيره ، ونفي الصفات إنما يكون على هذا التفسير لا على المعنى الأول . ثم بعد كلام كثير لابن تيمية - روح الله روحه - يرد به على الفلاسفة والمعتزلة وأضرابهم ، قال : ومن المعلوم لكل من عرف ما جاءت به الرسل أن التوحيد الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه ، لم يتضمن نفي صفات الله ، بل الكتب الإلهية مملوءة بإثبات صفات الله - تعالى ، قال : وكذلك العقل الصريح هو موافق لما جاءت به الكتب الإلهية من إثبات صفات الكمال لله - تعالى ، وقول هؤلاء بامتناع إثبات واجبين أو إلهين قديمين لفظ فيه إجمال وإبهام ، فإن أريد بذلك نفي إلهين واجبين أو إلهين قديمين ، فهذا حق لا ينازع فيه مسلم ، وكذلك إن عنوا نفي موجودين قائمين بأنفسهما واجبين أو قديمين ، فهذا حق ، فهم وإن كان هذا بعض مرادهم ، فلم يقتصروا عليه ، بل أرادوا نفي صفات الله الواجبة القديمة كعلمه وقدرته ، وحينئذ فنفي واجبين قديمين بهذا الاعتبار باطل ، وهم قد يقولون [ ص: 148 ] : لو كانت الصفة ثابتة ، لكانت مشاركة في أخص صفاته ، فتكون الصفة إلها ، ويدعون أن من أثبت الصفات فقد قال قول النصارى ، كما حكاه سيدنا الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة عنهم ، وهو موجود في كلامهم وهذا باطل ، ومن المعلوم أن صفة الموصوف المحدث الممكن إذا وافقته في كونها محدثة ممكنة ، لم يلزم أن تكون مماثلة له ، فليست صفة النبي نبيا ، ولا صفة الإنسان إنسانا ، فكيف يجب أن تكون صفة الإله إلها بل هو سبحانه إله واحد مختص بما لا يماثله فيه غيره من صفات الكمال ، منزه عن صفات النقص مطلقا ، وعن أن يكون له كفء في شيء من صفات الكمال . قال شيخ الإسلام : ومعرفة هذا من أهم الأمور ، فإن نفاة الصفات أدخلوا ذلك في مسمى التوحيد ، وجعلوا هذا من مسمى التوحيد ، فلبسوا بذلك على كثير من الناس ، إذ كان مسمى التوحيد في غاية العظمة عند أهل الملل ، فإذا ظن من لم يعرف حقائق الأمور أن ما ذكروه من النفي المستلزم للتعطيل هو من التوحيد الذي بعث الله به الرسول ، انقلب دين الإسلام في نفسه ، فجعل ما هو داخل في التعطيل الذي ذم الله به فرعون وغيره من الكافرين هو من التوحيد الذي بعث الله به المرسلين .

ولهذا كان علماء الحديث يصنفون الكتب في التوحيد ، يذكرون إثبات ما أثبته الله ورسوله من الأسماء والصفات مناقضة لهؤلاء النفاة ، فإن منفي الصفات لم يكن إلا معدوما ، فإن إثبات ذات بلا صفات أو وجود مطلق لا يتعين إنما يتحقق في الأذهان لا في الأعيان ، فمن لم يثبت لله الصفات لم يحقق عبادته له ، فلهذا وغيره كان الشرك بعبادة غير الله واقعا في نفاة الصفات .

التالي السابق


الخدمات العلمية