الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما المفرطون فالجبرية وهم الذين يزعمون أنه لا فعل للعبد أصلا ، وأن حركاته بمنزلة حركات الجمادات لا قدرة له عليها ، ولا قصد ولا اختيار ، فأثبتوا أن الله - تعالى - خالق كل شيء وربه ومليكه وهذا جيد ، لكن نفوا تأثير الأسباب ، والحكم في الجماد والحيوان ، وأنكروا أن يكون للحيوان من الإنسان أو غيره فعل يفعله بقدرته ، وحقيقة قول هؤلاء ترجيح أحد المتماثلين بلا مرجوح ، وحدوث الحوادث بلا سبب أصلا ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - : قابل القدرية قوم من العلماء ، والعباد وأهل الكلام ، والتصوف ، فأثبتوا القدر وآمنوا بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه ، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وهذا حسن ، لكنهم قصروا في الأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، وأفرطوا حتى غلا بهم الأمر إلى الإلحاد فصاروا من جنس المشركين الذين قالوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء قال : فأولئك القدرية ، وإن كانوا يشبهون المجوس من حيث إنهم أثبتوا فاعلا لما اعتقدوه شرا غير الله سبحانه ، فهؤلاء شابهوا المشركين الذين قالوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء فالمشركون شر من المجوس ; لأن المجوس يقرون بالجزية باتفاق المسلمين ، حتى ذهب بعض العلماء على حل نسائهم وطعامهم ، وأما المشركون فاتفقت الأمة على تحريم نكاح نسائهم . ومذهب الإمام أحمد في المشهور عنه ، والشافعي وغيرهما أنهم لا يقرون بالجزية ، فجمهور العلماء على أن مشركي العرب لا يقرون بالجزية ، والمقصود أن من أثبت القدر واحتج به على إبطال الأمر والنهي [ ص: 307 ] فهو شر ممن أثبت الأمر والنهي ، ولم يثبت القدر ، قال شيخ الإسلام : وهذا متفق عليه بين المسلمين وغيرهم من أهل الملل ، بل بين جميع الخلق ، فإن من احتج بالقدر وشهد الربوبية العامة لجميع المخلوقات ، ولم يفرق بين المأمور والمحظور ، والمؤمن والكافر ، وأهل الطاعة وأهل المعصية ؛ لم يؤمن بأحد من الرسل ، ولا شيء من الكتاب ، وكان عنده آدم وإبليس سواء ، ونوح وقومه سواء ، وموسى وفرعون سواء ، والسابقون الأولون وكفار مكة سواء ، وهذا الضلال قد كثر في كثير من أهل التصوف والزهد والعبادة ، ولا سيما إذا قرنوا به توحيد أهل الكلام المثبتين للقدر والمشيئة من غير إثبات المحبة والبغض والرضا والسخط ، الذين يقولون : التوحيد هو توحيد الربوبية ، وأما الإلهية فهي عندهم القدرة على الاختراع ، وعندهم مجرد الإقرار بأن الله رب كل شيء كاف ، لا يدعون التحقيق والفناء في التوحيد ، ويقولون : إنها نهاية المعرفة وإن صاحب هذا المقام لا يستحسن حسنة ، ولا يستقبح سيئة لشهوده الربوبية العامة والقيومية الشاملة ، وهذا الموضوع وقع فيه من الشيوخ الكبار من شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وغاية توحيد هؤلاء توحيد المشركين الذين كانوا يعبدون الأصنام الذين قال الله - تعالى - فيهم : قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون الآيات ونحوها ، فإن هؤلاء المشركين كانوا مقرين بأن الله خالق السماوات والأرض ، وبيده ملكوت كل شيء وكانوا مقرين بالقدر ، وهو معروف عنهم في النظم والنثر ، ومع هذا فلما لم يكونوا يعبدون الله وحده لا شريك له ، بل عبدوا غيره كانوا مشركين شرا من اليهود ، والنصارى ، فمن كان غاية توحيده ومنتهى تحقيقه هذا التوحيد كان توحيده من توحيد المشركين .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - روح الله روحه - وهذا المقام مقام وأي مقام زلت فيه أقدام وضلت فيه أفهام وبدل فيه دين الإسلام ، والتبس فيه أهل التوحيد بعبادة الأصنام على من يدعي نهاية التوحيد والتحقيق والمعرفة والكلام . ومعلوم عند كل من يؤمن بالله ورسوله أن المعتزلة والشيعة والقدرية المثبتين للأمر والنهي ، والوعد والوعيد - خير ممن يسوي بين المؤمن والكافر ، والبر والفاجر ، والنبي الصادق والمتنبي الكاذب ، وأولياء الله وأعدائه ، بل هم [ ص: 308 ] أحق من المعتزلة بالذم كما قال الإمام أبو محمد الخلال في كتاب السنة عن المروذي ، قال : قلت لأبي عبد الله ، يعني الإمام أحمد - رضي الله عنه - : رجل يقول عن الله أجبر العباد على المعاصي ، فقال : هكذا لا نقول ، وأنكر ذلك ، وقال : يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء . وأنكر سفيان الثوري أيضا على من قال جبر ، وقال : إن الله جبل العباد . وقال المروذي : أراد قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأشج عبد القيس ، يعني قوله : " إن فيك لخلقين يحبهما الله - تعالى - الحلم ، والأناة " فقال : أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليهما ؟ فقال : بل خلقين جبلت عليهما ، فقال : الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما " ، وذكر عن أبي إسحاق الفزاري قال : قال لي الأوزاعي : أتاني رجلان فسألاني عن القدر ، فأحببت أن آتيك بهما تسمع كلامهما وتجيبهما ، قلت : رحمك الله أنت أولى بالجواب ، قال : فأتاني الأوزاعي ومعه الرجلان فقال : تكلما ، فقالا : قدم علينا أناس من أهل القدر فنازعونا في القدر ونازعناهم حتى بلغ بنا وبهم الجواب إلى أن قلنا : إن الله - تعالى - جبرنا على ما نهانا عنه ، وحال بيننا وبين ما أمرنا به ، ورزقنا ما حرم علينا . فقلت : يا هؤلاء إن الذين أتوكم بما أتوكم به قد ابتدعوا بدعة ، وأحدثوا حدثا ، وإني أراكم قد خرجتم من البدعة إلى مثل ما خرجوا إليه . فقال - يعني الأوزاعي - : أصبت وأحسنت يا أبا إسحاق .

وذكر الخلال عن بقية بن الوليد قال : سألت الزبيدي والأوزاعي عن الجبر فقال الزبيدي : أمر الله أعظم وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل ، ولكن يقدر ويقضي ويقدر ويخلق ويجبل عبده على ما أحب . وقال الأوزاعي : ما أعرف للجبر أصلا من القرآن والسنة ، فأهاب أن أقول ذلك ، ولكن القضاء والقدر ، والخلق والجبل فهذا يعرف في القرآن والحديث . قال شيخ الإسلام : أدخل الخلال وغيره من علماء الإسلام القائلين بالجبر في مسمي القدرية ، وإن كانوا لا يحتجون بالقدر على المعاصي فكيف بمن يحتج به على المعاصي . ويدخل في ذم أهل العلم من يحتج بالقدر على إسقاط الأمر والنهي أعظم مما يدخل فيه المنكر له ، فإن ضلال هذا أعظم . قال شيخ الإسلام : ولهذا قرنت القدرية بالمرجئة في كلام غير واحد من السلف ، وروي في ذلك حديث مرفوع . قلت : وهو ما روي من حديث أبي سعيد [ ص: 309 ] الخدري - رضي الله عنه - مرفوعا " إن الله لعن أربعة على لسان سبعين نبيا - قلنا : من هم يا رسول الله ؟ قال : " القدرية والجهمية والمرجئة والروافض " الحديث . وفيه : قلنا : يا رسول الله ما المرجئة ، قال : الذين يقولون الإيمان قول بلا عمل . ذكره ابن الجوزي في الموضوعات . ومن حديث أنس - رضي الله عنه - مرفوعا : " المرجئة والقدرية والروافض والخوارج يسلب منهم ربع التوحيد فسيلقون الله كفارا خالدين مخلدين في النار " أخرجه ابن حبان ، وقال : فيه محمد بن يحيى بن رزين دجال يضع الحديث - وذكره ابن الجوزي في الموضوعات ; لأن كلا من هاتين البدعتين تفسد الأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، فالإرجاء يضعف الإيمان بالوعيد ، ويهون من أمر الفرائض والمحارم ، والقدري - يعني الجبري - إن احتج بالقدر كان عونا للمرجئ ، وإن كذب به - أي بالقدر ؛ كان هو والمرجئ متقابلين ، هذا يبالغ في التشديد حتى يجعل العبد لا يستعين بالله على فعل ما أمره به وترك ما نهى عنه ، وهؤلاء القدرية حقيقة ، وهذا - يعني المرجئ - يبالغ في الناحية الأخرى ، ومن المعلوم أن الله - تعالى - أرسل الرسل وأنزل الكتب لتصدق الرسل فيما أخبرت به ، وتطاع فيما أمرت كما قال - تعالى - : وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله وقال : من يطع الرسول فقد أطاع الله ، والإيمان بالقدر من تمام ذلك ، فمن أثبت القدر وجعل ذلك معارضا للأمر فقد أذهب الأصل . قال شيخ الإسلام : ومعلوم أنه من أسقط الأمر والنهي الذي بعث الله به رسله ، فهو كافر باتفاق المسلمين واليهود والنصارى ، بل هؤلاء قولهم متناقض ، لا يمكن أحدا منهم أن يعيش به ، ولا تقوم به مصلحة أحد من الخلق ، ولا يتعاشر عليه اثنان ، فإن القدر إن كان حجة فهو حجة لكل أحد ، وإلا فليس هو حجة لأحد ، فإذا ظلم الإنسان ظالم ، أو شتمه شاتم ، أو أخذ ماله ، وأفسد عياله فمتى لامه أو ذمه أو طلب عقوبته أبطل الاحتجاج بالقدر ، قال : ومن ادعى أن العارف إذا شهد الإرادة سقط عنه الأمر ؛ كان هذا من الكفر الذي لا يرضاه أحد ، بل ذلك ممتنع في العقل محال في الشرع . وقال تلميذه المحقق ابن القيم في كتابه " شرح منازل السائرين " : مشهد أصحاب الجبر : وهم الذين يشهدون أنهم مجبرون على أفعالهم ، وأنها واقعة بغير قدرتهم [ ص: 310 ] واختيارهم ، بل لا يشهدون أنها أفعالهم البتة ، ويقولون : إن أحدهم غير فاعل في الحقيقة ولا قادر ، وأن الفاعل فيه غيره ، والمحرك له سواه ، وأنه آلة محضة ، وحركاته بمنزلة هبوب الرياح وحركات الأشجار ، وهؤلاء إذا أنكرت عليهم أفعالهم احتجوا بالقدر وحملوا ذنوبهم عليه ، وقد يغلون في ذلك حتى يروا أفعالهم كلها طاعات خيرها وشرها لموافقتها المشيئة والقدر ، ويقولون : كما أن مواجهة الأمر طاعة ، فموافقة المشيئة طاعة ، كما حكى الله - تعالى - عن المشركين إخوانهم أنهم جعلوا مشيئة الله لأفعالهم دليلا على أمره بها ورضاه بها ، قال : وهؤلاء شر من القدرية النفاة ، وأشد عداوة لله ومناقضة لكتبه ورسله ودينه ، حتى إن من هؤلاء من يعتذر عن إبليس - لعنه الله - ويتوجع له ، ويقيم عذره بجهده ، وينسب ربه إلى ظلمه بلسان الحال والقال ، ويقول : ما ذنبه وقد صان وجهه من السجود لغير خالقه ، وقد وافق حكمه ومشيئته فيه وإرادته منه ، ثم كيف يمكنه السجود ، وهو الذي منعه منه وحال بينه وبينه ، وهل كان في ترك سجوده لغيرك إلا محسنا ؟ ولكن :

إذا كان المحب قليل حظ فما حسناته إلا ذنوب



قال ابن القيم - رحمه الله - : وهؤلاء أعداء الله حقا ، وأولياء إبليس وأحبابه وإخوانه ، وإذا ناح منهم نائح على إبليس ، رأيت من البكاء والحنين أمرا عجبا ، ورأيت من تظلم الأقدار واتهام الجبار ما يبدو على فلتات ألسنتهم ، وصفحات وجوههم ، وتسمع من أحدهم من التظلم ، والتوجع ما تسمعه من الخصم المغلوب العاجز عن خصمه ، قال : فهؤلاء الذين قال فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية في تائيته :

وتدعى خصوم الله يوم معادهم     إلى النار طرا فرقة القدرية

يعني الجبرية ، وتقدم أن شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - قال : إن بدعة القدرية النفاة كانت في أواخر عصر الصحابة - رضي الله عنهم - ، قال : وأما بدعة هؤلاء المحتجين بالقدر فلم يعرف لها إمام ، ولم تعرف به طائفة من طوائف المسلمين معروفة ، قال : وإنما كثر ذلك في المتأخرين وسموا هذا حقيقة ، وجعلوا الحقيقة تعارض الشريعة ، ولم يميزوا بين الحقيقة الشرعية التي تتضمن تحقيق أحوال القلوب كالإخلاص ، والصبر ، وبين الحقيقة [ ص: 311 ] الكونية القدرية التي نؤمن بها ، ولا نحتج بها على المعاصي ، وفيهم من يقول أن العارف إذا فني في شهود توحيد الربوبية لم يستحسن حسنة ولم يستقبح سيئة . ويقول بعضهم : من شهد الإرادة سقط عنه الأمر ، والنهي . ويقول بعضهم : إن الخضر - عليه السلام - إنما سقط عنه التكليف ; لأنه شهد الإرادة - إلى غير ذلك من كلامهم ، والحاصل أن هذه المقالة من أشنع المقالات وأفظع البدع المحدثات ، والمحتج بقدر الله على معاصي الله - تعالى - زنديق ، وخارج عن سواء السبيل ، وعادم التحقيق ، ومارق من الدين ، ومباين التوفيق ، والباري جل شأنه قد أرسل الرسل قاطبة بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها ، وفي الاحتجاج على المعاصي بالقدر انعكاس ما جاءت به الرسل من تعظيم النهي والأمر . وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية