الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثني محمد بن صالح بن هانئ ، ثنا أبو سعيد محمد بن شاذان، ثنا أحمد بن سعيد الدارمي ، ثنا علي بن الحسين بن واقد ، حدثني أبي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب، قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة وآواهم الأنصار رمتهم العرب، عن قوس واحدة وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه فقالوا: ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله فنزلت وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات قرأ إلى قوله ومن كفر بعد ذلك يعني: بالنعمة فأولئك هم الفاسقون قال الشيخ: وفي مثل هذا المعنى قوله عز وجل والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون زعم بعض أهل التفسير أنها نزلت في المعذبين بمكة حين هاجروا إلى المدينة بعدما ظلموا فوعدهم الله في الدنيا حسنة، يعني بها الرزق الواسع فأعطاهم ذلك فروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا أعطى الرجل عطاءه من المهاجرين يقول: خذ بارك الله لك فيه هذا ما وعدك الله في الدنيا وما ادخر لك في الآخرة أفضل [ ص: 266 ] ، وحين امتنع أبو لهب من الإسلام وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أنزل الله عز وجل فيه تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب فمات أبو لهب على شركه وصلي النار بكفره وإنما أنزلت وأبو لهب حي فلم يمكنه مع حرصه على تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقض كلمته أن يظهر الإسلام ليشكك الناس في النبي عليه السلام وفيما أخبرهم من شأنه ولا يجوز أن تقع هذه الأمور على الاتفاق وتستمر على الصدق فلا يختلف شيء منها إلا أن يكون من قبل الله علام الغيوب.

وأما الصرفة والتعجيز مع توهم القدرة منهم على الإتيان بمثله فإنما يعلم ذلك بعدم المعارضة مع توفر الدواعي وشدة الحاجة إليه وذلك ما لا يجوز أن يشك فيه عاقل من أنهم لو كانوا قادرين عليه لبادروا إليه مع حرصهم على إبطال دعوته ونقض كلمته، ولما خرجوا في أمره إلى نصب القتال والتغرير بالأنفس وإتلاف الأموال ومفارقة الأهل والأوطان ولكان ذلك أيسر عليهم من مباشرة الخطوب ومقاساة هذه الشدائد والكروب فلما لم يفعلوه دل على عجزهم عن ذلك وسبيل هذا سبيل رجل عاقل اشتد به العطش وبحضرته ماء فجعل يتلوى من شدة الظمإ ولا يشرب الماء فلا يشك شاك أنه عاجز عن شربه أو ممنوع لسبب يعوقه عنه وأنه لم يتركه اختيارا مع توفر الدواعي له وشدة الحاجة منه إليه وهذا بين والحمد لله.

ومن دلائل صدقه أنه كان من عقلاء الرجال عند أهل زمانه  وقد قطع القول فيما أخبر عن ربه عز وجل بأنهم لا يأتون بمثل ما تحداهم به فقال: فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فلولا علمه بأن ذلك من عند علام الغيوب وأنه لا يقع فيما أخبر عنه خلاف وإلا لم يأذن له [ ص: 267 ] عقله في أن يقطع القول في شيء بأنه لا يكون وهو بعرض أن يكون.

وقد روينا في كتاب الدلائل من الأخبار التي وردت في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بعض ما نزل عليه على المشركين الذين كانوا من أهل الفصاحة والبلاغة وإقرارهم بإعجازه  ما يكشف عن جملة مما أشرنا إليها ونحن نقتصر هاهنا على ما أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الجبار ، ثنا يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق ، حدثني يزيد بن زياد، مولى بني هاشم، عن محمد بن كعب، قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة - وكان سيدا حليما - قال ذات يوم وهو جالس في نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده في المسجد: يا معشر قريش ألا أقوم إلى هذا فأكلمه فأعرض عليه أمورا لعله أن يقبل منها بعضها ويكف عنا؟ قالوا: بلى يا أبا الوليد، فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث فيما قال له عتبة وفيما عرض عليه من المال والملك وغير ذلك فلما فرغ عتبة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاسمع مني، قال: أفعل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون " فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها عليه فلما سمعها عتبة أنصت لها وألقى بيديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة فسجد فيها ثم قال: سمعت يا أبا الوليد؟ " قال: سمعت، قال: فأنت وذاك، فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني والله لقد سمعت قولا ما سمعت مثله قط والله ما هو بالشعر ولا [ ص: 268 ] السحر ولا الكهانة يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ .

وروينا هذا في حديث جابر بن عبد الله وفيه من الزيادة فيما حكى عتبة لأصحابه قال: فأجابني بشيء والله ما هو سحر ولا شعر ولا كهانة قرأ بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم حتى بلغ فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب .

وروينا عن عكرمة مرسلا في قصة الوليد بن المغيرة أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ علي فقرأ عليه إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون قال: أعد، فأعاد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وما يقول هذا بشر، وقال لقومه: والله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيدته مني ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه هذا الذي يقول شيئا من هذا والله إن لقوله الذي يقول حلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو وما يعلى وإنه ليحطم ما تحته .

[ ص: 269 ] وروينا في حديث أم سلمة في قصة دخول جعفر بن أبي طالب على النجاشي وقوله للنجاشي: بعث الله إلينا رسولا نعرف نسبه وصدقه وعفافه وتلا علينا تنزيلا لا يشبهه شيء غيره.

والأخبار الصحيحة المشهورة المروية من طرق شتى في معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة وهي في كتاب (دلائل النبوة) مكتوبة، والمعرفة بها لمن وقف عليها وأنعم النظر فيها حاصلة وإنما يذكر في هذا الكتاب من الدلائل أطرافها ومن الآيات والمعجزات ما يكون بلغة لمن لم يصل إلى معرفة جميعها فمنها ما .

التالي السابق


الخدمات العلمية