( وأما ) الذي يرجع إلى نفس القضاء ، فأنواع : منها أن يكون بحق  ، وهو الثابت عند الله - عز وجل - من حكم الحادثة ، إما قطعا بأن قام عليه دليل قطعي ، وهو النص المفسر من الكتاب الكريم ، أو الخبر المشهور والمتواتر ، والإجماع ، وإما ظاهرا ; بأن قام عليه دليل ظاهر ، يوجب علم غالب الرأي ، وأكثر الظن ، من ظواهر الكتاب الكريم والمتواتر والمشهور ، وخبر الواحد ، والقياس الشرعي ، وذلك في المسائل الاجتهادية التي اختلف فيها الفقهاء - رحمهم الله - والتي لا رواية في جوابها عن السلف ، بأن لم تكن واقعة ، حتى لو قضى بما قام الدليل القطعي على خلافه    - لم يجز ; لأنه قضاء بالباطل قطعا ، وكذا لو قضى في موضع الخلاف ، بما كان خارجا عن أقاويل الفقهاء  كلهم ، لم يجز ; لأن الحق لا يعدو أقاويلهم ، فالقضاء بما هو خارج عنها كلها يكون قضاء باطلا قطعا . 
وكذا لو قضى بالاجتهاد فيما فيه نص ظاهر  ، يخالفه من الكتاب الكريم والسنة - لم يجز قضاؤه ; لأن القياس في مقابلة النص باطل ، سواء كان النص قطعيا أو ظاهرا . 
وأما فيما لا نص فيه يخالفه ، ولا إجماع النقول ، لا يخلو ( إما ) أن كان القاضي من أهل الاجتهاد . 
( وإما ) أن لم يكن من أهل الاجتهاد ، فإن كان من أهل الاجتهاد ، وأفضى رأيه إلى شيء  يجب عليه العمل به ، وإن خالف رأي غيره ممن هو من أهل الاجتهاد والرأي ، ولا يجوز له أن يتبع رأي غيره ; لأن ما أدى إليه اجتهاده هو الحق عند الله - عز وجل - ظاهرا ، فكان غيره باطلا ظاهرا ، ; لأن الحق في المجتهدات واحد  ، والمجتهد يخطئ ويصيب - عند أهل السنة والجماعة    - في العقليات والشرعيات جميعا ، ولو أفضى رأيه إلى شيء . 
وهناك مجتهد آخر - أفقه منه - له رأي آخر ، فأراد أن يعمل برأيه ، من غير النظر فيه ، وترجح رأيه بكونه أفقه منه ، هل يسعه ذلك ؟ ذكر في كتاب الحدود ، أن عند  أبي حنيفة  يسعه ذلك ، وعندهما لا يسعه إلا أن يعمل برأي نفسه ، وذكر في بعض الروايات هذا الاختلاف على العكس ، فقال : على قول  أبي حنيفة    : لا يسعه ، وعلى قولهما : يسعه ، وهذا يرجع إلى أن كون أحد المجتهدين أفقه ، من غير النظر في رأيه ، هل يصلح مرجحا  ؟ من قال : يصلح مرجحا ، قال : يسعه ، ومن قال  [ ص: 5 ] لا يصلح ، قال : يسعه . 
( وجه ) قول من لا يرى الترجيح بكونه أفقه ، أن الترجيح يكون بالدليل ، وكونه أفقه ليس من جنس الدليل ، فلا يقع به الترجيح ، وهذا لا يصلح دليل الحكم بنفسه . 
( وجه ) قول من يرى به الترجيح ، أن هذا من جنس الدليل ; لأن كونه أفقه ، يدل على أن اجتهاده إقرار إلى الصواب ، فكان من جنس الدليل فيصلح للترجيح ، إن لم يصلح دليل الحكم بنفسه ، وأبدا يكون الترجيح بما لا يصلح دليل الحكم بنفسه ، ولهذا قيل : في حده زيادة لا يسقط بها التعارض حقيقة ; لما علم في أصول الفقه ، ولهذا أوجب  أبو حنيفة    - رحمه الله - تقليد الصحابة  الكرام رضي الله تعالى عنهم ورجحه على القياس ; لما أن قوله أقرب إلى إصابة الحق من قول القائس كذا هذا ، وإن أشكل عليه حكم الحادثة  استعمل رأيه في ذلك وعمل به ، والأفضل أن يشاور أهل الفقه في ذلك ، فإن اختلفوا في حكم الحادثة - نظر في ذلك ، فأخذ بما يؤدي إلى الحق ظاهرا ، وإن اتفقوا على رأي يخالف رأيه - عمل برأي نفسه أيضا ; لأن المجتهد مأمور بالعمل بما يؤدي إليه اجتهاده  ، فحرم عليه تقليد غيره ، لكن لا ينبغي أن يعجل بالقضاء ، ما لم يقض حق التأمل والاجتهاد ، وينكشف له وجه الحق ، فإذا ظهر له الحق باجتهاده ، قضى بما يؤدي إليه اجتهاده ، ولا يكونن خائفا في اجتهاده ، بعد ما بذل مجهوده لإصابة الحق ، فلا يقولن : إني أرى ، وإني أخاف ; لأن الخوف والشك والظن ، يمنع من إصابة الحق ، ويمنع من الاجتهاد ، فينبغي أن يكون جريئا جسورا على الاجتهاد ، بعد أن لم يقصر في طلب الحق ، حتى لو قضى مجازفا  لم يصح قضاؤه ، فيما بينه وبين الله سبحانه وتعالى ، وإن كان من أهل الاجتهاد ، إلا أنه إذا كان لا يدري - يحمل على أنه قضى برأيه ، ويحكم بالصحة حملا لأمر المسلم على الصحة والسداد ما أمكن ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم ، هذا إذا كان القاضي من أهل الاجتهاد . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					