ثم نقول :
nindex.php?page=treesubj&link=15924_15918للتعديل شرائط : بعضها يرجع إلى نفس العدل ، وبعضها يرجع إلى فعل
[ ص: 11 ] التعديل .
أما الأول فأنواع : منها العقل ، ومنها البلوغ ; ومنها الإسلام ، فلا يجوز تعديل المجنون والصبي والكافر ; لأن التزكية كانت تجري مجرى الشهادة ، فهؤلاء ليسوا من أهل الشهادة ، فلا يكونون من أهل التزكية ، وإن كانت من باب الإخبار عن الديانات فخبرهم في الديانات غير مقبول ; لأنه لا بد فيه من العدالة ، ولا عدالة لهؤلاء ، ومنها العدالة ; لأن من لا يكون عدلا في نفسه كيف يعدل غيره ؟ وأما العدد فليس بشرط الجواز عند
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=14954وأبي يوسف لكنه شرط الفضيلة والكمال ، وعند
nindex.php?page=showalam&ids=16908محمد شرط الجواز .
وجه قوله أن التزكية في معنى الشهادة ; لأنه خبر عن أمر غاب عن علم القاضي ، وهذا معنى الشهادة ، فيشترط لها نصاب الشهادة ، ولهما أن التزكية ليست بشهادة ، بدليل أنه لا يشترط فيه لفظ الشهادة ، فلا يلزم فيها العدد ، على أن شرط العدد في الشهادات ثبت نصا غير معقول المعنى فيما يشترط فيه لفظ الشهادة ، فلا يلزم مراعاة العدد فيما وراءه ، وعلى هذا الخلاف : العدد في الترجمان ، وحامل المنشور ، أنه ليس بشرط عندهما ، وعنده شرط ، وعلى هذا الخلاف : حرية المعدل ، وبصره ، وسلامته عن حد القذف ، أنه ليس بشرط عندهما ، فتصح تزكية الأعمى ، والعبد ، والمحدود في القذف ، وعند
nindex.php?page=showalam&ids=16908محمد شرط ، فلا تصح تزكيتهم ; لأن التزكية شهادة عنده ، فيشترط له ما يشترط لسائر الشهادات ، وعندهما ليست بشهادة ، فلا يراعى فيها شرائط الشهادة ; لما قلنا .
وأما الذكورة فليست بشرط لجواز التزكية ، فتجوز تزكية المرأة إذا كانت امرأة تخرج لحوائجها ، وتخالط الناس فتعرف أحوالهم ، وهذا ظاهر الرواية على أصلها ; لأن هذا من باب الإخبار عن الديانات ، وهي من أهله .
وأما عند
nindex.php?page=showalam&ids=16908محمد فتقبل تزكيتها فيما تقبل شهادتها ، فتصح تزكيتها فيما يقبل فيه شهادة رجل وامرأتين ، وتجوز تزكية الولد للوالد ، والوالد للولد ، وكل ذي رحم محرم منه ; لأنه لا حق للعدل في التعديل ، إنما هو حق المدعي فلا يوجب تهمة فيه ، وهذا يشكل على أصل
nindex.php?page=showalam&ids=16908محمد ; لأنه يجري التعديل مجرى الشهادة ، وشهادة الوالد لولده وعكسه لا تقبل ، ومنها أن لا يكون المزكى مشهودا عليه ، فإن كان لم تعتبر تزكيته ، ويجب السؤال ، وهذا تفريع على مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=14954أبي يوسف nindex.php?page=showalam&ids=16908ومحمد ، فيما سوى الحدود والقصاص ، بناء على أن المسألة ما وجبت حقا للمشهود عليه عندهما ، وإنما وجبت حقا للشرع .
وحق الشرع لا يتأدى بتعديله ; لأن في زعم المدعي والشهود أنه كاذب في إنكاره ، فلا يصح تعديله ، وعند
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة السؤال فيما سوى الحدود والقصاص حق المشهود عليه ، وحق الإنسان لا يطلب إلا بطلبه ، فما لم يطعن لا يتحقق الطلب ، فلا تجب المسألة وذكر في كتاب التزكية أن المشهود عليه إذا قال للشاهد : هو عدل لا يكتفى به ما لم ينضم إليه آخر ، على قول
nindex.php?page=showalam&ids=16908محمد ، فصار عن
nindex.php?page=showalam&ids=16908محمد روايتان : في رواية : لا تعتبر أصلا وفي رواية : يقبل تعديله إذا انضم إليه غيره .
وأما الثاني الذي يرجع إلى فعل التعديل - فهو أن يقول المعدل في التعديل : هو عدل جائز الشهادة ، حتى لو قال : هو عدل ، ولم يقل : جائز الشهادة لا يقبل تعديله ; لجواز أن يكون الإنسان عدلا في نفسه ، ولا تجوز شهادته ، كالمحدود في القذف إذا تاب وصلح ، والعبد الصالح ، وكذلك إذا قال في الرد : هو ليس بعدل لا يرد ما لم يقل : هو غير جائز الشهادة ; لأن غير العدل - وهو الفاسق - تجوز شهادته إذا تحرى القاضي الصدق في شهادته ، ولو قضى به القاضي ينفذ ، ومنها أن يسأل المعدل في السر أولا ، فإن وجده عدلا يعدله في العلانية أيضا ، ويجمع بين المزكى والشهود ، وبين المدعي ، والمدعى عليه ، في تعديل العلانية ، وإن لم يجده عدلا يقول للمدعي : زد في شهودك ولا يكشف عن حال المجروح سترا على المسلم ، ولا يكتفي بتعديل السر خوفا من الاحتيال والتزوير ، بأن يسمي غير العدل باسم العدل ، فكان الأدب هو التزكية في العلانية ، بعد التزكية في السر .
ولو اختلف المعدلان فعدله أحدهما ، وجرحه الآخر ، سأل القاضي غيرهما فإن عدله آخر أخذ بالتزكية ، وإن جرحه آخر أخذ بالجرح ; لأن خبر الاثنين أولى من خبر الواحد بالقبول ; لأنه حجة مطلقة ، وإن انضم إلى كل واحد منهما رجل آخر فعدله اثنان وجرحه اثنان عمل بالجرح ; لأن الجارح يعتمد حقيقة الحال ، والمعدل يبني الأمر على الظاهر ; لأن الظاهر من حال الإنسان أن يظهر الصلاح ، ويكتم الفسق ، فكان قبول قول الجارح أولى كذلك لو جرحه اثنان وعدله ثلاثة ، أو أربعة ، أو أكثر يعمل بقول الجارح ; لأن الترجيح لا يقع بكثرة العدد في باب الشهادة .
ومنها أن يجلس معه جماعة من أهل الفقه ، يشاورهم ويستعين برأيهم فيما يجهله
[ ص: 12 ] من الأحكام ، وقد ندب الله - سبحانه - رسوله عليه الصلاة والسلام إلى المشاورة بقوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=159وشاورهم في الأمر } مع انفتاح باب الوحي ، فغيره أولى وعن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=34369ما رأيت أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مشاورة لأصحابه منه } .
وروي أنه عليه الصلاة والسلام {
كان يقول لسيدنا أبي بكر ، وسيدنا nindex.php?page=showalam&ids=2عمر : رضي الله تعالى عنهما قولا ، فإني فيما لم يوح إلي مثلكما } ; ولأن المشاورة في طلب الحق من باب المجاهدة في الله - عز وجل - فيكون سببا للوصول إلى سبيل الرشاد ، قال الله - عز وجل - : {
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=69والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } .
وينبغي أن يجلس معه من يوثق بدينه وأمانته ; لئلا يضن بما عنده من الحق والصواب ، بل يهديه إلى ذلك إذا رفع إليه ، ولا ينبغي أن يشاورهم بحضرة الناس ; لأن ذلك يذهب بمهابة المجلس ، والناس يتهمونه بالجهل ، ولكن يقيم الناس عن المجلس ، ثم يشاورهم ، أو يكتب في رقعة فيدفع إليهم ، أو يكلمهم بلغة لا يفهمها الخصمان ، هذا إذا كان القاضي لا يدخله حصر بإجلاسهم عنده ، ولا يعجز عن الكلام بين أيديهم ، فإن كان لا يجلسهم ، فإن أشكل عليه شيء من أحكام الحوادث ; بعث إليهم وسألهم ، ومنه أن يكون له جلواز - وهو المسمى بصاحب المجلس في عرف ديارنا - يقوم على رأس القاضي ; لتهذيب المجلس ، وبيده سوط يؤدب به المنافق ، وينذر به المؤمن ، وقد روي {
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمسك بيده سوطا ، ينذر به المؤمن ، ويؤدب به المنافق } .
وكان سيدنا
nindex.php?page=showalam&ids=1أبو بكر يمسك سوطا ، وسيدنا
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر رضي الله عنه اتخذ درة ومنها أن يكون له أعوان ، يستحضرون الخصوم ، ويقومون بين يديه إجلالا له ; ليكون مجلسا مهيبا ، ويذعن المتمرد للحق ، وهذا في زماننا ، فأما في زمان الصحابة والتابعين رضي الله عنهم فما كان تقع الحاجة إلى أمثال ذلك ; لأنهم كانوا ينظرون إلى الأمراء والقضاة بعين التبجيل والتعظيم ، ويخافونهم وينقادون للحق بدون ذلك فقد روي أن سيدنا
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر رضي الله عنه كان يقضي في المسجد ، فإذا فرغ استلقى على قفاه وتوسد بالحصى ، وما كان ينقص ذلك من حرمته . وروي أنه لبس قميصا ، فازدادت أكمامه عن أصابعه ; فدعا بالشفرة فقطعهما ، وكان لا يكفهما أياما ، وكانت الأطراف متعلقة منها ، والناس يهابونه غاية المهابة .
فأما اليوم فقد فسد الزمان ، وتغير الناس ; فهان العلم وأهله ، فوقعت الحاجة إلى هذه التكليفات ; للتوسل إلى إحياء الحق ، وإنصاف المظلوم من الظالم ومنها أن يكون له ترجمان ; لجواز أن يحضر مجلس القضاء من لا يعرف القاضي لغته ، من المدعي ، والمدعى عليه ، والشهود ، والكلام في عدد الترجمان وصفاته على الاتفاق والاختلاف ، كالكلام في عدد المزكى وصفاته كما تقدم ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
ومنها أن يتخذ كاتبا ; لأنه يحتاج إلى محافظة الدعاوى والبينات والإقرارات لا يمكنه حفظها ، فلا بد من الكتابة ، وقد يشق عليه أن يكتب بنفسه فيحتاج إلى كاتب يستعين به ، وينبغي أن يكون عفيفا صالحا من أهل الشهادة ، وله معرفة بالفقه ، أما العفة والصلاح ; فلأن هذا من باب الأمانة ، والأمانة لا يؤديها إلا العفيف الصالح .
وأما أهلية الشهادة ; فلأن القاضي قد يحتاج إلى شهادته .
وأما معرفته بالفقه ; فلأنه يحتاج إلى الاختصار والحذف من كلام الخصمين ، والنقل من لغة ، ولا يقدر على ذلك إلا من له معرفة بالفقه ، فإن لم يكن فقيها كتب كلام الخصمين كما سمعه ، ولا يتصرف فيه بالزيادة والنقصان ; لئلا يوجب حقا لم يجب ، ولا يسقط حقا واجبا ; لأن تصرف غير الفقيه بتفسير الكلام لا يخلو عن ذلك .
وينبغي أن يقعد الكاتب حيث يرى ما يكتب وما يصنع ، فإن ذلك أقرب إلى الاحتياط ، ثم في عرف بلادنا يقدم كتابة الدعوى على الدعوى ، فيكتب دعوى المدعي ، ويترك موضع التاريخ بياضا ; لجواز أن تتخلف الدعوى عن وقت الكتابة ، ويترك موضع الجواب أيضا بياضا ; لأنه لا يدري أن المدعى عليه يقر أو ينكر ، ويكتب أسماء الشهود - إن كان للمدعي شهود - ويترك بين كل شاهدين بياضا ; ليكتب القاضي التاريخ ، وجواب الخصم ، وشهادة الشهود بنفسه ، ثم يطوي الكاتب الكتاب ويختمه ، ثم يكتب على ظهره : خصومة فلان بن فلان مع فلان بن فلان ، في شهر كذا ، في سنة كذا ، ويجعله في قمطرة ، وينبغي أن يجعل لخصومات كل شهر قمطرا على حدة ; ليكون أبصر بذلك ، ثم يكتب القاضي في ذلك الشهر أسماء الشهود بنفسه على بطاقة ، أو يستكتب الكتاب بين يديه ، فيبعثها إلى المعدل سرا - وهي المسماة بالمستورة في عرف ديارنا - والأفضل أن
[ ص: 13 ] يبعث على يدي عدلين ، وإن بعث على يدي عدل فهو على الاختلاف الذي ذكرنا ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
( ومنها ) أن يقدم الخصوم على مراتبهم في الحضور الأول فالأول ; لقوله عليه الصلاة والسلام : {
المباح لمن سبق إليه } وإن اشتبه عليه حالهم ; استعمل القرعة ، فقدم من خرجت قرعته ، إلا الغرباء إذا خاصموا بعض أهل المصر إليه ، أو خاصم بعضهم بعضا ، أو خاصمهم بعض أهل المصر ، فإنه يقدمهم في الخصومة على أهل المصر ; لما روي عن سيدنا
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر رضي الله عنه أنه قال : قدم الغريب ، فإنك إذا لم ترفع به رأسا ذهب وضاع حقه ، فتكون أنت الذي ضيعته ندب رضي الله عنه إلى تقديم الغريب ، ونبه على المعنى ; لأنه لا يمكنه الانتظار ، فكان تأخيره في الخصومة تضييعا لحقه ، إلا إذا كانوا كثيرا ، بحيث يشتغل القاضي عن أهل المصر فيخلطهم بأهل المصر ; لأن تقديمهم يضر بأهل المصر ، وكذا تقديم صاحب الشهود على غيره ; لأن إكرام الشهود واجب .
قال عليه الصلاة والسلام : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=1566أكرموا الشهود ، فإن الله يحي بهم الحقوق } وليس من الإكرام حبسهم على باب القاضي ، وهذا إذا كان واحدا ، فإن كانوا كثيرا أقرع بينهم وينبغي أن يقدم الرجال على حدة ، والنساء على حدة ; لما في الخلط من خوف الفتنة ، ولو رأى أن يجعل لهن يوما على حدة ; لكثرة الخصوم فعل ; لأن إفرادهن بيوم أستر لهن ومنها أن لا يتعب نفسه في طول الجلوس ; لأنه يحتاج إلى النظر في الحجج ، وبطول الجلوس يختل النظر فيها ، فلا ينبغي أن يفعل ذلك ، ويكفي الجلوس طرفي النهار ، وقدر ما لا يفتر عن النظر في الحجج ، وإذا تقدم إليه الخصمان هل يسأل المدعي عن دعواه ؟ ذكر في أدب القاضي أنه يسأل ، وذكر في الزيادات أنه لا يسأل وكذا إذا ادعى دعوى صحيحة هل يسأل المدعى عليه عن دعوى خصمه ؟ ذكر في آداب القاضي أنه يسأل ، وذكر في الزيادات أنه لا يسأل ، حتى يقول له المدعي : سله عن جواب دعواي .
وجه ما ذكر في الزيادات أن السؤال عن الدعوى إنشاء الخصومة ، والقاضي لا ينشئ الخصومة وجه ما ذكر في الكتاب أن من الجائز أن أحد الخصمين يلحقه مهابة مجلس القضاء ; فيعجز عن البيان دون سؤال القاضي ، فيسأل عن دعواه ومنها أن المدعي إذا أقام البينة ، فادعى المدعى عليه الدفع وقال : لي بينة حاضرة أمهله زمانا ; لقول سيدنا
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر رضي الله عنه في كتاب السياسة : اجعل للمدعي أمدا ينتهي إليه وأراد به مدعي الدفع ، ألا ترى أنه قال : وإن عجز استحللت عليه القضاء ; ولأنه لو لم يمهله ، وقضى ببينة المدعي ، ربما يحتاج إلى نقض قضائه ; لجواز أن يأتي بالدفع مؤخرا ، فهو من صيانة القضاء عن النقض ، ثم ذلك مفوض إلى رأي القاضي ، إن شاء أخر إلى آخر المجلس ، وإن شاء إلى الغد ، وإن شاء إلى بعد الغد ، ولا يزيد عليه ; لأن الحق قد توجه عليه ، فلا يسعه التأخير أكثر من ذلك ، وإن أدى ببينة غائبة لا يلتفت إليه ، بل يقضي للمدعي .
ثُمَّ نَقُولُ :
nindex.php?page=treesubj&link=15924_15918لِلتَّعْدِيلِ شَرَائِطُ : بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَدْلِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى فِعْلِ
[ ص: 11 ] التَّعْدِيلِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَنْوَاعٌ : مِنْهَا الْعَقْلُ ، وَمِنْهَا الْبُلُوغُ ; وَمِنْهَا الْإِسْلَامُ ، فَلَا يَجُوزُ تَعْدِيلُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ وَالْكَافِرِ ; لِأَنَّ التَّزْكِيَةَ كَانَتْ تَجْرِي مَجْرَى الشَّهَادَةِ ، فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ ، فَلَا يَكُونُونَ مِنْ أَهْلِ التَّزْكِيَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ عَنْ الدِّيَانَاتِ فَخَبَرُهُمْ فِي الدِّيَانَاتِ غَيْرُ مَقْبُولٍ ; لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْعَدَالَةِ ، وَلَا عَدَالَةَ لِهَؤُلَاءِ ، وَمِنْهَا الْعَدَالَةُ ; لِأَنَّ مَنْ لَا يَكُونُ عَدْلًا فِي نَفْسِهِ كَيْف يَعْدِلُ غَيْرَهُ ؟ وَأَمَّا الْعَدَدُ فَلَيْسَ بِشَرْطِ الْجَوَازِ عِنْدَ
nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبِي حَنِيفَةَ nindex.php?page=showalam&ids=14954وَأَبِي يُوسُفَ لَكِنَّهُ شَرَطُ الْفَضِيلَةِ وَالْكَمَالِ ، وَعِنْدَ
nindex.php?page=showalam&ids=16908مُحَمَّدٍ شَرْطُ الْجَوَازِ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ التَّزْكِيَةَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ ; لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ أَمْرٍ غَابَ عَنْ عِلْمِ الْقَاضِي ، وَهَذَا مَعْنَى الشَّهَادَةِ ، فَيُشْتَرَطُ لَهَا نِصَابُ الشَّهَادَةِ ، وَلَهُمَا أَنَّ التَّزْكِيَةَ لَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ ، فَلَا يَلْزَمُ فِيهَا الْعَدَدُ ، عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَاتِ ثَبَتَ نَصًّا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ ، فَلَا يَلْزَمُ مُرَاعَاةُ الْعَدَدِ فِيمَا وَرَاءَهُ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ : الْعَدَدُ فِي التُّرْجُمَانِ ، وَحَامِلِ الْمَنْشُورِ ، أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَهُ شَرْطٌ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ : حُرِّيَّةُ الْمُعَدِّلِ ، وَبَصَرُهُ ، وَسَلَامَتُهُ عَنْ حَدِّ الْقَذْفِ ، أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَهُمَا ، فَتَصِحُّ تَزْكِيَةُ الْأَعْمَى ، وَالْعَبْدِ ، وَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ ، وَعِنْدَ
nindex.php?page=showalam&ids=16908مُحَمَّدٍ شَرْطٌ ، فَلَا تَصِحُّ تَزْكِيَتُهُمْ ; لِأَنَّ التَّزْكِيَةَ شَهَادَةٌ عِنْدَهُ ، فَيُشْتَرَطُ لَهُ مَا يُشْتَرَطُ لِسَائِرِ الشَّهَادَاتِ ، وَعِنْدَهُمَا لَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ ، فَلَا يُرَاعَى فِيهَا شَرَائِطُ الشَّهَادَةِ ; لِمَا قُلْنَا .
وَأَمَّا الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ التَّزْكِيَةِ ، فَتَجُوزُ تَزْكِيَةُ الْمَرْأَةِ إذَا كَانَتْ امْرَأَةً تَخْرُجُ لِحَوَائِجِهَا ، وَتُخَالِطُ النَّاسَ فَتَعْرِفُ أَحْوَالَهُمْ ، وَهَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَلَى أَصْلِهَا ; لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ عَنْ الدِّيَانَاتِ ، وَهِيَ مِنْ أَهْلِهِ .
وَأَمَّا عِنْدَ
nindex.php?page=showalam&ids=16908مُحَمَّدٍ فَتُقْبَلُ تَزْكِيَتُهَا فِيمَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا ، فَتَصِحُّ تَزْكِيَتُهَا فِيمَا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، وَتَجُوزُ تَزْكِيَةُ الْوَلَدِ لِلْوَالِدِ ، وَالْوَالِدِ لِلْوَلَدِ ، وَكُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْعَدْلِ فِي التَّعْدِيلِ ، إنَّمَا هُوَ حَقُّ الْمُدَّعِي فَلَا يُوجِبُ تُهْمَةً فِيهِ ، وَهَذَا يُشْكِلُ عَلَى أَصْلِ
nindex.php?page=showalam&ids=16908مُحَمَّدٍ ; لِأَنَّهُ يُجْرِي التَّعْدِيلَ مَجْرَى الشَّهَادَةِ ، وَشَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَعَكْسُهُ لَا تُقْبَلُ ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمُزَكَّى مَشْهُودًا عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ لَمْ تُعْتَبَرْ تَزْكِيَتُهُ ، وَيَجِبُ السُّؤَالُ ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى مَذْهَبِ
nindex.php?page=showalam&ids=14954أَبِي يُوسُفَ nindex.php?page=showalam&ids=16908وَمُحَمَّدٍ ، فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَا وَجَبَتْ حَقًّا لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ حَقًّا لِلشَّرْعِ .
وَحَقُّ الشَّرْعِ لَا يَتَأَدَّى بِتَعْدِيلِهِ ; لِأَنَّ فِي زَعْمِ الْمُدَّعِي وَالشُّهُودِ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي إنْكَارِهِ ، فَلَا يَصِحُّ تَعْدِيلُهُ ، وَعِنْدَ
nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبِي حَنِيفَةَ السُّؤَالُ فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ حَقُّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، وَحَقُّ الْإِنْسَانِ لَا يُطْلَبُ إلَّا بِطَلَبِهِ ، فَمَا لَمْ يَطْعَنْ لَا يَتَحَقَّقُ الطَّلَبُ ، فَلَا تَجِبُ الْمَسْأَلَةُ وَذَكَرَ فِي كِتَابِ التَّزْكِيَةِ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ إذَا قَالَ لِلشَّاهِدِ : هُوَ عَدْلٌ لَا يُكْتَفَى بِهِ مَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ آخَرُ ، عَلَى قَوْلِ
nindex.php?page=showalam&ids=16908مُحَمَّدٍ ، فَصَارَ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=16908مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ : فِي رِوَايَةٍ : لَا تُعْتَبَرُ أَصْلًا وَفِي رِوَايَةٍ : يُقْبَلُ تَعْدِيلُهُ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ غَيْرُهُ .
وَأَمَّا الثَّانِي الَّذِي يَرْجِعُ إلَى فِعْلِ التَّعْدِيلِ - فَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْمُعَدِّلُ فِي التَّعْدِيلِ : هُوَ عَدْلٌ جَائِزُ الشَّهَادَةِ ، حَتَّى لَوْ قَالَ : هُوَ عَدْلٌ ، وَلَمْ يَقُلْ : جَائِزُ الشَّهَادَةِ لَا يُقْبَلُ تَعْدِيلُهُ ; لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ عَدْلًا فِي نَفْسِهِ ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ ، كَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ إذَا تَابَ وَصَلُحَ ، وَالْعَبْدُ الصَّالِحُ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ فِي الرَّدِّ : هُوَ لَيْسَ بِعَدْلٍ لَا يَرُدُّ مَا لَمْ يَقُلْ : هُوَ غَيْرُ جَائِزِ الشَّهَادَةِ ; لِأَنَّ غَيْرَ الْعَدْلِ - وَهُوَ الْفَاسِقُ - تَجُوزُ شَهَادَتُهُ إذَا تَحَرَّى الْقَاضِي الصِّدْقَ فِي شَهَادَتِهِ ، وَلَوْ قَضَى بِهِ الْقَاضِي يَنْفُذُ ، وَمِنْهَا أَنْ يَسْأَلَ الْمُعَدِّلَ فِي السِّرِّ أَوَّلًا ، فَإِنْ وَجَدَهُ عَدْلًا يَعْدِلُهُ فِي الْعَلَانِيَةِ أَيْضًا ، وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْمُزَكَّى وَالشُّهُودِ ، وَبَيْنَ الْمُدَّعِي ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فِي تَعْدِيلِ الْعَلَانِيَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ عَدْلًا يَقُولُ لِلْمُدَّعِي : زِدْ فِي شُهُودِكَ وَلَا يَكْشِفُ عَنْ حَالِ الْمَجْرُوحِ سَتْرًا عَلَى الْمُسْلِمِ ، وَلَا يَكْتَفِي بِتَعْدِيلِ السِّرِّ خَوْفًا مِنْ الِاحْتِيَالِ وَالتَّزْوِيرِ ، بِأَنْ يُسَمِّيَ غَيْرَ الْعَدْلِ بِاسْمِ الْعَدْلِ ، فَكَانَ الْأَدَبُ هُوَ التَّزْكِيَةُ فِي الْعَلَانِيَةِ ، بَعْدَ التَّزْكِيَةِ فِي السِّرِّ .
وَلَوْ اخْتَلَفَ الْمُعَدِّلَانِ فَعَدَّلَهُ أَحَدُهُمَا ، وَجَرَّحَهُ الْآخَرُ ، سَأَلَ الْقَاضِي غَيْرَهُمَا فَإِنْ عَدَّلَهُ آخَرُ أَخَذَ بِالتَّزْكِيَةِ ، وَإِنْ جَرَّحَهُ آخَرُ أَخَذَ بِالْجَرْحِ ; لِأَنَّ خَبَرَ الِاثْنَيْنِ أَوْلَى مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِالْقَبُولِ ; لِأَنَّهُ حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ ، وَإِنْ انْضَمَّ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَجُلٌ آخَرُ فَعَدَّلَهُ اثْنَانِ وَجَرَّحَهُ اثْنَانِ عَمِلَ بِالْجَرْحِ ; لِأَنَّ الْجَارِحَ يَعْتَمِدُ حَقِيقَةَ الْحَالِ ، وَالْمُعَدِّلُ يَبْنِي الْأَمْرَ عَلَى الظَّاهِرِ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْإِنْسَانِ أَنْ يُظْهِرَ الصَّلَاحَ ، وَيَكْتُمَ الْفِسْقَ ، فَكَانَ قَبُولُ قَوْلِ الْجَارِحِ أَوْلَى كَذَلِكَ لَوْ جَرَّحَهُ اثْنَانِ وَعَدَّلَهُ ثَلَاثَةٌ ، أَوْ أَرْبَعَةٌ ، أَوْ أَكْثَرُ يَعْمَلُ بِقَوْلِ الْجَارِحِ ; لِأَنَّ التَّرْجِيحَ لَا يَقَعُ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ .
وَمِنْهَا أَنْ يَجْلِسَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ ، يُشَاوِرُهُمْ وَيَسْتَعِينُ بِرَأْيِهِمْ فِيمَا يَجْهَلُهُ
[ ص: 12 ] مِنْ الْأَحْكَامِ ، وَقَدْ نَدَبَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى الْمُشَاوِرَةِ بِقَوْلِهِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=159وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } مَعَ انْفِتَاحِ بَابِ الْوَحْيِ ، فَغَيْرُهُ أَوْلَى وَعَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=34369مَا رَأَيْتُ أَحَدًا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مُشَاوَرَةً لِأَصْحَابِهِ مِنْهُ } .
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {
كَانَ يَقُولُ لِسَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ ، وَسَيِّدِنَا nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ : رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قُولَا ، فَإِنِّي فِيمَا لَمْ يُوحَ إلَيَّ مِثْلُكُمَا } ; وَلِأَنَّ الْمُشَاوَرَةَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ مِنْ بَابِ الْمُجَاهَدَةِ فِي اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَيَكُونُ سَبَبًا لِلْوُصُولِ إلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ ، قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : {
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=69وَاَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْلِسَ مَعَهُ مَنْ يُوثَقُ بِدِينِهِ وَأَمَانَتِهِ ; لِئَلَّا يَضِنَّ بِمَا عِنْدَهُ مِنْ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ ، بَلْ يَهْدِيهِ إلَى ذَلِكَ إذَا رُفِعَ إلَيْهِ ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُشَاوِرَهُمْ بِحَضْرَةِ النَّاسِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُذْهِبُ بِمَهَابَةِ الْمَجْلِسِ ، وَالنَّاسُ يَتَّهِمُونَهُ بِالْجَهْلِ ، وَلَكِنْ يُقِيمُ النَّاسَ عَنْ الْمَجْلِسِ ، ثُمَّ يُشَاوِرُهُمْ ، أَوْ يَكْتُبُ فِي رُقْعَةٍ فَيَدْفَعُ إلَيْهِمْ ، أَوْ يُكَلِّمُهُمْ بِلُغَةٍ لَا يَفْهَمُهَا الْخَصْمَانِ ، هَذَا إذَا كَانَ الْقَاضِي لَا يَدْخُلُهُ حَصْرٌ بِإِجْلَاسِهِمْ عِنْدَهُ ، وَلَا يَعْجِزُ عَنْ الْكَلَامِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ، فَإِنْ كَانَ لَا يُجْلِسُهُمْ ، فَإِنْ أُشْكِلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ ; بَعَثَ إلَيْهِمْ وَسَأَلَهُمْ ، وَمِنْهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ جِلْوَازٌ - وَهُوَ الْمُسَمَّى بِصَاحِبِ الْمَجْلِسِ فِي عُرْفِ دِيَارِنَا - يَقُومُ عَلَى رَأْسِ الْقَاضِي ; لِتَهْذِيبِ الْمَجْلِسِ ، وَبِيَدِهِ سَوْطٌ يُؤَدِّبُ بِهِ الْمُنَافِقَ ، وَيُنْذِرُ بِهِ الْمُؤْمِنَ ، وَقَدْ رُوِيَ {
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْسِكُ بِيَدِهِ سَوْطًا ، يُنْذِرُ بِهِ الْمُؤْمِنَ ، وَيُؤَدِّبُ بِهِ الْمُنَافِقَ } .
وَكَانَ سَيِّدُنَا
nindex.php?page=showalam&ids=1أَبُو بَكْرٍ يَمْسِكُ سَوْطًا ، وَسَيِّدُنَا
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اتَّخَذَ دِرَّةً وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَعْوَانٌ ، يَسْتَحْضِرُونَ الْخُصُومَ ، وَيَقُومُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ إجْلَالًا لَهُ ; لِيَكُونَ مَجْلِسًا مَهِيبًا ، وَيُذْعِنُ الْمُتَمَرِّدُ لِلْحَقِّ ، وَهَذَا فِي زَمَانِنَا ، فَأَمَّا فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَمَا كَانَ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْظُرُونَ إلَى الْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ بِعَيْنِ التَّبْجِيلِ وَالتَّعْظِيمِ ، وَيَخَافُونَهُمْ وَيَنْقَادُونَ لِلْحَقِّ بِدُونِ ذَلِكَ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقْضِي فِي الْمَسْجِدِ ، فَإِذَا فَرَغَ اسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ وَتَوَسَّدَ بِالْحَصَى ، وَمَا كَانَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ حُرْمَتِهِ . وَرُوِيَ أَنَّهُ لَبِسَ قَمِيصًا ، فَازْدَادَتْ أَكْمَامُهُ عَنْ أَصَابِعِهِ ; فَدَعَا بِالشَّفْرَةِ فَقَطَعَهُمَا ، وَكَانَ لَا يَكْفِهِمَا أَيَّامًا ، وَكَانَتْ الْأَطْرَافُ مُتَعَلِّقَةً مِنْهَا ، وَالنَّاسُ يَهَابُونَهُ غَايَةَ الْمَهَابَةِ .
فَأَمَّا الْيَوْمُ فَقَدْ فَسَدَ الزَّمَانُ ، وَتَغَيَّرَ النَّاسُ ; فَهَانَ الْعِلْمُ وَأَهْلُهُ ، فَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى هَذِهِ التَّكْلِيفَاتِ ; لِلتَّوَسُّلِ إلَى إحْيَاءِ الْحَقِّ ، وَإِنْصَافِ الْمَظْلُومِ مِنْ الظَّالِمِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ لَهُ تُرْجُمَانٌ ; لِجَوَازِ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْقَاضِي لُغَتَهُ ، مِنْ الْمُدَّعِي ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَالشُّهُودِ ، وَالْكَلَامُ فِي عَدَدِ التُّرْجُمَانِ وَصِفَاتِهِ عَلَى الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ ، كَالْكَلَامِ فِي عَدَدِ الْمُزَكَّى وَصِفَاتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَمِنْهَا أَنْ يَتَّخِذَ كَاتِبًا ; لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مُحَافَظَةِ الدَّعَاوَى وَالْبَيِّنَاتِ وَالْإِقْرَارَاتِ لَا يُمْكِنُهُ حِفْظُهَا ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْكِتَابَةِ ، وَقَدْ يَشُقُّ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجَ إلَى كَاتِبٍ يَسْتَعِينُ بِهِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَفِيفًا صَالِحًا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ ، وَلَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ ، أَمَّا الْعِفَّةُ وَالصَّلَاحُ ; فَلِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْأَمَانَةِ ، وَالْأَمَانَةُ لَا يُؤَدِّيهَا إلَّا الْعَفِيفُ الصَّالِحُ .
وَأَمَّا أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ ; فَلِأَنَّ الْقَاضِيَ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى شَهَادَتِهِ .
وَأَمَّا مَعْرِفَتُهُ بِالْفِقْهِ ; فَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الِاخْتِصَارِ وَالْحَذْفِ مِنْ كَلَامِ الْخَصْمَيْنِ ، وَالنَّقْلِ مِنْ لُغَةٍ ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا كَتَبَ كَلَامَ الْخَصْمَيْنِ كَمَا سَمِعَهُ ، وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ ; لِئَلَّا يُوجِبَ حَقًّا لَمْ يَجِبْ ، وَلَا يُسْقِطَ حَقًّا وَاجِبًا ; لِأَنَّ تَصَرُّفَ غَيْرِ الْفَقِيهِ بِتَفْسِيرِ الْكَلَامِ لَا يَخْلُو عَنْ ذَلِكَ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُقْعِدَ الْكَاتِبَ حَيْثُ يَرَى مَا يَكْتُبُ وَمَا يَصْنَعُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ ، ثُمَّ فِي عُرْفِ بِلَادِنَا يُقَدِّمُ كِتَابَةَ الدَّعْوَى عَلَى الدَّعْوَى ، فَيَكْتُبُ دَعْوَى الْمُدَّعِي ، وَيَتْرُكُ مَوْضِعَ التَّارِيخِ بَيَاضًا ; لِجَوَازِ أَنْ تَتَخَلَّفَ الدَّعْوَى عَنْ وَقْتِ الْكِتَابَةِ ، وَيَتْرُكُ مَوْضِعَ الْجَوَابِ أَيْضًا بَيَاضًا ; لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُقِرُّ أَوْ يُنْكِرُ ، وَيَكْتُبُ أَسْمَاءَ الشُّهُودِ - إنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي شُهُودٌ - وَيَتْرُكُ بَيْنَ كُلِّ شَاهِدَيْنِ بَيَاضًا ; لِيَكْتُبَ الْقَاضِي التَّارِيخَ ، وَجَوَابَ الْخَصْمِ ، وَشَهَادَةَ الشُّهُودِ بِنَفْسِهِ ، ثُمَّ يَطْوِي الْكَاتِبُ الْكِتَابَ وَيَخْتِمُهُ ، ثُمَّ يَكْتُبُ عَلَى ظَهْرِهِ : خُصُومَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ مَعَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ ، فِي شَهْرِ كَذَا ، فِي سَنَةِ كَذَا ، وَيَجْعَلُهُ فِي قِمْطَرَةٍ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ لِخُصُومَاتِ كُلِّ شَهْرٍ قِمْطَرًا عَلَى حِدَةٍ ; لِيَكُونَ أَبْصَرَ بِذَلِكَ ، ثُمَّ يَكْتُبُ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ أَسْمَاءَ الشُّهُودِ بِنَفْسِهِ عَلَى بِطَاقَةٍ ، أَوْ يَسْتَكْتِبُ الْكِتَابَ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَيَبْعَثُهَا إلَى الْمُعَدِّلِ سِرًّا - وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْمَسْتُورَةِ فِي عُرْفِ دِيَارِنَا - وَالْأَفْضَلُ أَنْ
[ ص: 13 ] يَبْعَثَ عَلَى يَدَيْ عَدْلَيْنِ ، وَإِنْ بَعَثَ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يُقَدِّمَ الْخُصُومَ عَلَى مَرَاتِبِهِمْ فِي الْحُضُورِ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : {
الْمُبَاحُ لِمَنْ سَبَقَ إلَيْهِ } وَإِنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ حَالُهُمْ ; اسْتَعْمَلَ الْقُرْعَةَ ، فَقَدَّمَ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ ، إلَّا الْغُرَبَاءَ إذَا خَاصَمُوا بَعْضَ أَهْلِ الْمِصْرِ إلَيْهِ ، أَوْ خَاصَمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، أَوْ خَاصَمَهُمْ بَعْضُ أَهْلِ الْمِصْرِ ، فَإِنَّهُ يُقَدِّمُهُمْ فِي الْخُصُومَةِ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ ; لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : قَدِّمْ الْغَرِيبَ ، فَإِنَّك إذَا لَمْ تَرْفَعْ بِهِ رَأْسًا ذَهَبَ وَضَاعَ حَقُّهُ ، فَتَكُونُ أَنْتَ الَّذِي ضَيَّعْتَهُ نَدَبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى تَقْدِيمِ الْغَرِيبِ ، وَنَبَّهَ عَلَى الْمَعْنَى ; لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِانْتِظَارُ ، فَكَانَ تَأْخِيرُهُ فِي الْخُصُومَةِ تَضْيِيعًا لِحَقِّهِ ، إلَّا إذَا كَانُوا كَثِيرًا ، بِحَيْثُ يَشْتَغِلُ الْقَاضِي عَنْ أَهْلِ الْمِصْرِ فَيَخْلِطُهُمْ بِأَهْلِ الْمِصْرِ ; لِأَنَّ تَقْدِيمَهُمْ يَضُرُّ بِأَهْلِ الْمِصْرِ ، وَكَذَا تَقْدِيمُ صَاحِبِ الشُّهُودِ عَلَى غَيْرِهِ ; لِأَنَّ إكْرَامَ الشُّهُودِ وَاجِبٌ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=1566أَكْرِمُوا الشُّهُودَ ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحْيِ بِهِمْ الْحُقُوقَ } وَلَيْسَ مِنْ الْإِكْرَامِ حَبْسُهُمْ عَلَى بَابِ الْقَاضِي ، وَهَذَا إذَا كَانَ وَاحِدًا ، فَإِنْ كَانُوا كَثِيرًا أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَ الرِّجَالَ عَلَى حِدَةٍ ، وَالنِّسَاءَ عَلَى حِدَةٍ ; لِمَا فِي الْخَلْطِ مِنْ خَوْفِ الْفِتْنَةِ ، وَلَوْ رَأَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُنَّ يَوْمًا عَلَى حِدَةٍ ; لِكَثْرَةِ الْخُصُومِ فَعَلَ ; لِأَنَّ إفْرَادَهُنَّ بِيَوْمٍ أَسْتَرُ لَهُنَّ وَمِنْهَا أَنْ لَا يُتْعِبَ نَفْسَهُ فِي طُولِ الْجُلُوسِ ; لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى النَّظَرِ فِي الْحُجَجِ ، وَبِطُولِ الْجُلُوسِ يَخْتَلُّ النَّظَرُ فِيهَا ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ ، وَيَكْفِي الْجُلُوسُ طَرَفَيْ النَّهَارِ ، وَقَدْرَ مَا لَا يَفْتُرُ عَنْ النَّظَرِ فِي الْحُجَجِ ، وَإِذَا تَقَدَّمَ إلَيْهِ الْخَصْمَانِ هَلْ يَسْأَلُ الْمُدَّعِي عَنْ دَعْوَاهُ ؟ ذَكَرَ فِي أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّهُ يَسْأَلُ ، وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُ وَكَذَا إذَا ادَّعَى دَعْوَى صَحِيحَةً هَلْ يَسْأَلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ دَعْوَى خَصْمِهِ ؟ ذَكَرَ فِي آدَابِ الْقَاضِي أَنَّهُ يَسْأَلُ ، وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُ ، حَتَّى يَقُولَ لَهُ الْمُدَّعِي : سَلْهُ عَنْ جَوَابِ دَعْوَايَ .
وَجْهُ مَا ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ السُّؤَالَ عَنْ الدَّعْوَى إنْشَاءُ الْخُصُومَةِ ، وَالْقَاضِي لَا يُنْشِئُ الْخُصُومَةَ وَجْهُ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ يَلْحَقُهُ مَهَابَةُ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ; فَيَعْجِزُ عَنْ الْبَيَانِ دُونَ سُؤَالِ الْقَاضِي ، فَيَسْأَلُ عَنْ دَعْوَاهُ وَمِنْهَا أَنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ ، فَادَّعَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الدَّفْعَ وَقَالَ : لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ أَمْهَلَهُ زَمَانًا ; لِقَوْلِ سَيِّدِنَا
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ السِّيَاسَةِ : اجْعَلْ لِلْمُدَّعِي أَمَدًا يَنْتَهِي إلَيْهِ وَأَرَادَ بِهِ مُدَّعِي الدَّفْعَ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ : وَإِنْ عَجَزَ اسْتَحْلَلْتَ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ ; وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُمْهِلْهُ ، وَقَضَى بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي ، رُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَى نَقْضِ قَضَائِهِ ; لِجَوَازِ أَنْ يَأْتِيَ بِالدَّفْعِ مُؤَخَّرًا ، فَهُوَ مِنْ صِيَانَةِ الْقَضَاءِ عَنْ النَّقْضِ ، ثُمَّ ذَلِكَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي ، إنْ شَاءَ أَخَّرَ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ ، وَإِنْ شَاءَ إلَى الْغَدِ ، وَإِنْ شَاءَ إلَى بَعْدِ الْغَدِ ، وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ ، فَلَا يَسَعُهُ التَّأْخِيرُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنْ أَدَّى بِبَيِّنَةٍ غَائِبَةٍ لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ ، بَلْ يَقْضِي لِلْمُدَّعِي .