( كتاب الوصايا )
الكلام في هذا الكتاب يقع في مواضع : في بيان
nindex.php?page=treesubj&link=14246_14249_14254_14297جواز الوصية ، وفي بيان ركن الوصية ، وفي بيان معنى الوصية ، وفي بيان شرائط ركن الوصية ، وفي بيان صفة عقد الوصية ، وفي بيان حكم الوصية ، وفي بيان ما تبطل به الوصية .
( أما ) الأول فالقياس يأبى جواز الوصية ; لأنها تمليك مضاف إلى ما بعد الموت والموت مزيل للملك فتقع الإضافة إلى زمان زوال الملك فلا يتصور وقوعه تمليكا فلا يصح ، إلا أنهم استحسنوا جوازها بالكتاب العزيز والسنة الكريمة والإجماع ، أما الكتاب العزيز فقوله تبارك وتعالى في آية المواريث : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=11يوصيكم الله في أولادكم } إلى قوله جلت عظمته {
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=12من بعد وصية يوصي بها أو دين } و {
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=12يوصى بها أو دين } و {
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=12يوصين بها أو دين } و {
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=12توصون بها أو دين } شرع الميراث مرتبا على الوصية فدل أن الوصية جائزة ، وقوله سبحانه وتعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=106يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض } ، ندبنا سبحانه وتعالى إلى الإشهاد على حال الوصية فدل أنها مشروعة .
( وأما ) السنة فما روي {
nindex.php?page=hadith&LINKID=6421أن nindex.php?page=showalam&ids=37سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وهو سعد بن مالك كان مريضا فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله : أوصي بجميع مالي ؟ فقال : لا ، فقال بثلثي مالي ؟ قال : لا ، قال : فبنصف مالي ؟ قال : لا قال : فبثلث مالي ؟ فقال عليه السلام الثلث ، والثلث كثير إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس } .
وروي : فقراء يتكففون الناس فقد جوز رسول الله صلى الله عليه وسلم الوصية بالثلث .
وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=11188إن الله - تبارك وتعالى - تصدق عليكم بثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة على أعمالكم فضعوه حيث شئتم } .
أخبر عليه الصلاة والسلام أن الله تبارك وتعالى جعلنا أخص بثلث أموالنا في آخر أعمارنا لنكسب به زيادة في أعمالنا .
والوصية تصرف في ثلث المال في آخر العمر زيادة في العمل فكانت مشروعة .
وأما الإجماع : فإن الأمة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا يوصون من غير إنكار من أحد ، فيكون إجماعا من الأمة على ذلك ، والقياس يترك بالكتاب العزيز ، والسنة الكريمة والإجماع مع ما أن ضربا من القياس يقتضي الجواز وهو أن الإنسان يحتاج إلى أن يكون ختم عمله بالقربة زيادة على القرب السابقة على ما نطق به الحديث أو تداركا لما فرط في حياته وذلك بالوصية ، وهذه العقود ما شرعت إلا لحوائج العباد ، فإذا مست حاجتهم إلى الوصية وجب القول بجوازها ، وبه تبين أن ملك الإنسان لا يزول بموته فيما يحتاج إليه ألا يرى : أنه بقي في قدر جهازه من الكفن ، والدفن وبقي في قدر الدين الذي هو مطالب به من جهة العباد لحاجة إلى ذلك كذلك ههنا ، وبعض الناس يقول : الوصية واجبة لما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=31442لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر له مال يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته عند رأسه } .
وفي نفس الحديث ما ينفي الوجوب ; لأن فيه تحريم ترك الإيصاء عند إرادة الإيصاء ، والواجب لا يقف وجوبه على إرادة من عليه كسائر الواجبات ، أو يحمل الحديث بما عليه من الفرائض ، والواجبات كالحج والزكاة ، والكفارات ، والوصية بها واجبة - عندنا - على أنه من أخبار الآحاد ورد فيما تعم به البلوى ، وأنه دليل على عدم الثبوت فلا يقبل ، وقيل إنها كانت واجبة في الابتداء للوالدين والأقربين المسلمين لقول الله - تبارك وتعالى - {
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=180كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين } ، ثم نسخت واختلف في الناسخ قال بعضهم : نسخها الحديث وهو ما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=12134أبي قلابة رضي الله عنه
[ ص: 331 ] عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=24642لا وصية لوارث }
والكتاب العزيز قد ينسخ بالسنة فإن قيل إنما ينسخ الكتاب عندكم بالسنة المتواترة ، وهذا من الآحاد ، فالجواب أن هذا الحديث متواتر غير أن التواتر ضربان : تواتر من حيث الرواية ، وهو أن يرويه جماعة لا يتصور تواطؤهم على الكذب ، وتواتر من حيث ظهور العمل به قرنا فقرنا من غير ظهور المنع والنكير عليهم في العمل به إلا أنهم ما رووه على التواتر ; لأن ظهور العمل به أغناهم عن روايته ، وقد ظهر العمل بهذا مع ظهور القول أيضا من الأئمة بالفتوى به بلا تنازع منهم ، ومثله يوجب العمل قطعا ، فيجوز نسخ الكتاب العزيز به كما يجوز بالمتواتر في الرواية إلا أنهما يفترقان من وجه ، وهو أن جاحد المتواتر في الرواية يكفر وجاحد المتواتر في ظهور العمل لا يكفر لمعنى عرف في أصول الفقه .
وقال بعض العلماء : نسختها آية المواريث ، وفي الحديث ما يدل عليه ، فإنه عليه الصلاة والسلام قال : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=11190إن الله تبارك وتعالى أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث } وقوله كل ذي حق حقه أي : كل حقه فقد أشار عليه الصلاة والسلام إلى أن الميراث الذي أعطي للوارث كل حقه ، فيدل على ارتفاع الوصية ، وتحول حقه من الوصية إلى الميراث وإذا تحول فلا يبقى له حق له في الوصية كالقبلة لما تحولت من
بيت المقدس إلى
الكعبة لم يبق
ببيت المقدس قبلة .
وكالدين إذا تحول من ذمة إلى ذمة لا يبقى في الذمة الأولى .
وكما في الحوالة الحقيقية .
وقال بعضهم : الوصية بقيت واجبة للوالدين والأقربين غير الوارثين بسبب الكفر والرق والآية ، وإن كانت عامة في المخرج لكن خص منها الوالدان والأقربون الوارثون بالحديث وهو قوله عليه الصلاة والسلام {
nindex.php?page=hadith&LINKID=24642لا وصية لوارث } فكان الحديث مخصصا لعموم الكتاب لا ناسخا والحمل على التخصيص أولى من الحمل على النسخ إلا أن عامة أهل التأويل قالوا : إن الوصية في الابتداء كانت فريضة للوالدين والأقربين المسلمين ، ثم نسخت بحديث
nindex.php?page=showalam&ids=12134أبي قلابة .
وقال بعضهم :
nindex.php?page=treesubj&link=14273_14251_14250إن كان عليه حج ، أو زكاة ، أو كفارة ، أو غير ذلك من الواجبات فالوصية بذلك واجبة ، وإن لم يكن فهي غير واجبة بل جائزة وبه أخذ الفقيه
nindex.php?page=showalam&ids=11903أبو الليث ( وأما ) الكلام في الاستحباب فقد قالوا : إن كان ماله قليلا ، وله ورثة فقراء فالأفضل أن لا يوصي لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث
nindex.php?page=showalam&ids=37سعد رضي الله تعالى عنه {
nindex.php?page=hadith&LINKID=12334 : إنك إن تركت ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس } ، ولأن الوصية في هذه الحالة تكون صلة بالأجانب ، والترك يكون صلة بالأقارب ، فكان أولى ، وإن كان ماله كثيرا ، فإن كانت ورثته فقراء فالأفضل أن يوصي بما دون الثلث ويترك المال لورثته ; لأن غنية الورثة تحصل بما زاد على الثلث إذا كان المال كثيرا ولا تحصل عند قلته .
nindex.php?page=treesubj&link=14287_14255والوصية بالخمس أفضل من الوصية بالربع ، والوصية بالربع أفضل من الوصية بالثلث لما روي عن سيدنا
nindex.php?page=showalam&ids=8علي رضي الله عنه أنه قال : لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع ، ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث ، ومن أوصى بالثلث لم يترك شيئا أي : لم يترك من حقه شيئا لورثته ; لأن الثلث حقه ، فإذا أوصى بالثلث ، فلم يترك من حقه شيئا لهم .
وروي عن سيدنا
nindex.php?page=showalam&ids=1أبي بكر ، وسيدنا
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر ، وسيدنا
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان رضي الله تعالى عنهم أنهم قالوا : الخمس اقتصاد ، والربع جهد ، والثلث حيف ، وإن كان ورثته أغنياء ، فالأفضل الوصية بالثلث ، ثم الوصية بالثلث لأقاربه الذين لا يرثون أفضل من الوصية به للأجانب ، والوصية للقريب المعادي أفضل من الوصية للقريب الموالي ; لأن الصدقة على المعادي تكون أقرب إلى الإخلاص وأبعد عن الرياء ، ونظير قوله عليه الصلاة والسلام لذلك الذي اشترى عبدا ، فأعتقه ، فإن شكرك فهو خير له وشر لك ، وإن كفرك ، فهو شر له وخير لك ، ولأن الوصية للمعادي سبب لزوال العداوة ، وصيانة للقرابة عن القطيعة فكانت أولى هذا إذا استوى الفريقان في الفضل ، والدين والحاجة ، وأحدهما معادي ( فأما ) إذا كان الموالي منهما أعفهما ، وأصلحهما وأحوجهما ، فالوصية له أفضل ; لأن الوصية له تقع إعانة على طاعة الله تبارك وتعالى .
( كِتَابُ الْوَصَايَا )
الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ
nindex.php?page=treesubj&link=14246_14249_14254_14297جَوَازِ الْوَصِيَّةِ ، وَفِي بَيَانِ رُكْنِ الْوَصِيَّةِ ، وَفِي بَيَانِ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ رُكْنِ الْوَصِيَّةِ ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ عَقْدِ الْوَصِيَّةِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْوَصِيَّةِ ، وَفِي بَيَانِ مَا تَبْطُلُ بِهِ الْوَصِيَّةُ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَ الْوَصِيَّةِ ; لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْمَوْتُ مُزِيلٌ لَلْمِلْكِ فَتَقَعُ الْإِضَافَةُ إلَى زَمَانِ زَوَالِ الْمِلْكِ فَلَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ تَمْلِيكًا فَلَا يَصِحُّ ، إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا جَوَازَهَا بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ الْكَرِيمَةِ وَالْإِجْمَاعِ ، أَمَّا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فَقَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=11يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } إلَى قَوْلِهِ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ {
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=12مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } وَ {
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=12يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } وَ {
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=12يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ } وَ {
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=12تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ } شُرِعَ الْمِيرَاثُ مُرَتَّبًا عَلَى الْوَصِيَّةِ فَدَلَّ أَنَّ الْوَصِيَّةَ جَائِزَةٌ ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=106يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ } ، نَدَبَنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَى الْإِشْهَادِ عَلَى حَالِ الْوَصِيَّةِ فَدَلَّ أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ .
( وَأَمَّا ) السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=6421أَنَّ nindex.php?page=showalam&ids=37سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ كَانَ مَرِيضًا فَعَادَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : أُوصِي بِجَمِيعِ مَالِي ؟ فَقَالَ : لَا ، فَقَالَ بِثُلُثَيْ مَالِي ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : فَبِنِصْفِ مَالِي ؟ قَالَ : لَا قَالَ : فَبِثُلُثِ مَالِي ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الثُّلُثُ ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ } .
وَرُوِيَ : فُقَرَاءُ يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فَقَدْ جَوَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ .
وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=11188إنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً عَلَى أَعْمَالِكُمْ فَضَعُوهُ حَيْثُ شِئْتُمْ } .
أَخْبَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَعَلَنَا أَخَصَّ بِثُلُثِ أَمْوَالِنَا فِي آخِرِ أَعْمَارِنَا لِنَكْسِبَ بِهِ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِنَا .
وَالْوَصِيَّةُ تَصَرُّفٌ فِي ثُلُثِ الْمَالِ فِي آخِرِ الْعُمْرِ زِيَادَةٌ فِي الْعَمَلِ فَكَانَتْ مَشْرُوعَةً .
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ : فَإِنَّ الْأُمَّةَ مِنْ لَدُنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا يُوصُونَ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ مِنْ أَحَدٍ ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْ الْأُمَّةِ عَلَى ذَلِكَ ، وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ ، وَالسُّنَّةِ الْكَرِيمَةِ وَالْإِجْمَاعِ مَعَ مَا أَنَّ ضَرْبًا مِنْ الْقِيَاسِ يَقْتَضِي الْجَوَازَ وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَكُونَ خَتَمَ عَمَلَهُ بِالْقُرْبَةِ زِيَادَةً عَلَى الْقُرَبِ السَّابِقَةِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ أَوْ تَدَارُكًا لِمَا فَرَّطَ فِي حَيَاتِهِ وَذَلِكَ بِالْوَصِيَّةِ ، وَهَذِهِ الْعُقُودُ مَا شُرِعَتْ إلَّا لِحَوَائِجِ الْعِبَادِ ، فَإِذَا مَسَّتْ حَاجَتُهُمْ إلَى الْوَصِيَّةِ وَجَبَ الْقَوْلُ بِجَوَازِهَا ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مِلْكَ الْإِنْسَانِ لَا يَزُولُ بِمَوْتِهِ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَلَا يَرَى : أَنَّهُ بَقِيَ فِي قَدْرِ جِهَازِهِ مِنْ الْكَفَنِ ، وَالدَّفْنِ وَبَقِيَ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ الَّذِي هُوَ مُطَالَبٌ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ لِحَاجَةٍ إلَى ذَلِكَ كَذَلِكَ هَهُنَا ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ : الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةٌ لَمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=31442لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لَهُ مَالٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَ رَأْسِهِ } .
وَفِي نَفْسِ الْحَدِيثِ مَا يَنْفِي الْوُجُوبَ ; لِأَنَّ فِيهِ تَحْرِيمَ تَرْكِ الْإِيصَاءِ عِنْدَ إرَادَةِ الْإِيصَاءِ ، وَالْوَاجِبُ لَا يَقِفُ وُجُوبُهُ عَلَى إرَادَةِ مَنْ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ ، أَوْ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْفَرَائِضِ ، وَالْوَاجِبَاتِ كَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ ، وَالْكَفَّارَاتِ ، وَالْوَصِيَّةُ بِهَا وَاجِبَةٌ - عِنْدَنَا - عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَرَدَ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى ، وَأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الثُّبُوتِ فَلَا يُقْبَلُ ، وَقِيلَ إنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً فِي الِابْتِدَاءِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=180كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } ، ثُمَّ نُسِخَتْ وَاخْتُلِفَ فِي النَّاسِخِ قَالَ بَعْضُهُمْ : نَسَخَهَا الْحَدِيثُ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=12134أَبِي قِلَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
[ ص: 331 ] عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=24642لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ }
وَالْكِتَابُ الْعَزِيزُ قَدْ يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا يُنْسَخُ الْكِتَابَ عِنْدَكُمْ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ ، وَهَذَا مِنْ الْآحَادِ ، فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُتَوَاتِرٌ غَيْرَ أَنَّ التَّوَاتُرَ ضَرْبَانِ : تَوَاتُرٌ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةِ ، وَهُوَ أَنْ يَرْوِيَهُ جَمَاعَةٌ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ ، وَتَوَاتُرٌ مِنْ حَيْثُ ظُهُورِ الْعَمَلِ بِهِ قَرْنًا فَقَرْنًا مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ الْمَنْعِ وَالنَّكِيرُ عَلَيْهِمْ فِي الْعَمَلِ بِهِ إلَّا أَنَّهُمْ مَا رَوَوْهُ عَلَى التَّوَاتُرِ ; لِأَنَّ ظُهُورَ الْعَمَلِ بِهِ أَغْنَاهُمْ عَنْ رِوَايَتِهِ ، وَقَدْ ظَهَرَ الْعَمَلُ بِهَذَا مَعَ ظُهُورِ الْقَوْلِ أَيْضًا مِنْ الْأَئِمَّةِ بِالْفَتْوَى بِهِ بِلَا تَنَازُعٍ مِنْهُمْ ، وَمِثْلُهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ قَطْعًا ، فَيَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ بِهِ كَمَا يَجُوزُ بِالْمُتَوَاتِرِ فِي الرِّوَايَةِ إلَّا أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهٍ ، وَهُوَ أَنَّ جَاحِدَ الْمُتَوَاتِرِ فِي الرِّوَايَةِ يُكَفَّرُ وَجَاحِدَ الْمُتَوَاتِرِ فِي ظُهُورِ الْعَمَلِ لَا يُكَفَّرُ لِمَعْنَى عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : نَسَخَتْهَا آيَةُ الْمَوَارِيثِ ، وَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=11190إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } وَقَوْلُهُ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ أَيْ : كُلَّ حَقِّهِ فَقَدْ أَشَارَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى أَنَّ الْمِيرَاثَ الَّذِي أُعْطِيَ لِلْوَارِثِ كُلُّ حَقِّهِ ، فَيَدُلُّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْوَصِيَّةِ ، وَتَحَوُّلِ حَقِّهِ مِنْ الْوَصِيَّةِ إلَى الْمِيرَاثِ وَإِذَا تَحَوَّلَ فَلَا يَبْقَى لَهُ حَقٌّ لَهُ فِي الْوَصِيَّةِ كَالْقِبْلَةِ لَمَّا تَحَوَّلَتْ مِنْ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَى
الْكَعْبَةِ لَمْ يَبْقَ
بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ قِبْلَةً .
وَكَالدَّيْنِ إذَا تَحَوَّلَ مِنْ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ لَا يَبْقَى فِي الذِّمَّةِ الْأُولَى .
وَكَمَا فِي الْحَوَالَةِ الْحَقِيقِيَّةِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْوَصِيَّةُ بَقِيَتْ وَاجِبَةً لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ غَيْرِ الْوَارِثِينَ بِسَبَبِ الْكُفْرِ وَالرِّقِّ وَالْآيَةُ ، وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً فِي الْمَخْرَجِ لَكِنْ خُصَّ مِنْهَا الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ الْوَارِثُونَ بِالْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=24642لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } فَكَانَ الْحَدِيثُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ الْكِتَابِ لَا نَاسِخًا وَالْحَمْلُ عَلَى التَّخْصِيصِ أَوْلَى مِنْ الْحَمْلِ عَلَى النَّسْخِ إلَّا أَنَّ عَامَّةَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ قَالُوا : إنَّ الْوَصِيَّةَ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَتْ فَرِيضَةً لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ الْمُسْلِمِينَ ، ثُمَّ نُسِخَتْ بِحَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=12134أَبِي قِلَابَةَ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ :
nindex.php?page=treesubj&link=14273_14251_14250إنْ كَانَ عَلَيْهِ حَجٌّ ، أَوْ زَكَاةٌ ، أَوْ كَفَّارَةٌ ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ فَالْوَصِيَّةُ بِذَلِكَ وَاجِبَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ بَلْ جَائِزَةٌ وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ
nindex.php?page=showalam&ids=11903أَبُو اللَّيْثِ ( وَأَمَّا ) الْكَلَامُ فِي الِاسْتِحْبَابِ فَقَدْ قَالُوا : إنْ كَانَ مَالُهُ قَلِيلًا ، وَلَهُ وَرَثَةٌ فُقَرَاءُ فَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يُوصِيَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=37سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=12334 : إنَّكَ إنْ تَرَكْتَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ } ، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَكُونُ صِلَةً بِالْأَجَانِبِ ، وَالتَّرْكَ يَكُونُ صِلَةً بِالْأَقَارِبِ ، فَكَانَ أَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ كَثِيرًا ، فَإِنْ كَانَتْ وَرَثَتُهُ فُقَرَاءَ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُوصِيَ بِمَا دُونَ الثُّلُثِ وَيَتْرُكَ الْمَالَ لِوَرَثَتِهِ ; لِأَنَّ غُنْيَةً الْوَرَثَةِ تَحْصُلُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إذَا كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا وَلَا تَحْصُلُ عِنْدَ قِلَّتِهِ .
nindex.php?page=treesubj&link=14287_14255وَالْوَصِيَّةُ بِالْخُمُسِ أَفْضَلُ مِنْ الْوَصِيَّةِ بِالرُّبْعِ ، وَالْوَصِيَّةُ بِالرُّبُعِ أَفْضَلُ مِنْ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا
nindex.php?page=showalam&ids=8عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَأَنْ أُوصِيَ بِالْخُمُسِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُوصِيَ بِالرُّبُعِ ، وَلَأَنْ أُوصِيَ بِالرُّبُعِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُوصِيَ بِالثُّلُثِ ، وَمَنْ أَوْصَى بِالثُّلُثِ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا أَيْ : لَمْ يَتْرُكْ مِنْ حَقِّهِ شَيْئًا لِوَرَثَتِهِ ; لِأَنَّ الثُّلُثَ حَقُّهُ ، فَإِذَا أَوْصَى بِالثُّلُثِ ، فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْ حَقِّهِ شَيْئًا لَهُمْ .
وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا
nindex.php?page=showalam&ids=1أَبِي بَكْرٍ ، وَسَيِّدِنَا
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ ، وَسَيِّدِنَا
nindex.php?page=showalam&ids=7عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : الْخُمُسُ اقْتِصَادٌ ، وَالرُّبُعُ جَهْدٌ ، وَالثُّلُثُ حَيْفٌ ، وَإِنْ كَانَ وَرَثَتُهُ أَغْنِيَاءَ ، فَالْأَفْضَلُ الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ ، ثُمَّ الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ لِأَقَارِبِهِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ أَفْضَلُ مِنْ الْوَصِيَّةِ بِهِ لِلْأَجَانِبِ ، وَالْوَصِيَّةُ لِلْقَرِيبِ الْمُعَادِي أَفْضَلُ مِنْ الْوَصِيَّةِ لِلْقَرِيبِ الْمُوَالِي ; لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْمُعَادِي تَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْإِخْلَاصِ وَأَبْعَدَ عَنْ الرِّيَاءِ ، وَنَظِيرُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِذَلِكَ الَّذِي اشْتَرَى عَبْدًا ، فَأَعْتَقَهُ ، فَإِنْ شَكَرَكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَشَرٌّ لَكَ ، وَإِنْ كَفَرَكَ ، فَهُوَ شَرٌّ لَهُ وَخَيْرٌ لَكَ ، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْمُعَادِي سَبَبٌ لِزَوَالِ الْعَدَاوَةِ ، وَصِيَانَةٌ لِلْقَرَابَةِ عَنْ الْقَطِيعَةِ فَكَانَتْ أَوْلَى هَذَا إذَا اسْتَوَى الْفَرِيقَانِ فِي الْفَضْلِ ، وَالدِّينِ وَالْحَاجَةِ ، وَأَحَدُهُمَا مُعَادِي ( فَأَمَّا ) إذَا كَانَ الْمُوَالِي مِنْهُمَا أَعَفَّهُمَا ، وَأَصْلَحَهُمَا وَأَحْوَجَهُمَا ، فَالْوَصِيَّةُ لَهُ أَفْضَلُ ; لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُ تَقَعُ إعَانَةً عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى .