فصل  
أقسام المحبوب  
والمحبوب قسمان : محبوب لنفسه ، ومحبوب لغيره ، والمحبوب لغيره ، لا بد أن ينتهي إلى المحبوب لنفسه ، دفعا للتسلسل المحال ، وكل ما سوى المحبوب الحق فهو محبوب لغيره ، وليس شيء يحب لذاته إلا الله وحده ، وكل ما سواه مما يحب فإنما محبته تبع لمحبة الرب تبارك وتعالى ، كمحبة ملائكته وأنبيائه وأوليائه ، فإنها تبع لمحبته سبحانه ، وهي من لوازم محبته ،      [ ص: 194 ] فإن محبة المحبوب توجب محبة ما يحبه ، وهذا موضع يجب الاعتناء به ، فإنه محل فرقان بين المحبة النافعة لغيره ، والتي لا تنفع بل قد تضر .  
فاعلم أنه لا يحب لذاته إلا من كان كماله من لوازم ذاته ، وإلهيته وربوبيته وغناه من لوازم ذاته ، وما سواه فإنما يبغض ويكره لمنافاته محابه ومضادته لها ، وبغضه وكراهته بحسب قوة هذه المنافاة وضعفها ، فما كان أشد منافاة لمحابه ، كان أشد كراهة من الأعيان والأوصاف والأفعال والإرادات وغيرها ، فهذا ميزان عادل توزن به موافقة الرب ومخالفته وموالاته ومعاداته ، فإذا رأينا شخصا يحب ما يكرهه الرب تعالى ويكره ما يحبه ، علمنا أن فيه من معاداته بحسب ذلك ، وإذا رأينا الشخص يحب ما يحبه الرب ويكره ما يكرهه ، وكلما كان الشيء أحب إلى الرب كان أحب إليه وآثره عنده ، وكلما كان أبغض إليه كان أبغض إليه وأبعد منه ، علمنا أن فيه من  موالاة الرب   بحسب ذلك .  
فتمسك بهذا الأصل في نفسك وفي غيرك ، فالولاية عبارة عن موافقة الولي الحميد في محابه ومساخطه ، وليست بكثرة صوم ولا صلاة ولا تمزق ولا رياضة .  
والمحبوب لغيره قسمان أيضا :  
أحدهما : ما يلتذ المحب بإدراكه وحصوله .  
والثاني : ما يتألم به ولكن يحتمله لإفضائه إلى المحبوب ، كشرب الدواء الكريه ، قال تعالى :  كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون      [ سورة البقرة : 216 ] .  
فأخبر سبحانه أن القتال مكروه لهم مع أنه خير لهم لإفضائه إلى أعظم محبوب وأنفعه ، والنفوس تحت الراحة والدعة والرفاهية ، ذلك شر لها لإفضائه إلى فوات المحبوب ، فالعاقل لا ينظر إلى لذة المحبوب العاجل فيؤثرها ، وألم المكروه العاجل فيرغب عنه ، فإن ذلك قد يكون شرا له ، بل قد يجلب عليه غاية الألم ويفوته أعظم اللذة ، بل عقلاء الدنيا يتحملون المشاق المكروهة لما يعقبهم من اللذة بعدها ، وإن كانت منقطعة .  
فالأمور أربعة : مكروه يوصل إلى مكروه ، ومكروه يوصل إلى محبوب ، ومحبوب يوصل إلى محبوب ، ومحبوب يوصل إلى مكروه ، فالمحبوب الموصل إلى المحبوب قد اجتمع فيه داعي الفعل من وجهين ، والمكروه الموصل إلى مكروه ، قد اجتمع فيه داعي الترك من وجهين .  
بقي القسمان الآخران يتجاذبهما الداعيان - وهما معترك الابتلاء والامتحان - فالنفس تؤثر أقربهما جوارا منها ، وهو العاجل ، والعقل والإيمان يؤثر أنفعهما وأبقاهما ، والقلب بين الداعيين ، وهو إلى هذا مرة ، وإلى هذا مرة ، وهاهنا محل الابتلاء شرعا وقدرا ، فداعي العقل      [ ص: 195 ] والإيمان ينادي كل وقت : حي على الفلاح ، عند الصباح يحمد القوم السرى ، وفي الممات يحمد العبد التقى ، فإن اشتد ظلام ليل المحبة ، وتحكم سلطان الشهوة والإرادة ، يقول : يا نفس اصبري فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ويذهب هذا كله ويزول .  
				
						
						
