ذكر بناء مدينة بغداذ   
فيها ابتدأ  المنصور  في بناء مدينة بغداذ    . 
وسبب ذلك أنه كان قد ابتنى الهاشمية  بنواحي الكوفة  ، فلما ثارت الراوندية  فيها كره سكانها لذلك ولجوار أهل الكوفة  أيضا ، فإنه كان لا يأمن أهلها على نفسه ، وكانوا قد أفسدوا جنده . فخرج بنفسه يرتاد له موضعا يسكنه هو وجنده ، فانحدر إلى جرجرايا  ، ثم أصعد إلى الموصل  ، وسار نحو الجبل في طلب منزل يبنى به . 
وكان قد تخلف بعض جنده بالمدائن  لرمد لحقه ، فسأله الطبيب الذي يعالجه عن سبب حركة  المنصور  ، فأخبره ، فقال : إنا نجد في كتاب عندنا أن رجلا يدعى  مقلاصا  يبني مدينة بين دجلة  والصراة  تدعى الزوراء  ، فإذا أسسها وبنى بعضها أتاه فتق من الحجاز  ، فقطع بناءها وأصلح ذلك الفتق ، ثم أتاه فتق من البصرة  أعظم منه فلا يلبث الفتقان أن يلتئما ، ثم يعود إلى بنائها فيتمه ، ثم يعمر عمرا طويلا ، ويبقى الملك في عقبه . 
فقدم ذلك الجندي إلى عسكر  المنصور  وهو بنواحي الجبل فأخبره الخبر ، فرجع   [ ص: 133 ] وقال : إني أنا والله كنت أدعى  مقلاصا  وأنا صبي ثم زال عني ، وصار حتى نزل الدير الذي حذاء قصره المعروف بالخلد  ، ودعا بصاحب الدير وبالبطريق صاحب رحا البطريق ، وصاحب بغداذ  ، وصاحب المخرم  ، وصاحب بستان النفس  ، وصاحب العتيقة  فسألهم عن مواضعهم ، وكيف هي في الحر والبرد والأمطار والوحول والبق والهوام ، فأخبره كل منهم بما عنده ، ووقع اختيارهم على صاحب بغداذ  ، فأحضره وشاوره . 
فقال : يا أمير المؤمنين سألتني عن هذه الأمكنة وما تختار منها ، وإني أرى أن تنزل أربعة طساسيج في الجانب الغربي طسوجين ، وهما بقطربل  وبادوريا  ، وفي الجانب الشرقي طسوجين وهما نهر بوق  وكلواذى  ، فيكون بين نخل وقرب الماء ، وإن أجدب طسوج وتأخرت عمارته كان في الطسوج الآخر العمارات . 
وأنت يا أمير المؤمنين على الصراة  ، ( تجيئك الميرة في السفن من الشام  والرقة  ، والغرب في طوائف مصر  ، وتجيئك الميرة من الصين  ، والهند  ، والبصرة  ، وواسط  ، وديار بكر  ، والروم  ، والموصل  ، وغيرها في دجلة  ، وتجيئك الميرة من إرمينية  وما اتصل بها في تامرا  حتى يتصل بالزاب  ، فأنت بين أنهار لا يصل إليك عدوك إلا على جسر أو قنطرة ، فإذا قطعت الجسر ، وأخربت القنطرة لم يصل إليك ، ودجلة  والفرات  والصراة  خنادق هذه المدينة ، وأنت متوسط للبصرة  والكوفة  وواسط  والموصل  والسواد  ، وأنت قريب من البر والبحر والجبل . 
فازداد  المنصور  عزما على النزول في ذلك الموضع . 
وقيل : إن  المنصور  لما أراد أن يبني مدينة بغداذ  رأى راهبا فناداه ، فأجابه ، فقال : هل تجدون في كتبكم أنه يبنى هاهنا مدينة ؟ قال : نعم يبنيها  مقلاص     . قال : فأنا كنت أدعى  مقلاصا  في حداثتي . قال : فإذا أنت صاحبها . 
فابتدأ  المنصور  بعملها سنة خمس وأربعين ، وكتب إلى الشام  ، والجبل  ، والكوفة  ، وواسط  ، والبصرة  ، في معنى إنفاذ الصناع والفعلة ، وأمر باختيار قوم من ذوي الفضل والعدالة والفقه ، وأمر باختيار قوم من ذوي الأمانة والمعرفة بالهندسة . 
فكان ممن أحضر لذلك   الحجاج بن أرطاة  ،  وأبو حنيفة  ، وأمر فخطت المدينة ، وحفر الأساس ، وضرب   [ ص: 134 ] اللبن ، وطبخ الآجر ، فكان أول ما ابتدأ به منها أنه أمر بخطها بالرماد ، فدخلها من أبوابها وفصلانها وطاقاتها ورحابها وهي مخطوطة بالرماد ، ثم أمر أن يجعل على الرماد حب القطن ويشعل بالنار ، ففعلوا ، فنظر إليها وهي تشتعل ، ففهمها وعرف رسمها ، وأمر أن يحفر الأساس على ذلك الرسم . 
ووكل بها أربعة من القواد ، كل قائد بربع ، ووكل   أبا حنيفة  بعدد الآجر واللبن ، وكان قبل ذلك قد أراد   أبا حنيفة  أن يتولى القضاء والمظالم ، فلم يجب ، فحلف  المنصور  أنه لا يقلع عنه أو يعمل له . فأجابه إلى أن ينظر في عمارة بغداذ  ويعد اللبن والآجر بالقصب ، وهو أول من فعل ذلك . 
وجعل  المنصور  عرض أساس السور من أسفله خمسين ذراعا ، ومن أعلاه عشرين ذراعا ، وجعل في البناء القصب والخشب ، ووضع بيده أول لبنة ، وقال : بسم الله والحمد لله والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين . ثم قال : ابنوا على بركة الله . 
فلما بلغ السور مقدار قامة جاء الخبر بظهور  محمد بن عبد الله  ، فقطع البناء ثم أقام بالكوفة  حتى فرغ من حرب  محمد  وأخيه  إبراهيم  ، ثم رجع إلى بغداذ  ، فأتم بناءها ، وأقطع فيها القطائع لأصحابه . 
وكان  المنصور  قد أعد جميع ما يحتاج إليه من بناء المدينة من خشب وساج وغير ذلك ، واستخلف حين يشخص إلى الكوفة  على إصلاح ما أعد أسلم مولاه ، فبلغه أن  إبراهيم  قد هزم عسكر  المنصور  ، فأحرق ما كان خلفه عليه  المنصور  ، 
فبلغ  المنصور  ذلك فكتب إليه يلومه ، فكتب إليه  أسلم  يخبره أنه خاف أن يظفر بهم  إبراهيم  فيأخذه ، فلم يقل له شيئا . 
وسنذكر كيفية بنائها في سنة ست وأربعين إن شاء الله . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					