الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر بعض سيرته

قيل : كان الرشيد يصلي كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا ، إلا من مرض ، وكان يتصدق من صلب ماله كل يوم بألف درهم بعد زكاته .

وكان إذا حج حج معه مائة من الفقهاء وأبنائهم ، فإذا لم يحج أحج ثلاثمائة رجل بالنفقة السابغة ، والكسوة الظاهرة .

وكان يطلب العمل بآثار المنصور ، إلا في بذل المال ، فإنه لم ير خليفة قبله كان [ ص: 393 ] أعطى منه للمال ، وكان لا يضيع عنده إحسان محسن ، ولا يؤخر ذلك .

وكان يحب الشعر والشعراء ، ويميل إلى أهل الأدب والفقه ، ويكره المراء في الدين ، وكان يحب المديح ، لا سيما من شاعر فصيح ، ويجزل العطاء عليه .

ولما مدحه مروان بن أبي حفصة بقصيدته التي منها :

وسدت بهارون الثغور فأحكمت به من أمور المسلمين المرائر



أعطاه خمسة آلاف دينار ، وخلعة ، وعشرة من الرقيق الرومي ، وحمله على برذون من خاص مركبه .

وقيل : كان مع الرشيد ابن أبي مريم المديني ، وكان مضحاكا فكها ، يعرف أخبار أهل الحجاز ، وألقاب الأشراف ، ومكايد المجان ، فكان الرشيد لا يصبر عنه ، وأسكنه في قصره ، فجاء ذات ليلة وهو نائم ، فقام الرشيد إلى صلاة الفجر ، فكشف اللحاف عنه وقال : كيف أصبحت ؟ فقال : ما أصبحت بعد ، اذهب إلى عملك . قال : قم إلى الصلاة ! قال : هذا وقت صلاة أبي الجارود ، وأنا من أصحاب أبي يوسف . فمضى الرشيد يصلي ، وقام ابن أبي مريم وأتى الرشيد ، فرآه يقرأ في الصلاة : وما لي لا أعبد الذي فطرني فقال : ما أدري والله ! فما تمالك الرشيد أن ضحك ، ثم قال له وهو مغضب : في الصلاة أيضا ؟ ! [ قال : يا هذا و ] ما صنعت ؟ قال : قطعت علي صلاتي . قال : والله ما فعلت ، إنما سمعت منك كلاما غمني حين قلت : وما لي لا أعبد الذي فطرني فقلت : لا أدري ! فعاد الرشيد فضحك ثم قال له : إياك والقرآن والدين ، ولك ما شئت بعدهما .

وقيل : استعمل يحيى بن خالد رجلا على بعض أعمال الخراج ، فدخل على الرشيد يودعه وعنده يحيى وجعفر ، فقال لهما الرشيد : أوصياه ! فقال يحيى : وفر ، [ ص: 394 ] واعمر . وقال جعفر : أنصف وانتصف ! فقال الرشيد : اعدل وأحسن .

وقيل : حج الرشيد مرة فدخل الكعبة ، فرآه بعض الحجبة وهو واقف على أصابعه يقول : يا من يملك حوائج السائلين ، ويعلم ضمير الصامتين ، فإن لكل مسألة منك ردا حاضرا ، وجوابا عنيدا ، ولكل صامت منك علم محيط ، ناطق بمواعيدك الصادقة ، وأياديك الفاضلة ، ورحمتك الواسعة ، صل على محمد ، وعلى آل محمد ، واغفر لنا ذنوبنا ، وكفر عنا سيئاتنا يا من لا تضره الذنوب ، ولا تخفى عليه الغيوب ، ولا تنقصه مغفرة الخطايا ، يا من كبس الأرض على الماء ، وسد الهواء بالسماء ، واختار لنفسه أحسن الأسماء ، صل على محمد ، وعلى آل محمد ، وخر لي في جميع أموري ، يا من خشعت له الأصوات ، بأنواع اللغات ، يسألونه الحاجات ، إن من حاجتي إليك أن تغفر لي ذنوبي إذا توفيتني وصيرت في لحدي ، وتفرق عني أهلي وولدي ، اللهم لك الحمد حمدا يفضل كل حمد كفضلك على جميع الخلق ، اللهم صل على محمد ، وعلى آل محمد ، صلاة تكون له رضى ، وصل عليه صلاة تكون له ذخرا ، واجزه عنا الجزاء الأوفى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء ، واجعلنا سعداء مرزوقين ، ولا تجعلنا أشقياء محرومين .

وقيل : دخل ابن السماك على الرشيد ، فبينما هو عنده إذ طلب ماء ، فلما أراد شربه قال له ابن السماك : مهلا يا أمير المؤمنين ، بقرابتك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو منعت هذه الشربة ، بكم كنت تشتريها ؟ قال : بنصف ملكي . قال : اشرب . فلما شرب قال : أسألك بقرابتك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو منعت خروجها من بدنك ، بماذا كنت تشتريها ؟ قال : بجميع ملكي . قال : إن ملكا لا يساوي شربة ماء ، ( وخروج بولة - لجدير ) أن لا ينافس فيه ! فبكى الرشيد .

وقيل : كان الفضيل بن عياض يقول : ما من نفس أشد علي موتا من هارون الرشيد ، ولوددت أن الله زاد من عمري في عمره . فعظم على أصحابه ، فلما مات وظهرت الفتن ، وكان من المأمون ما حمل الناس عليه من القول بخلق القرآن - قالوا : [ ص: 395 ] الشيخ أعلم بما تكلم به .

وقال محمد بن المنصور البغدادي : لما حبس الرشيد أبا العتاهية جعل عليه عينا يأتيه بما يقول ، فرآه يوما قد كتب على الحائط :

أما والله إن الظلم لوم     وما زال المسيء هو الظلوم
إلى ديان يوم الدين نمضي     وعند الله تجتمع الخصوم



فأخبر بذلك الرشيد ، فبكى ، وأحضره واستحله ، وأعطاه ألف دينار .

( وقال الأصمعي : صنع الرشيد يوما طعاما كثيرا ، وزخرف مجالسه ، وأحضر أبا العتاهية ، فقال له : صف لنا ما نحن فيه من نعيم هذه الدنيا ) ، فقال :

عش ما بدا لك سالما     في ظل شاهقة القصور



فقال : أحسنت ! ثم قال : ماذا ؟ فقال :

يسعى عليك بما اشتهيت     لدى الرواح وفي البكور



فقال : أحسنت ! ثم ماذا ؟ فقال :

فإذا النفوس تقعقعت     في ظل حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقنا     ما كنت إلا في غرور



فبكى الرشيد . وقال الفضل بن يحيى : بعث إليك أمير المؤمنين لتسره ، فحزنته . فقال : دعه ، فإنه رآنا في عمى ، فكره أن يزيدنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية