الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ خطبة المنصور ] ولما قتل المنصور أبا مسلم خطب الناس فقال : أيها الناس ، لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية ، ولا تمشوا في ظلمة الباطل بعد سعيكم في ضياء الحق ، إن أبا مسلم أحسن مبتدئا وأساء معقبا ، وأخذ من الناس بنا أكثر مما أعطانا ، ورجح قبيح باطنه على حسن ظاهره ، وعلمنا من خبث سريرته ، وفساد نيته ما لو علمه اللائم لنا فيه لعذرنا في قتله ، وعنفنا في إمهالنا ، وما زال ينقض بيعته ، ويخفر ذمته ، حتى أحل لنا عقوبته ، وأباحنا دمه ، فحكمنا فيه حكمه لنا في غيره [ ممن شق العصا ] ، ولم يمنعنا الحق له من إمضاء الحق فيه .

وما أحسن ما قال النابغة الذبياني للنعمان :


فمن أطاعك فانفعه بطاعته كما أطاعك وادلله على الرشد     ومن عصاك فعاقبه معاقبة
تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد

ثم نزل .

[ ص: 65 ] وكان أبو مسلم قد سمع الحديث من عكرمة ، وأبي الزبير المكي ، وثابت البناني ، ومحمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، والسدي ، وروى عنه إبراهيم بن ميمون الصائغ ، وعبد الله بن المبارك ، وغيرهما .

خطب يوما فقام إليه رجل فقال : ما هذا السواد الذي أرى عليك ؟ فقال : حدثني أبو الزبير ، عن جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه عمامة سوداء ، وهذه ثياب الهيبة وثياب الدولة ، يا غلام اضرب عنقه .

قيل لعبد الله بن المبارك : أبو مسلم كان خيرا أو الحجاج ؟ قال : لا أقول إن أبا مسلم كان خيرا من أحد ، ولكن الحجاج كان شرا منه .

وكان أبو مسلم نازكا شجاعا ذا رأي وعقل وتدبير ، وحزم ومروءة ، وقيل له : بم نلت ما أنت فيه من القهر للأعداء ؟ فقال : ارتديت الصبر ، وآثرت الكتمان ، وحالفت الأحزان والأشجان ، وشامخت المقادير والأحكام ، حتى بلغت غاية همتي ، وأدركت نهاية بغيتي .

ثم قال :

قد نلت بالحزم والكتمان ما عجزت عنه ملوك بني ساسان إذ حشدوا ما زلت أضربهم بالسيف فانتبهوا من رقدة لم ينمها قبلهم أحد طفقت أسعى عليهم في ديارهم والقوم في ملكهم بالشام [ قد ] رقدوا ومن رعى غنما في أرض مسبعة ونام عنها تولى رعيها الأسد

وقيل : إن أبا مسلم ورد نيسابور على حمار بإكاف وليس معه آدمي فقصد في بعض الليالي دارا لفاذوسيان ، فدق عليه الباب ، ففزع أصحابه وخرجوا إليه ، فقال لهم : [ ص: 66 ] قولوا للدهقان إن أبا مسلم بالباب يطلب منك ألف درهم ودابة . فقالوا للدهقان ذلك ، فقال الدهقان : في أي زي هو وأي عدة ؟ فأخبروه أنه وحده في أدون زي .

فسكت ساعة ثم دعا بألف درهم ودابة من خواص دوابه وأذن له ، وقال : يا أبا مسلم ، قد أسعفناك بما طلبت ، وإن عرضت حاجة أخرى فنحن بين يديك . فقال : ما نضيع لك ما فعلته .

فلما ملك قال له بعض أقاربه : إن فتحت نيسابور أخذت كل ما تريده من مال الفاذوسيان دهقانها المجوسي . فقال أبو مسلم : له عندنا يد . فلما ملك نيسابور أتته هدايا الفاذوسيان ، فقيل له : لا تقبلها واطلب منه الأموال .

فقال : له عندي يد . ولم يتعرض له ولا لأحد من أصحابه وأمواله . وهذا يدل على علو همة وكمال مروءة .

وفي هذه السنة استعمل المنصور أبا داود على خراسان ، وكتب إليه بعهده .

التالي السابق


الخدمات العلمية