[ ص: 475 ] 386
ثم دخلت سنة ست وثمانين وثلاثمائة
ذكر
nindex.php?page=treesubj&link=34064_33791وفاة nindex.php?page=showalam&ids=14780العزيز بالله وولاية ابنه الحاكم وما كان من الحروب إلى أن استقر أمره
في هذه السنة توفي
nindex.php?page=showalam&ids=14780العزيز أبو منصور نزار بن المعز أبي تميم معد العلوي ، صاحب
مصر ، لليلتين بقيتا من رمضان ، وعمره اثنتان وأربعون سنة وثمانية أشهر ونصف ، بمدينة
بلبيس ، وكان برز إليها لغزو
الروم ، فلحقه عدة أمراض منها النقرس والحصا والقولنج ، فاتصلت به إلى أن مات .
وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفا ، ومولده
بالمهدية من
إفريقية .
وكان أسمر طويلا ، أصهب الشعر ، عريض المنكبين ، عارفا بالخيل والجوهر ، قيل إنه ولى
عيسى بن نسطورس النصراني كتابته ، واستناب
بالشام يهوديا اسمه
منشا ، فاعتز بهما
النصارى واليهود ، وآذوا المسلمين ، فعمد
أهل مصر وكتبوا قصة وجعلوها في يد صورة عملوها من قراطيس ، فيها : بالذي أعز
اليهود بمنشا والنصارى بعيسى بن نسطورس ، وأذل المسلمين بك إلا كشفت ظلامتي ، وأقعدوا تلك الصورة على طريق
العزيز ، والرقعة بيدها ، فلما رآها أمر بأخذها ، فلما ( قرأ ما فيها ) ،
[ ص: 476 ] ورأى الصورة من قراطيس ، علم ما أريد بذلك ، فقبض عليهما ، وأخذ من
عيسى ثلاثمائة ألف دينار ، ومن اليهودي شيئا كثيرا .
وكان يحب العفو ويستعمله ، فمن حلمه أنه كان
بمصر شاعر اسمه
الحسن بن بشر الدمشقي ، وكان كثير الهجاء ، فهجا
nindex.php?page=showalam&ids=13465يعقوب بن كلس وزير
العزيز وكاتب الإنشاء من جهته
أبا نصر عبد الله الحسين القيرواني ، فقال :
قل لأبي نصر صاحب القصر والمتأتي لنقض ذا الأمر انقض عرى الملك للوزير تفز
منه بحسن الثناء والذكر وأعط ، وامنع ، ولا تخف أحدا
فصاحب القصر ليس في القصر وليس يدري ماذا يراد به
وهو إذا ما درى ، فما يدري
فشكاه
nindex.php?page=showalam&ids=13465ابن كلس إلى
العزيز ، وأنشده الشعر فقال له : هذا شيء اشتركنا فيه في الهجاء فشاركني في العفو عنه . ثم قال هذا الشاعر أيضا وعرض بالفضل القائد :
تنصر ، فالتنصر دين حق عليه زماننا هذا يدل
وقل بثلاثة عزوا وجلوا وعطل ما سواهم فهو عطل
فيعقوب الوزير أب ، وهذا العزيز ابن ، وروح القدس فضل
فشكاه أيضا إلى
العزيز ، فامتعض منه إلا أنه قال : اعف عنه فعفا عنه .
ثم دخل الوزير على
العزيز ، فقال : لم يبق للعفو عن هذا معنى ، وفيه غض من السياسة ، ونقض لهيبة الملك ، فإنه قد ذكرك وذكرني وذكر
ابن زبارج نديمك ، وسبك بقوله :
زبارجي نديم وكلسي وزير نعم على قدر الكلب يصلح الساجور
فغضب
العزيز ، وأمر بالقبض عليه ، فقبض عليه ( لوقته ، ثم بدا
للعزيز إطلاقه ) ، فأرسل إليه يستدعيه ، وكان للوزير عين في القصر ، فأخبره بذلك فأمر بقتله فقتل .
[ ص: 477 ] فلما وصل رسول
العزيز في طلبه أراه رأسه مقطوعا ، فعاد إليه فأخبره ، فاغتم له .
ولما مات
العزيز ولي بعده ابنه
أبو علي المنصور ، ولقب
nindex.php?page=showalam&ids=14069الحاكم بأمر الله ، بعهد من أبيه ، فولي وعمره إحدى عشرة سنة ( وستة أشهر ) ، وأوصى
العزيز إلى
أرجوان الخادم ، وكان يتولى أمر داره ، وجعله مدبر دولة ابنه
الحاكم ، فقام بأمره ، وبايع له ، وأخذ له البيعة على الناس ، وتقدم
الحسن بن عمار ، شيخ كتامة وسيدها ، وحكم في دولته ، واستولى عليها ، وتلقب بأمين الدولة ، هو أول من تلقب في دولة
العلويين المصريين ، فأشار عليه ثقاته بقتل
الحاكم ، وقالوا : لا حاجة [ بنا ] إلى من يتعبدنا ، فلم يفعل احتقارا له ، واستصغارا لسنه .
وانبسطت كتامة في البلاد ، وحكموا فيها ، ومدوا أيديهم إلى أموال الرعية وحريمهم ،
وأرجوان مقيم مع
الحاكم في القصر يحرسه ، واتفق معه
شكر خادم
عضد الدولة ، وقد ذكرنا قبض
شرف الدولة عليه ومسيره إلى
مصر ، فلما اتفقا ، وصارت كلمتهما واحدة ، كتب
أرجوان إلى
منجوتكين يشكو ما ( يتم عليه ) من
ابن عمار ، فتجهز وسار من
دمشق نحو
مصر ، فوصل الخبر إلى
ابن عمار ، فأظهر أن
منجوتكين قد عصى على
الحاكم ، وندب العساكر إلى قتاله ، وسير إليه جيشا كثيرا ، وجعل عليهم
أبا تميم سليمان بن جعفر بن فلاح الكتامي ، فساروا إليه فلقوه
بعسقلان ، فانهزم
منجوتكين وأصحابه ، وقتل منهم ألفا رجل ، وأسر
منجوتكين وحمل إلى
مصر ، فأبقى عليه
ابن عمار ، وأطلقه استمالة
للمشارقة بذلك .
واستعمل
ابن عمار على
الشام أبا تميم الكتامي ، واسمه
سليمان بن جعفر ، فسار إلى
طبرية ، فاستعمل على
دمشق أخاه
عليا ، فامتنع أهلها عليه ، فكاتبهم
أبو تميم [ ص: 478 ] يتهددهم فخافوا وأذعنوا بالطاعة ، واعتذروا من فعل سفهائهم ، وخرجوا إلى
علي فلم يعبأ بهم وركب ودخل البلد فأحرق وقتل وعاد إلى معسكره .
وقدم عليهم
أبو تميم فأحسن إليهم وأمنهم ، وأطلق المحبسين ونظر في أمر الساحل ، واستعمل أخاه
عليا على
طرابلس ، وعزل عنها جيش
بن الصمصامة الكتامي ، فمضى إلى
مصر ، واجتمع مع
أرجوان على
الحسن بن عمار ، فانتهز
أرجوان الفرصة ببعد
كتامة عن
مصر مع
أبي تميم ، فوضع
المشارقة على الفتك بمن بقي
بمصر منهم ،
وبابن عمار معهم .
فبلغ ذلك
ابن عمار ، فعمل على الإيقاع
بأرجوان وشكر
العضدي فأخبرهما عيون لهما على
ابن عمار بذلك ، فاحتاطا ودخلا قصر
الحاكم باكين ، وثارت الفتنة ، واجتمعت
المشارقة ، ففرق فيهم المال ، وواقعوا
ابن عمار ومن معه ، فانهزم واختفى .
فلما ظفر
أرجوان أظهر
الحاكم ، وأجلسه ، وجدد له البيعة ، وكتب إلى وجوه القواد والناس
بدمشق بالإيقاع
بأبي تميم ، فلم يشعر إلا وقد هجموا عليه ونهبوا خزائنه ، فخرج هاربا ، وقتلوا من كان عنده من كتامة ، وعادت الفتنة
بدمشق ، واستولى الأحداث .
ثم إن
أرجوان أذن
للحسن بن عمار في الخروج من استتاره ، وأجراه على إقطاعه ، وأمره بإغلاق بابه .
وعصى أهل
صور ، وأمروا عليهم رجلا ملاحا يعرف
بعلاقة ، وعصى أيضا
المفرج بن دغفل بن الجراح ، ونزل على
الرملة وعاث في البلاد .
[ ص: 479 ] واتفق أن
الدوقس ، صاحب
الروم ، نزل على حصن
أفامية ، فأخرج
أرجوان جيش
ابن الصمصامة في عسكر ضخم ، فسار حتى نزل
بالرملة ، فأطاعه واليها ، وظفر فيها
بأبي تميم فقبض عليه ، وسير عسكرا إلى
صور ، وعليهم
أبو عبد الله الحسين بن ناصر الدولة بن حمدان ، فغزاها برا وبحرا . فأرسل
علاقة إلى ملك
الروم يستنجده فسير إليه عدة مراكب مشحونة بالرجال ، فالتقوا بمراكب المسلمين على
صور فاقتتلوا ، وظفر المسلمون ، وانهزم
الروم ، وقتل منهم جمع ، فلما انهزموا انخذل
أهل صور ، وضعفت نفوسهم ، فملك البلد
أبو عبد الله بن حمدان ، ونهبه ، وأخذت الأموال ، وقتل كثير من جنده ، وكان أول فتح كان على يد
أرجوان ، وأخذ
علاقة أسيرا فسيره إلى
مصر ، فسلخ وصلب بها ، وأقام
بصور ، وسار
جيش بن الصمصامة لقصد
المفرج بن دغفل ، فهرب من بين يديه ، ( وأرسل يطلب العفو فأمنه .
وسار جيش أيضا إلى عسكر
الروم ) ، فلما وصل إلى
دمشق تلقاه أهلها مذعنين ، فأحسن إلى رؤساء الأحداث ، وأطلق المؤن ، وأباح دم كل مغربي يتعرض لأهلها ، فاطمأنوا إليه .
وسار إلى
أفامية ، فصاف
الروم عندها ، فانهزم هو وأصحابه ، ما عدا
بشارة الإخشيدي ، فإنه ثبت في خمسمائة فارس . ونزل
الروم إلى سواد المسلمين يغنمون ما فيه ،
والدوقس واقف على رايته ، وبين يديه ولده وعدة غلمان ، فقصده كردي يعرف
بأحمد بن الضحاك ، من أصحاب
بشارة ، ومعه خشت ، فظنه
الدوقس مستأمنا ، فلم
[ ص: 480 ] يحترز منه ، فلما دنا منه حمل عليه وضربه بالخشت فقتله ، فصاح المسلمون : قتل عدو الله ! وعادوا ونزل النصر عليهم ، فانهزمت
الروم وقتل منهم مقتلة عظيمة .
وسار جيش إلى باب
أنطاكية يغنم ويسبي ويحرق ، وعاد إلى
دمشق فنزل بظاهرها ، وكان الزمان شتاء ، فسأله
أهل دمشق ليدخل البلد ، فلم يفعل ، ونزل ببيت لهيا ، وأحسن السيرة في أهل
دمشق ، واستخص رؤساء الأحداث ، واستحجب جماعة منهم ، وجعل يبسط الطعام كل يوم لهم ولمن يجئ معهم من أصحابهم ، فكان يحضر كل إنسان منهم في جمع من أصحابه وأشياعه ، وأمرهم إذا فرغوا من الطعام أن ( يحضروا إلى ) حجرة له يغسلون أيديهم فيها ، فعبر على ذلك برهة من الزمان ، فأمر أصحابه أن رؤساء الأحداث ، إذا دخلوا الحجرة لغسل أيديهم ، أن يغلقوا باب الحجرة عليهم ، ويضعوا السيف في أصحابهم ، فلما كان الغد حضروا الطعام ، وقام الرؤساء إلى الحجرة ، فأغلقت الأبواب عليهم ، وقتل من أصحابهم نحو ثلاثة آلاف رجل ، ودخل
دمشق فطافها ، فاستغاث الناس وسألوه العفو وعفا عنهم ، وأحضر أشراف أهلها ، وقتل رؤساء الأحداث بين أيديهم ، وسير الأشراف إلى
مصر ، وأخذ أموالهم ونعمهم ، ثم مرض بالبواسير وشدة الضربان فمات .
وولي بعده ابنه
محمد ، وكانت ولايته هذه تسعة أشهر . ثم إن
أرجوان بعد هذه الحادثة راسل بسيل ملك
الروم وهادنه عشر سنين ، واستقامت الأمور على يد
أرجوان . وسير أيضا جيشا إلى
برقة ،
وطرابلس الغرب ففتحها ، واستعمل عليها
أنسا الصقلبي ونصح
الحاكم ، وبالغ في ذلك ، ولازم خدمته فثقل مكانه على
الحاكم ، فقتله سنة تسع وثمانين [ وثلاثمائة ] .
[ ص: 481 ] وكان خصيا أبيض ، وكان
لأرجوان وزير نصراني اسمه (
فهد بن ) إبراهيم ، فاستوزره
الحاكم ، ثم إن
الحاكم رتب
الحسين بن جوهر موضع
أرجوان ، ولقبه قائد القواد ثم قتل
الحسن بن عمار ، المقدم ذكره ، ثم
قتل الحسين بن جوهر ، ولم يزل يقيم الوزير بعد الوزير ويقتلهم . ثم جهز
يارختكين للمسير إلى
حلب ، وحصرها ، وسير معه العساكر الكثيرة ، فسار عنها ، فخافه
حسان بن المفرج الطائي ، فلما رحل من
غزة إلى
عسقلان كمن له
حسان ووالده ، وأوقعا به وبمن معه ، وأسراه وقتلاه ، وقتل من الفريقين قتلى كثير ، وحصرا
الرملة ، ونهبا النواحي ، وكثر جمعهما ، وملكا
الرملة وما والاها ، فعظم ذلك على
الحاكم ، وأرسل يعاتبهما ، وسبق السيف العذل ، فأرسلا إلى
nindex.php?page=showalam&ids=14339الشريف أبي الفتوح الحسن بن جعفر العلوي الحسني ، أمير
مكة ، وخاطباه بأمير المؤمنين ، وطلباه إليهما ليبايعا له بالخلافة ، فحضر ، واستناب
بمكة ، وخوطب بالخلافة .
ثم إن
الحاكم راسل
حسانا وأباه ، وضمن لهما الأقطاع الكثيرة والعطاء الجزيل ، واستمالهما ، فعدلا عن
أبي الفتوح ، ورداه إلى
مكة ، وعادا إلى طاعة
الحاكم .
ثم إن
الحاكم جهز عسكرا إلى
الشام ، واستعمل عليهم
علي بن جعفر بن فلاح ، فلما وصل إلى
الرملة أزاح
حسان بن المفرج وعشيرته عن تلك الأرض ، وأخذ ما كان له من الحصون
بجبل الشران ، واستولى على أمواله وذخائره ، وسار إلى
دمشق واليا عليها ، فوصل إليها في شوال سنة تسعين وثلاثمائة .
[ ص: 482 ] وأما
حسان فإنه بقي شريدا نحو سنتين ، ثم أرسل والده إلى
الحاكم فأمنه وأقطعه ، فسار
حسان إليه
بمصر ، فأكرمه وأحسن إليه ، وكان
المفرج والد
حسان قد توفي مسموما ، وضع
الحاكم عليه من سمه ، فبموته ضعف أمر
حسان على ما ذكرناه .
[ ص: 475 ] 386
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
ذِكْرُ
nindex.php?page=treesubj&link=34064_33791وَفَاةِ nindex.php?page=showalam&ids=14780الْعَزِيزِ بِاللَّهِ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ الْحَاكِمِ وَمَا كَانَ مِنَ الْحُرُوبِ إِلَى أَنِ اسْتَقَرَّ أَمْرُهُ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ
nindex.php?page=showalam&ids=14780الْعَزِيزُ أَبُو مَنْصُورٍ نِزَارُ بْنُ الْمُعِزِّ أَبِي تَمِيمٍ مَعَدٍّ الْعَلَوِيُّ ، صَاحِبُ
مِصْرَ ، لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ رَمَضَانَ ، وَعُمْرُهُ اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً وَثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ وَنِصْفٌ ، بِمَدِينَةِ
بُلْبَيْسَ ، وَكَانَ بَرَزَ إِلَيْهَا لِغَزْوِ
الرُّومِ ، فَلَحِقَهُ عِدَّةُ أَمْرَاضٍ مِنْهَا النِّقْرِسُ وَالْحَصَا وَالْقُولَنْجُ ، فَاتَّصَلَتْ بِهِ إِلَى أَنْ مَاتَ .
وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَنِصْفًا ، وَمَوْلِدُهُ
بِالْمَهْدِيَّةِ مِنْ
إِفْرِيقِيَّةَ .
وَكَانَ أَسْمَرَ طَوِيلًا ، أَصْهَبَ الشَّعْرِ ، عَرِيضَ الْمَنْكِبَيْنِ ، عَارِفًا بِالْخَيْلِ وَالْجَوْهَرِ ، قِيلَ إِنَّهُ وَلَّى
عِيسَى بْنَ نَسْطُورَسَ النَّصْرَانِيَّ كِتَابَتَهُ ، وَاسْتَنَابَ
بِالشَّامِ يَهُودِيًّا اسْمُهُ
مَنْشَا ، فَاعْتَزَّ بِهِمَا
النَّصَارَى وَالْيَهُودُ ، وَآذَوُا الْمُسْلِمِينَ ، فَعَمَدَ
أَهْلُ مِصْرَ وَكَتَبُوا قِصَّةً وَجَعَلُوهَا فِي يَدِ صُورَةٍ عَمِلُوهَا مِنْ قَرَاطِيسَ ، فِيهَا : بِالَّذِي أَعَزَّ
الْيَهُودَ بِمَنْشَا وَالنَّصَارَى بِعِيسَى بْنِ نَسْطُورَسَ ، وَأَذَلَّ الْمُسْلِمِينَ بِكَ إِلَّا كَشَفْتَ ظُلَامَتِي ، وَأَقْعَدُوا تِلْكَ الصُّورَةَ عَلَى طَرِيقِ
الْعَزِيزِ ، وَالرُّقْعَةُ بِيَدِهَا ، فَلَمَّا رَآهَا أَمَرَ بِأَخْذِهَا ، فَلَمَّا ( قَرَأَ مَا فِيهَا ) ،
[ ص: 476 ] وَرَأَى الصُّورَةَ مِنْ قَرَاطِيسَ ، عَلِمَ مَا أُرِيدُ بِذَلِكَ ، فَقَبَضَ عَلَيْهِمَا ، وَأَخَذَ مِنْ
عِيسَى ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفَ دِينَارٍ ، وَمِنَ الْيَهُودِيِّ شَيْئًا كَثِيرًا .
وَكَانَ يُحِبُّ الْعَفْوَ وَيَسْتَعْمِلُهُ ، فَمِنْ حِلْمِهِ أَنَّهُ كَانَ
بِمِصْرَ شَاعِرٌ اسْمُهُ
الْحَسَنُ بْنُ بِشْرٍ الدِّمَشْقِيُّ ، وَكَانَ كَثِيرَ الْهِجَاءِ ، فَهَجَا
nindex.php?page=showalam&ids=13465يَعْقُوبَ بْنَ كِلِّسٍ وَزِيرَ
الْعَزِيزِ وَكَاتِبَ الْإِنْشَاءِ مِنْ جِهَتِهِ
أَبَا نَصْرٍ عَبْدَ اللَّهِ الْحُسَيْنَ الْقَيْرَوَانِيَّ ، فَقَالَ :
قُلْ لِأَبِي نَصْرٍ صَاحِبِ الْقَصْرِ وَالْمُتَأَتِّي لِنَقْضِ ذَا الْأَمْرِ انْقُضْ عُرَى الْمُلْكِ لِلْوَزِيرِ تَفُزْ
مِنْهُ بِحُسْنِ الثَّنَاءِ وَالذِّكْرِ وَأَعْطِ ، وَامْنَعْ ، وَلَا تَخَفْ أَحَدًا
فَصَاحِبُ الْقَصْرِ لَيْسَ فِي الْقَصْرِ وَلَيْسَ يَدْرِي مَاذَا يُرَادُ بِهِ
وَهُوَ إِذَا مَا دَرَى ، فَمَا يَدْرِي
فَشَكَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=13465ابْنُ كِلِّسٍ إِلَى
الْعَزِيزِ ، وَأَنْشَدَهُ الشِّعْرَ فَقَالَ لَهُ : هَذَا شَيْءٌ اشْتَرَكْنَا فِيهِ فِي الْهِجَاءِ فَشَارِكْنِي فِي الْعَفْوِ عَنْهُ . ثُمَّ قَالَ هَذَا الشَّاعِرُ أَيْضًا وَعَرَّضَ بِالْفَضْلِ الْقَائِدِ :
تَنَصَّرْ ، فَالتَّنَصُّرُ دِينُ حَقٍّ عَلَيْهِ زَمَانُنَا هَذَا يَدُلُّ
وَقُلْ بِثَلَاثَةٍ عَزُّوا وَجَلُّوا وَعَطِّلْ مَا سِوَاهُمْ فَهُوَ عُطْلُ
فَيَعْقُوبُ الْوَزِيرُ أَبٌ ، وَهَذَا الْعَزِيزُ ابْنٌ ، وَرُوحُ الْقُدُسِ فَضْلُ
فَشَكَاهُ أَيْضًا إِلَى
الْعَزِيزِ ، فَامْتَعَضَ مِنْهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ : اعْفُ عَنْهُ فَعَفَا عَنْهُ .
ثُمَّ دَخَلَ الْوَزِيرُ عَلَى
الْعَزِيزِ ، فَقَالَ : لَمْ يَبْقَ لِلْعَفْوِ عَنْ هَذَا مَعْنًى ، وَفِيهِ غَضٌّ مِنَ السِّيَاسَةِ ، وَنَقْضٌ لِهَيْبَةِ الْمُلْكِ ، فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَكَ وَذَكَرَنِي وَذَكَرَ
ابْنَ زَبَارِجَ نَدِيمَكَ ، وَسَبَّكَ بِقَوْلِهِ :
زَبَارِجِيٌّ نَدِيمٌ وَكِلِّسِيٌّ وَزِيرُ نَعَمْ عَلَى قَدْرِ الْكَلْبِ يَصْلُحُ السَّاجُورُ
فَغَضِبَ
الْعَزِيزُ ، وَأَمَرَ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ ( لِوَقْتِهِ ، ثُمَّ بَدَا
لِلْعَزِيزِ إِطْلَاقُهُ ) ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَسْتَدْعِيهِ ، وَكَانَ لِلْوَزِيرِ عَيْنٌ فِي الْقَصْرِ ، فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ فَقُتِلَ .
[ ص: 477 ] فَلَمَّا وَصَلَ رَسُولُ
الْعَزِيزِ فِي طَلَبِهِ أَرَاهُ رَأْسَهُ مَقْطُوعًا ، فَعَادَ إِلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ ، فَاغْتَمَّ لَهُ .
وَلَمَّا مَاتَ
الْعَزِيزُ وَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ
أَبُو عَلِيٍّ الْمَنْصُورُ ، وَلُقِّبَ
nindex.php?page=showalam&ids=14069الْحَاكِمَ بِأَمْرِ اللَّهِ ، بِعَهْدٍ مِنْ أَبِيهِ ، فَوَلِيَ وَعُمْرُهُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً ( وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ ) ، وَأَوْصَى
الْعَزِيزُ إِلَى
أَرْجُوَانَ الْخَادِمِ ، وَكَانَ يَتَوَلَّى أَمْرَ دَارِهِ ، وَجَعَلَهُ مُدَبِّرَ دَوْلَةِ ابْنِهِ
الْحَاكِمِ ، فَقَامَ بِأَمْرِهِ ، وَبَايَعَ لَهُ ، وَأَخَذَ لَهُ الْبَيْعَةَ عَلَى النَّاسِ ، وَتَقَدَّمَ
الْحَسَنُ بْنُ عَمَّارٍ ، شَيْخُ كُتَامَةَ وَسَيِّدُهَا ، وَحَكَمَ فِي دَوْلَتِهِ ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا ، وَتَلَقَّبَ بِأَمِينِ الدَّوْلَةِ ، هُوَ أَوَّلُ مَنْ تَلَقَّبَ فِي دَوْلَةِ
الْعَلَوِيِّينَ الْمِصْرِيِّينَ ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ ثِقَاتُهُ بِقَتْلِ
الْحَاكِمِ ، وَقَالُوا : لَا حَاجَةَ [ بِنَا ] إِلَى مَنْ يَتَعَبَّدُنَا ، فَلَمْ يَفْعَلِ احْتِقَارًا لَهُ ، وَاسْتِصْغَارًا لِسِنِّهِ .
وَانْبَسَطَتْ كُتَامَةُ فِي الْبِلَادِ ، وَحَكَمُوا فِيهَا ، وَمَدُّوا أَيْدِيَهُمْ إِلَى أَمْوَالِ الرَّعِيَّةِ وَحَرِيمِهِمْ ،
وَأَرْجُوَانُ مُقِيمٌ مَعَ
الْحَاكِمِ فِي الْقَصْرِ يَحْرُسُهُ ، وَاتَّفَقَ مَعَهُ
شُكْرٌ خَادِمُ
عَضُدِ الدَّوْلَةِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْضَ
شَرَفِ الدَّوْلَةِ عَلَيْهِ وَمَسِيرَهُ إِلَى
مِصْرَ ، فَلَمَّا اتَّفَقَا ، وَصَارَتْ كَلِمَتُهُمَا وَاحِدَةً ، كَتَبَ
أَرْجُوَانُ إِلَى
مَنْجُوتِكِينَ يَشْكُو مَا ( يَتِمُّ عَلَيْهِ ) مِنِ
ابْنِ عَمَّارٍ ، فَتَجَهَّزَ وَسَارَ مِنْ
دِمَشْقَ نَحْوَ
مِصْرَ ، فَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى
ابْنِ عَمَّارٍ ، فَأَظْهَرُ أَنَّ
مَنْجُوتِكِينَ قَدْ عَصَى عَلَى
الْحَاكِمِ ، وَنَدَبَ الْعَسَاكِرَ إِلَى قِتَالِهِ ، وَسَيَّرَ إِلَيْهِ جَيْشًا كَثِيرًا ، وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ
أَبَا تَمِيمٍ سُلَيْمَانَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ فَلَاحٍ الْكُتَامِيَّ ، فَسَارُوا إِلَيْهِ فَلَقُوهُ
بِعَسْقَلَانَ ، فَانْهَزَمَ
مَنْجُوتِكِينُ وَأَصْحَابُهُ ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ أَلْفَا رَجُلٍ ، وَأُسِرَ
مَنْجُوتِكِينُ وَحُمِلَ إِلَى
مِصْرَ ، فَأَبْقَى عَلَيْهِ
ابْنُ عَمَّارٍ ، وَأَطْلَقَهُ اسْتِمَالَةً
لِلْمَشَارِقَةِ بِذَلِكَ .
وَاسْتَعْمَلَ
ابْنُ عَمَّارٍ عَلَى
الشَّامِ أَبَا تَمِيمٍ الْكُتَامِيَّ ، وَاسْمُهُ
سُلَيْمَانُ بْنُ جَعْفَرٍ ، فَسَارَ إِلَى
طَبَرِيَةَ ، فَاسْتَعْمَلَ عَلَى
دِمَشْقَ أَخَاهُ
عَلِيًّا ، فَامْتَنَعَ أَهْلُهَا عَلَيْهِ ، فَكَاتَبَهُمْ
أَبُو تَمِيمٍ [ ص: 478 ] يَتَهَدَّدُهُمْ فَخَافُوا وَأَذْعَنُوا بِالطَّاعَةِ ، وَاعْتَذَرُوا مِنْ فِعْلِ سُفَهَائِهِمْ ، وَخَرَجُوا إِلَى
عَلِيٍّ فَلَمْ يَعْبَأْ بِهِمْ وَرَكِبَ وَدَخَلَ الْبَلَدَ فَأَحْرَقَ وَقَتَلَ وَعَادَ إِلَى مُعَسْكَرِهِ .
وَقَدِمَ عَلَيْهِمْ
أَبُو تَمِيمٍ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَأَمَّنَهُمْ ، وَأَطْلَقَ الْمُحَبَّسِينَ وَنَظَرَ فِي أَمْرِ السَّاحِلِ ، وَاسْتَعْمَلَ أَخَاهُ
عَلِيًّا عَلَى
طَرَابُلُسَ ، وَعَزَلَ عَنْهَا جَيْشَ
بْنَ الصَّمْصَامَةِ الْكُتَامِيَّ ، فَمَضَى إِلَى
مِصْرَ ، وَاجْتَمَعَ مَعَ
أَرْجُوَانَ عَلَى
الْحَسَنِ بْنِ عَمَّارٍ ، فَانْتَهَزَ
أَرْجُوَانُ الْفُرْصَةَ بِبُعْدِ
كُتَامَةَ عَنْ
مِصْرَ مَعَ
أَبِي تَمِيمٍ ، فَوَضَعَ
الْمَشَارِقَةَ عَلَى الْفَتْكِ بِمَنْ بَقِيَ
بِمِصْرَ مِنْهُمْ ،
وَبِابْنِ عَمَّارٍ مَعَهُمْ .
فَبَلَغَ ذَلِكَ
ابْنَ عَمَّارٍ ، فَعَمِلَ عَلَى الْإِيقَاعِ
بِأَرْجُوَانَ وَشُكْرٍ
الْعَضُدِيِّ فَأَخْبَرَهُمَا عُيُونٌ لَهُمَا عَلَى
ابْنِ عَمَّارٍ بِذَلِكَ ، فَاحْتَاطَا وَدَخَلَا قَصْرَ
الْحَاكِمِ بَاكِينَ ، وَثَارَتِ الْفِتْنَةُ ، وَاجْتَمَعَتِ
الْمَشَارِقَةُ ، فَفَرَّقَ فِيهِمُ الْمَالَ ، وَوَاقَعُوا
ابْنَ عَمَّارٍ وَمَنْ مَعَهُ ، فَانْهَزَمَ وَاخْتَفَى .
فَلَمَّا ظَفِرَ
أَرْجُوَانُ أَظْهَرَ
الْحَاكِمَ ، وَأَجْلَسَهُ ، وَجَدَّدَ لَهُ الْبَيْعَةَ ، وَكَتَبَ إِلَى وُجُوهِ الْقُوَّادِ وَالنَّاسِ
بِدِمَشْقَ بِالْإِيقَاعِ
بِأَبِي تَمِيمٍ ، فَلَمْ يَشْعُرْ إِلَّا وَقَدْ هَجَمُوا عَلَيْهِ وَنَهَبُوا خَزَائِنَهُ ، فَخَرَجَ هَارِبًا ، وَقَتَلُوا مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ كُتَامَةَ ، وَعَادَتِ الْفِتْنَةُ
بِدِمَشْقَ ، وَاسْتَوْلَى الْأَحْدَاثُ .
ثُمَّ إِنَّ
أَرْجُوَانَ أَذِنَ
لِلْحَسَنِ بْنِ عَمَّارٍ فِي الْخُرُوجِ مِنِ اسْتِتَارِهِ ، وَأَجْرَاهُ عَلَى إِقْطَاعِهِ ، وَأَمَرَهُ بِإِغْلَاقِ بَابِهِ .
وَعَصَى أَهْلُ
صُورَ ، وَأَمَّرُوا عَلَيْهِمْ رَجُلًا مَلَّاحًا يُعْرَفُ
بِعِلَاقَةَ ، وَعَصَى أَيْضًا
الْمُفَرِّجُ بْنُ دَغْفَلِ بْنِ الْجَرَّاحِ ، وَنَزَلَ عَلَى
الرَّمْلَةِ وَعَاثَ فِي الْبِلَادِ .
[ ص: 479 ] وَاتُّفِقَ أَنَّ
الدُّوقَسَ ، صَاحِبَ
الرُّومِ ، نَزَلَ عَلَى حِصْنِ
أَفَامِيَةَ ، فَأَخْرَجَ
أَرْجُوَانُ جَيْشَ
ابْنِ الصَّمْصَامَةِ فِي عَسْكَرٍ ضَخْمٍ ، فَسَارَ حَتَّى نَزَلَ
بِالرَّمْلَةِ ، فَأَطَاعَهُ وَالِيهَا ، وَظَفِرَ فِيهَا
بِأَبِي تَمِيمٍ فَقَبَضَ عَلَيْهِ ، وَسَيَّرَ عَسْكَرًا إِلَى
صُورَ ، وَعَلَيْهِمْ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ ، فَغَزَاهَا بَرًّا وَبَحْرًا . فَأَرْسَلَ
عِلَاقَةُ إِلَى مَلِكِ
الرُّومِ يَسْتَنْجِدُهُ فَسَيَّرَ إِلَيْهِ عِدَّةَ مَرَاكِبَ مَشْحُونَةٍ بِالرِّجَالِ ، فَالْتَقَوْا بِمَرَاكِبِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى
صُورَ فَاقْتَتَلُوا ، وَظَفِرَ الْمُسْلِمُونَ ، وَانْهَزَمَ
الرُّومُ ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ جَمْعٌ ، فَلَمَّا انْهَزَمُوا انْخَذَلَ
أَهْلُ صُورَ ، وَضَعُفَتْ نُفُوسُهُمْ ، فَمَلَكَ الْبَلَدَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَمْدَانَ ، وَنَهَبَهُ ، وَأُخِذَتِ الْأَمْوَالُ ، وَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْ جُنْدِهِ ، وَكَانَ أَوَّلُ فَتْحٍ كَانَ عَلَى يَدِ
أَرْجُوَانَ ، وَأُخِذَ
عِلَاقَةُ أَسِيرًا فَسَيَّرَهُ إِلَى
مِصْرَ ، فَسُلِخَ وَصُلِبَ بِهَا ، وَأَقَامَ
بِصُورَ ، وَسَارَ
جَيْشُ بْنِ الصَّمْصَامَةِ لِقَصْدِ
الْمُفَرِّجِ بْنِ دَغْفَلٍ ، فَهَرَبَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ، ( وَأَرْسَلَ يَطْلُبُ الْعَفْوَ فَأَمَّنَهُ .
وَسَارَ جَيْشٌ أَيْضًا إِلَى عَسْكَرِ
الرُّومِ ) ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى
دِمَشْقَ تَلَقَّاهُ أَهْلُهَا مُذْعِنِينَ ، فَأَحْسَنَ إِلَى رُؤَسَاءِ الْأَحْدَاثِ ، وَأَطْلَقَ الْمُؤَنَ ، وَأَبَاحَ دَمَ كُلِّ مَغْرِبِيٍّ يَتَعَرَّضُ لِأَهْلِهَا ، فَاطْمَأَنُّوا إِلَيْهِ .
وَسَارَ إِلَى
أَفَامِيَةَ ، فَصَافَّ
الرُّومَ عِنْدَهَا ، فَانْهَزَمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ ، مَا عَدَا
بِشَارَةَ الْإِخْشِيدِيَّ ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ . وَنَزَلَ
الرُّومُ إِلَى سَوَادِ الْمُسْلِمِينَ يَغْنَمُونَ مَا فِيهِ ،
وَالدُّوقَسُ وَاقِفٌ عَلَى رَايَتِهِ ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَلَدُهُ وَعِدَّةُ غِلْمَانٍ ، فَقَصَدَهُ كُرْدِيٌّ يُعْرَفُ
بِأَحْمَدَ بْنِ الضَّحَّاكِ ، مِنْ أَصْحَابِ
بِشَارَةَ ، وَمَعَهُ خَشَتٌ ، فَظَنَّهُ
الدُّوقَسُ مُسْتَأْمَنًا ، فَلَمْ
[ ص: 480 ] يَحْتَرِزُ مِنْهُ ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ حَمَلَ عَلَيْهِ وَضَرَبَهُ بِالْخَشَتِ فَقَتَلَهُ ، فَصَاحَ الْمُسْلِمُونَ : قُتِلَ عَدُوُّ اللَّهِ ! وَعَادُوا وَنَزَلَ النَّصْرُ عَلَيْهِمْ ، فَانْهَزَمَتِ
الرُّومُ وَقُتِلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ .
وَسَارَ جَيْشٌ إِلَى بَابِ
أَنْطَاكِيَةَ يَغْنَمُ وَيَسْبِي وَيَحْرِقُ ، وَعَادَ إِلَى
دِمَشْقَ فَنَزَلَ بِظَاهِرِهَا ، وَكَانَ الزَّمَانُ شِتَاءً ، فَسَأَلَهُ
أَهْلُ دِمَشْقَ لِيَدْخُلَ الْبَلَدَ ، فَلَمْ يَفْعَلْ ، وَنَزَلَ بِبَيْتِ لَهْيَا ، وَأَحْسَنَ السِّيرَةَ فِي أَهْلِ
دِمَشْقَ ، وَاسْتَخَصَّ رُؤَسَاءَ الْأَحْدَاثِ ، وَاسْتَحْجَبَ جَمَاعَةً مِنْهُمْ ، وَجَعَلَ يَبْسُطُ الطَّعَامَ كُلَّ يَوْمٍ لَهُمْ وَلِمَنْ يَجِئُ مَعَهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِمْ ، فَكَانَ يَحْضُرُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ فِي جَمْعٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَشْيَاعِهِ ، وَأَمَرَهُمْ إِذَا فَرَغُوا مِنَ الطَّعَامِ أَنْ ( يَحْضُرُوا إِلَى ) حُجْرَةٍ لَهُ يَغْسِلُونَ أَيْدِيَهُمْ فِيهَا ، فَعَبَرَ عَلَى ذَلِكَ بُرْهَةً مِنَ الزَّمَانِ ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنَّ رُؤَسَاءَ الْأَحْدَاثِ ، إِذَا دَخَلُوا الْحُجْرَةَ لِغَسْلِ أَيْدِيهِمْ ، أَنْ يُغْلِقُوا بَابَ الْحُجْرَةِ عَلَيْهِمْ ، وَيَضَعُوا السَّيْفَ فِي أَصْحَابِهِمْ ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ حَضَرُوا الطَّعَامَ ، وَقَامَ الرُّؤَسَاءُ إِلَى الْحُجْرَةِ ، فَأُغْلِقَتِ الْأَبْوَابُ عَلَيْهِمْ ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ نَحْوُ ثَلَاثَةِ آلَافِ رَجُلٍ ، وَدَخَلَ
دِمَشْقَ فَطَافَهَا ، فَاسْتَغَاثَ النَّاسُ وَسَأَلُوهُ الْعَفْوَ وَعَفَا عَنْهُمْ ، وَأَحْضَرَ أَشْرَافَ أَهْلِهَا ، وَقَتَلَ رُؤَسَاءَ الْأَحْدَاثِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ، وَسَيَّرَ الْأَشْرَافَ إِلَى
مِصْرَ ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وَنِعَمَهُمْ ، ثُمَّ مَرِضَ بِالْبَوَاسِيرِ وَشِدَّةِ الضَّرَبَانِ فَمَاتَ .
وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ
مُحَمَّدٌ ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ هَذِهِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ . ثُمَّ إِنَّ
أَرْجُوَانَ بَعْدَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ رَاسَلَ بَسِيلَ مَلِكَ
الرُّومِ وَهَادَنَهُ عَشْرَ سِنِينَ ، وَاسْتَقَامَتِ الْأُمُورُ عَلَى يَدِ
أَرْجُوَانَ . وَسَيَّرَ أَيْضًا جَيْشًا إِلَى
بَرْقَةَ ،
وَطَرَابُلُسَ الْغَرْبِ فَفَتَحَهَا ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا
أَنَسًا الصَّقْلَبِيَّ وَنَصَحَ
الْحَاكِمَ ، وَبَالَغَ فِي ذَلِكَ ، وَلَازَمَ خِدْمَتَهُ فَثَقُلَ مَكَانُهُ عَلَى
الْحَاكِمِ ، فَقَتَلَهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ [ وَثَلَاثِمِائَةٍ ] .
[ ص: 481 ] وَكَانَ خَصِيًّا أَبْيَضَ ، وَكَانَ
لِأَرْجُوَانَ وَزِيرٌ نَصْرَانِيٌّ اسْمُهُ (
فَهْدُ بْنُ ) إِبْرَاهِيمَ ، فَاسْتَوْزَرَهُ
الْحَاكِمُ ، ثُمَّ إِنَّ
الْحَاكِمَ رَتَّبَ
الْحُسَيْنَ بْنَ جَوْهَرٍ مَوْضِعَ
أَرْجُوَانَ ، وَلَقَّبَهُ قَائِدَ الْقُوَّادِ ثُمَّ قَتَلَ
الْحَسَنَ بْنَ عَمَّارٍ ، الْمُقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، ثُمَّ
قَتَلَ الْحُسَيْنَ بْنَ جَوْهَرٍ ، وَلَمْ يَزَلْ يُقِيمُ الْوَزِيرَ بَعْدَ الْوَزِيرِ وَيَقْتُلُهُمْ . ثُمَّ جَهَّزَ
يَارَخْتِكِينَ لِلْمَسِيرِ إِلَى
حَلَبَ ، وَحَصَرَهَا ، وَسَيَّرَ مَعَهُ الْعَسَاكِرَ الْكَثِيرَةَ ، فَسَارَ عَنْهَا ، فَخَافَهُ
حَسَّانُ بْنُ الْمُفَرِّجِ الطَّائِيُّ ، فَلَمَّا رَحَلَ مِنْ
غَزَّةَ إِلَى
عَسْقَلَانَ كَمَنَ لَهُ
حَسَّانٌ وَوَالِدُهُ ، وَأَوْقَعَا بِهِ وَبِمَنْ مَعَهُ ، وَأَسَرَاهُ وَقَتَلَاهُ ، وَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ قَتْلَى كَثِيرٌ ، وَحَصَرَا
الرَّمْلَةَ ، وَنَهَبَا النَّوَاحِيَ ، وَكَثُرَ جَمْعُهُمَا ، وَمَلَكَا
الرَّمْلَةَ وَمَا وَالَاهَا ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى
الْحَاكِمِ ، وَأَرْسَلَ يُعَاتِبُهُمَا ، وَسَبَقَ السَّيْفُ الْعَذَلَ ، فَأَرْسَلَا إِلَى
nindex.php?page=showalam&ids=14339الشَّرِيفِ أَبِي الْفُتُوحِ الْحَسَنِ بْنِ جَعْفَرٍ الْعَلَوِيِّ الْحَسَنِيِّ ، أَمِيرِ
مَكَّةَ ، وَخَاطَبَاهُ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَطَلَبَاهُ إِلَيْهِمَا لِيُبَايِعَا لَهُ بِالْخِلَافَةِ ، فَحَضَرَ ، وَاسْتَنَابَ
بِمَكَّةَ ، وَخُوطِبَ بِالْخِلَافَةِ .
ثُمَّ إِنَّ
الْحَاكِمَ رَاسَلَ
حَسَّانًا وَأَبَاهُ ، وَضَمِنَ لَهُمَا الْأَقْطَاعَ الْكَثِيرَةَ وَالْعَطَاءَ الْجَزِيلَ ، وَاسْتَمَالَهُمَا ، فَعَدَلَا عَنْ
أَبِي الْفُتُوحِ ، وَرَدَّاهُ إِلَى
مَكَّةَ ، وَعَادَا إِلَى طَاعَةِ
الْحَاكِمِ .
ثُمَّ إِنَّ
الْحَاكِمَ جَهَّزَ عَسْكَرًا إِلَى
الشَّامِ ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ
عَلِيَّ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ فَلَاحٍ ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى
الرَّمْلَةِ أَزَاحَ
حَسَّانَ بْنَ الْمُفَرِّجِ وَعَشِيرَتَهُ عَنْ تِلْكَ الْأَرْضِ ، وَأَخَذَ مَا كَانَ لَهُ مِنَ الْحُصُونِ
بِجَبَلِ الشَّرَّانِ ، وَاسْتَوْلَى عَلَى أَمْوَالِهِ وَذَخَائِرِهِ ، وَسَارَ إِلَى
دِمَشْقَ وَالِيًا عَلَيْهَا ، فَوَصَلَ إِلَيْهَا فِي شَوَّالٍ سَنَةَ تِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ .
[ ص: 482 ] وَأَمَّا
حَسَّانٌ فَإِنَّهُ بَقِيَ شَرِيدًا نَحْوُ سَنَتَيْنِ ، ثُمَّ أَرْسَلَ وَالِدَهُ إِلَى
الْحَاكِمِ فَأَمَّنَهُ وَأَقْطَعُهُ ، فَسَارَ
حَسَّانٌ إِلَيْهِ
بِمِصْرَ ، فَأَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ ، وَكَانَ
الْمُفَرِّجُ وَالِدُ
حَسَّانٍ قَدْ تُوُفِّيَ مَسْمُومًا ، وَضَعَ
الْحَاكِمُ عَلَيْهِ مَنْ سَمَّهُ ، فَبِمَوْتِهِ ضَعُفَ أَمْرُ
حَسَّانٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ .