الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر وفاة القاضي منذر البلوطي

في هذه السنة ، في ذي القعدة ، مات القاضي منذر بن سعيد البلوطي ، أبو الحاكم ، قاضي قضاة الأندلس ، وكان إماما فقيها ، خطيبا ، شاعرا ، فصيحا ، ذا دين متين ، دخل على عبد الرحمن الناصر ، صاحب الأندلس ، بعد أن فرغ من بناء الزهراء وقصورها ، وقد قعد في قبة مزخرفة بالذهب ، والبناء البديع الذي لم يسبق إليه ، ومعه جماعة من الأعيان ، فقال عبد الرحمن الناصر : هل بلغكم أن أحدا بنى مثل هذا البناء ؟ فقال له الجماعة : لم [ ص: 347 ] نر ولم نسمع بمثله ، وأثنوا وبالغوا ، والقاضي مطرق ، فاستنطقه عبد الرحمن ، فبكى القاضي ، وانحدرت دموعه على لحيته ، وقال : والله ما كنت أظن أن الشيطان ، أخزاه الله تعالى ، يبلغ منك هذا المبلغ ، ولا أن تمكنه من قيادك هذا التمكن ، مع ما آتاك الله ، وفضلك به ، حتى أنزلك منازل الكافرين .

فقال له عبد الرحمن : انظر ما تقول ، وكيف أنزلني منزل الكافرين ؟ فقال : قال الله تعالى : ( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا ) إلى قوله : ( والآخرة عند ربك للمتقين ) .

فوجم عبد الرحمن وبكى ، وقال : جزاك الله خيرا ، وأكثر في المسلمين مثلك .

وأخبار هذا القاضي كثيرة حسنة جدا ، منها : أنه قحط الناس وأرادوا الخروج للاستسقاء ، فأرسل إليه عبد الرحمن يأمره بالخروج ، فقال القاضي للرسول : يا ليت شعري ما الذي يصنعه الأمير يومنا هذا ؟ فقال : ما رأيته قط أخشع منه الآن ، قد لبس خشن الثياب ، وافترش التراب ، وجعله على رأسه ولحيته ، وبكى ، واعترف بذنوبه ، ويقول : هذه ناصيتي بيديك ، أتراك تعذب هذا الخلق لأجلي ؟

فقال القاضي يا غلام احمل الممطر معك ، فقد أذن الله بسقيانا ، إذا خشع جبار الأرض رحم جبار السماء ، فخرج واستسقى بالناس ، فلما صعد المنبر ورأى الناس قد شخصوا إليه بأبصارهم قال : ( سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح ) الآية ، وكررها ، فضج الناس بالبكاء والتوبة ، وتمم خطبته فسقي الناس .

التالي السابق


الخدمات العلمية