ذكر أسر   صالح بن مرداس  وملكه حلب  وملك أولاده  
في هذه السنة كانت وقعة بين  أبي نصر بن لؤلؤ  صاحب حلب  ، وبين   صالح بن مرداس  ، وكان  ابن لؤلؤ  من موالي  سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان  ، فقوي على ولد  سعد الدولة  وأخذ البلد منه ، وخطب للحاكم صاحب مصر  ، ولقبه  الحاكم مرتضى الدولة     . 
 [ ص: 577 ] ثم فسد ما بينه وبين  الحاكم  ، فطمع فيه   ابن مرداس  ، وبنو كلاب  ، وكانوا يطالبونه بالصلات والخلع . ثم إنهم اجتمعوا هذه السنة في خمسمائة فارس ، ودخلوا مدينة حلب  ، فأمر  ابن لؤلؤ  بإغلاق الأبواب والقبض عليهم ، فقبض على مائة وعشرين رجلا ، منهم   صالح بن مرداس  ، وحبسهم ، وقتل مائتين ، وأطلق من لم يفكر به . 
وكان  صالح  قد تزوج بابنة عم له يسمى  جابرا  ، وكانت جميلة ، فوصفت  لابن لؤلؤ  ، فخطبها إلى إخوتها ، وكانوا في حبسه ، فذكروا له أن  صالحا  قد تزوجها ، فلم يقبل منهم ، وتزوجها ، ثم أطلقهم ، وبقي   صالح بن مرداس  في الحبس ، فتوصل حتى صعد من السور وألقى نفسه من أعلى القلعة إلى تلها ، واختفى في مسيل ماء . 
ووقع الخبر بهربه ، فأرسل  ابن لؤلؤ  الخيل في طلبه ، فعادوا ولم يظفروا به . فلما سكن عنه الطلب سار بقيده ولبنة حديد في رجليه ، حتى وصل قرية تعرف بالياسرية ، فرأى ناسا من العرب فعرفوه وحملوه إلى أهله بمرج دابق ، فجمع ألفي فارس فقصد حلب  وحاصرها اثنين وثلاثين يوما ، فخرج إليه  ابن لؤلؤ  ، ( فقاتله ، فهزمهم )  صالح  وأسر  ابن لؤلؤ  ، وقيده بقيده الذي كان في رجله ولبنته . وكان  لابن لؤلؤ  أخ فنجا وحفظ مدينة حلب    . 
ثم إن  ابن لؤلؤ  بذل  لابن مرداس  مالا على أن يطلقه ، فلما استقر الحال بينهما أخذ رهائنه وأطلقه ، فقالت أم صالح  لابنها : قد أعطاك الله ما لا كنت تؤمله ، فإن رأيت أن تتم صنيعك بإطلاق الرهائن فهو المصلحة ، فإنه إن أراد الغدر بك لا يمنعه من عندك ؛ فأطلقهم ، فلما دخلوا البلد حمل  ابن لؤلؤ  إليه أكثر مما استقر ، وكان قد تقرر عليه مائتا ألف دينار ، ومائة ثوب ، وإطلاق كل أسير عنده من بني كلاب   [ ص: 578 ] فلما انفصل الحال ورحل  صالح  أراد  ابن لؤلؤ  قبض غلامه فتح ، وكان دزدار القلعة ، لأنه اتهمه بالممالأة على الهزيمة ، وكان خلاف ظنه ، فأطلع على ذلك غلاما له اسمه  سرور  ، وأراد أن يجعله مكان فتح ، فأعلم سرور بعض أصدقائه ويعرف  بابن غانم     . 
وسبب إعلامه أنه حضر عنده ، وكان يخاف  ابن لؤلؤ  لكثرة ماله ، فشكا إلى  سرور  ذلك ، فقال له : سيكون أمر تأمن معه; فسأله ، فكتمه ، فلم يزل يخدعه حتى أعلمه الخبر . 
وكان بين  ابن غانم  وبين فتح مودة ، فصعد إليه بالقلعة متنكرا ، فأعلمه الخبر ، وأشار عليه بمكاتبة  الحاكم  صاحب مصر  ، وأمر  ابن لؤلؤ  أخاه  أبا الجيش  بالصعود إلى القلعة بحجة افتقاد الخزائن ، فإذا صار فيها قبض على فتح ، وأرسل إلى فتح يعلمه أنه يريد افتقاد الخزائن ، ويأمره بفتح الأبواب ، فقال فتح : إنني قد شربت اليوم دواء ، وأسأل تأخير الصعود في هذا اليوم ، فإنني لا أثق في فتح الأبواب لغيري ; وقال للرسول : إذا لقيته فاردده . فلما علم  ابن لؤلؤ  الحال ، أرسل والدته إلى فتح ليعلم سبب ذلك ، فلما صعدت إليه أكرمها ، وأظهر لها الطاعة ، فعادت وأشارت على ابنها بترك محاقته ففعل ، وأرسل إليه يطلب جوهرا كان له بالقلعة ، فغالطه فتح ولم يرسله ، فسكت على مضض لعلمه أن المحاقة لا تفيد لحصانة القلعة ، وأشارت والدة  ابن لؤلؤ  عليه بأن يتمارض ، ويظهر شدة المرض ، ويستدعي الفتح لينزل إليه ليجعله وصيا ، فإذا حضر قبضه . ففعل ذلك ، فلم ينزل الفتح ، واعتذر ، وكاتب  الحاكم  ، وأظهر طاعته ، وخطب له ، وأظهر العصيان على أستاذه ، وأخذ من  الحاكم  صيدا  ، وبيروت  ، وكل ما في حلب  من الأموال . وخرج  ابن لؤلؤ  من حلب  إلى أنطاكية  ، وبها الروم  ، فأقام عندهم . 
وكان   صالح بن مرداس  قد مالأ الفتح على ذلك ، فلما عاد عن حلب  استصحب معه والدة ابن لؤلؤ  ونساءه ، وتركهن بمنبج ، وتسلم حلب  نواب  الحاكم  ، وتنقلت   [ ص: 579 ] بأيديهم حتى صارت بيد إنسان من الحمدانية يعرف  بعزيز الملك  ، فقدمه  الحاكم  واصطنعه وولاه حلب  ، فلما قتل  الحاكم  وولي  الظاهر  عصى عليه ، فوضعت ست الملك  أخت  الحاكم  فراشا له على قتله فقتله . 
وكان للمصريين  بالشام  نائب يعرف  بأنوشتكين الدزبري  ، وبيده دمشق  ، والرملة  ، وعسقلان ، وغيرها ، فاجتمع  حسان  أمير بني طي  ،  وصالح بن مرداس  أمير بني كلاب  ،  وسنان بن عليان  ، وتحالفوا ، واتفقوا على أن يكون من حلب  إلى عانة  لصالح  ، ومن الرملة  إلى مصر  لحسان  ، ودمشق  لسنان  ، فسار  حسان  إلى الرملة  فحصرها ، وبها  أنوشتكين  ، فسار عنها إلى عسقلان  ، واستولى عليها  حسان  ونهبها   [ ص: 580 ] وقتل أهلها ، وذلك سنة أربع عشرة وأربعمائة ، أيام  الظاهر  لإعزاز دين الله خليفة مصر    . 
وقصد  صالح  حلب  ، وبها إنسان يعرف  بابن ثعبان  يتولى أمرها للمصريين  ، وبالقلعة خادم يعرف  بموصوف  ، فأما أهل البلد فسلموه إلى  صالح  لإحسانه إليهم ، ولسوء سيرة المصريين معهم ، وصعد  ابن ثعبان  إلى القلعة ، فحصره  صالح  بالقلعة ، فغار الماء الذي بها فلم يبق لهم ما يشربون ، فسلم الجند القلعة إليه ، وذلك سنة أربع عشرة [ وأربعمائة ] ، وملك من بعلبك  إلى عانة  ، وأقام بحلب  ست سنين . 
فلما كان سنة عشرين وأربعمائة ، جهز الظاهر صاحب مصر  جيشا ، وسيرهم إلى الشام  لقتال  صالح  وحسان  ، وكان مقدم العسكر  أنوشتكين الدزبري  ، فاجتمع  صالح  وحسان  على قتاله ، فاقتتلوا بالأقحوانة  على الأردن  ، عند طبرية  ، فقتل  صالح  وولده الأصغر ، وأنفذ رأساهما إلى مصر  ، ونجا ولده  أبو كامل نصر بن صالح  ، فجاء إلى حلب  وملكها ، وكان لقبه  شبل الدولة     . 
فلما علمت الروم  بأنطاكية  الحال ، تجهزوا إلى حلب  في عالم كثير ، فخرج أهلها فحاربوهم فهزموهم ، ونهبوا أموالهم ، وعادوا إلى أنطاكية  ، وبقي  شبل الدولة  مالكا لحلب  إلى سنة تسع وعشرين وأربعمائة ، فأرسل إليه   الدزبري  العساكر   [ ص: 581 ] المصرية ، ( وصاحب مصر  حينئذ  المستنصر بالله     ) ، فلقيهم عند حماة  ، فقتل في شعبان وملك   الدزبري  حلب  في رمضان سنة تسع وعشرين [ وأربعمائة ] ، وملك الشام  جميعه ، وعظم أمره ، وكثر ماله ، وأرسل يستدعي الجند الأتراك من البلاد ، فبلغ المصريين عنه أنه عازم على العصيان ، فتقدموا إلى أهل دمشق  بالخروج عن طاعته ، ففعلوا ، فسار عنها نحو حلب  في ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين [ وأربعمائة ] وتوفي بعد ذلك بشهر واحد . 
وكان  أبو علوان ثمال بن صالح بن مرداس الملقب بمعز الدولة  بالرحبة  ، فلما بلغه موت   الدزبري  جاء إلى حلب  فملكها تسليما من أهلها ، وحاصر امرأة الدزبري  وأصحابه بالقلعة أحد عشر شهرا ، وملكها في صفر سنة أربع وثلاثين [ وأربعمائة ] فبقي فيها إلى سنة أربعين . فأنفذ المصريون إلى محاربته  أبا عبد الله بن ناصر الدولة بن حمدان  ، فخرج أهل حلب  إلى حربه ، فهزمهم ، واختنق منهم بالباب جماعة ، ثم إنه رحل عن حلب  وعاد إلى مصر  ، وأصابهم سيل ذهب بكثير من دوابهم وأثقالهم . فأنفذ المصريون إلى قتال  معز الدولة  خادما يعرف برفق فخرج إليه في أهل حلب  فقاتلوه ، فانهزم المصريون ، وأسر رفق ، ومات عندهم ، وكان أسره سنة إحدى وأربعين [ وأربعمائة ] في ربيع الأول . 
ثم إن  معز الدولة  بعد ذلك أرسل الهدايا إلى المصريين ، وأصلح أمره معهم ، ونزل لهم عن حلب  ، فأنفذوا إليها  أبا علي الحسن بن علي بن ملهم  ، ولقبوه  مكين   [ ص: 582 ] الدولة  ، فتسلمها من ثمال في ذي القعدة سنة تسع وأربعين [ وأربعمائة ] ، وسار ثمال إلى مصر  في ذي الحجة وسار أخوه (  أبو ذؤابة ) عطية بن صالح  إلى الرحبة  ، وأقام  ابن ملهم  بحلب  ، فجرى بين بعض السودان  وأحداث حلب  حرب . 
وسمع  ابن ملهم  أن بعض أهل حلب  قد كاتب  محمود بن شبل الدولة نصر بن صالح  يستدعونه ليسلموا البلد إليه ، فقبض على جماعة منهم ، وكان منهم رجل يعرف  بكامل بن نباتة  ، فخاف ، فجلس يبكي ، وكان يقول لكل من سأله عن بكائه : إن أصحابنا الذين أخذوا قد قتلوا ، وأخاف على الباقين ، فاجتمع أهل البلد ، واشتدوا ، وراسلوا  محمودا  ، وهو عنهم مسيرة يوم ، يستدعونه ، وحصروا  ابن ملهم  ، وجاء  محمود  وحصره معهم في جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين [ وأربعمائة ] . 
ووصلت الأخبار إلى مصر  ، فسيروا  ناصر الدولة أبا علي بن ناصر الدولة بن حمدان  في عسكر ، بعد اثنين وثلاثين يوما من دخول  محمود  حلب  ، فلما قارب البلد خرج  محمود  عن حلب  إلى البرية ، واختفى الأحداث جميعهم ، وكان  عطية بن صالح  نازلا بقرب البلد ، وقد كره فعل  محمود  ابن أخيه ، فقبض  ابن ملهم  على مائة وخمسين من الأحداث ، ونهب وسط البلد ، وأخذ أموال الناس . 
وأما  ناصر الدولة  فلم يمكن أصحابه من دخول البلد ونهبه ، وسار في طلب  محمود  ، فالتقيا بالفنيدق في رجب ، فانهزم أصحاب  ابن حمدان  ، وثبت هو فجرح ، وحمل إلى  محمود  أسيرا ، فأخذه وسار إلى حلب  فملكها ، وملك القلعة في شعبان سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة ، وأطلق  ابن حمدان  ، فسار هو  وابن ملهم  إلى مصر  ،   [ ص: 583 ] فجهز المصريون  معز الدولة ثمال بن صالح  إلى ابن أخيه ، فحصره ( في حلب    ) في ذي الحجة من السنة ، فاستنجد  محمود  خاله  منيع بن شبيب بن وثاب النميري  ، صاحب حران  ، فجاء إليه ، فلما بلغ  ثمالا  مجيئه سار عن حلب  إلى البرية في المحرم سنة ثلاث وخمسين [ وأربعمائة ] . 
وعاد منيع إلى حران  ، فعاد  ثمال  إلى حلب  ، وخرج إليه  محمود  ابن أخيه ، فاقتتلوا ، وقاتل  محمود  قتالا شديدا ، ثم انهزم  محمود  فمضى إلى أخواله بني نمير  بحران  ، وتسلم ثمال حلب  في ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين [ وأربعمائة ] ، وخرج إلى الروم  ، فغزاهم ، ثم توفي بحلب  في ذي القعدة سنة أربع وخمسين [ وأربعمائة ] ، وكان كريما ، وحليما ، وأوصى بحلب  لأخيه  عطية بن صالح  فملكها . 
ونزل به قوم من التركمان مع  ابن خان التركماني  ، فقوي بهم ، فأشار أصحابه بقتلهم ، فأمر أهل البلد بذلك ، فقتلوا منهم جماعة ، ونجا الباقون ، فقصدوا  محمودا  بحران  ، واجتمعوا معه على حصار حلب  ، فحصرها وملكها في رمضان سنة أربع وخمسين [ وأربعمائة ] . 
وقصد عمه عطيةالرقة  فملكها ، ولم يزل بها حتى أخذها منه شرف الدولة  مسلم بن قريش  سنة ثلاث وستين [ وأربعمائة ] ، وسار  عطية  إلى بلد الروم  ، فمات بالقسطنطينية  سنة خمس وستين . 
وأرسل  محمود التركمان  مع أميرهم  ابن خان  إلى أرتاح  ، فحصرها وأخذها من الروم  سنة ستين [ وأربعمائة ] ، وسار  محمود  إلى طرابلس  ، فحصرها ، وأخذ من أهلها مالا وعاد ، وأرسله  محمود  في رسالة إلى السلطان ألب أرسلان ، ومات   [ ص: 584 ] محمود  في حلب  سنة ثمان وستين [ وأربعمائة ] في ذي الحجة ، ووصى بها بعده لابنه  شيب  ، فلم ينفذ أصحابه وصيته لصغره ، وسلموا البلد إلى ولده الأكبر ، واسمه  نصر  ، وجده لأمه الملك   العزيز بن الملك جلال الدولة بن بويه  وتزوجها عند دخولهم مصر  لما ملك  طغرلبك  العراق    . 
وكان  نصر  يدمن شرب الخمر ، فحمله السكر على أن خرج إلى التركمان الذين ملكوا أباه البلد ، وهم بالحاضر ، يوم الفطر ، فلقوه ، وقبلوا الأرض بين يديه ، فسبهم وأراد قتلهم ، فرماه أحدهم بنشابة فقتله ، وملك أخوه سابق ، وهو الذي كان أبوه أوصى له بحلب  ، فلما صعد القلعة استدعى  أحمد  شاه مقدم التركمان ، وخلع عليه ، وأحسن إليه ، وبقي فيها إلى سنة اثنتين وسبعين [ وأربعمائة ] ، فقصده   تتش بن ألب أرسلان  ، فحصره بحلب  أربعة أشهر ونصفا ، ثم رحل عنه ، ونازله  شرف الدولة  ، فأخذ البلد منه ، على ما نذكره إن شاء الله تعالى ; ( فهذه جميع أخبار  بني مرداس  أتيت بها متتابعة لئلا تجهل إذا تفرقت ) . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					