ذكر فتح  صلاح الدين  طبرية   
لما اجتمع الفرنج وساروا إلى صفورية  ، جمع  صلاح الدين  أمراءه ووزراءه   [ ص: 23 ] واستشارهم ، فأشار أكثرهم عليه بترك اللقاء وأن يضعف الفرنج بشن الغارات ، وإخراب الولايات مرة بعد مرة . 
فقال له بعض أمرائه : الرأي عندي أننا نجوس بلادهم ، وننهب ، ونخرب ، ونحرق ، ونسبي ، فإن وقف أحد من العسكر الفرنج بين أيدينا لقيناه ، فإن الناس بالمشرق يلعنوننا ويقولون ترك قتال الكفار ، وأقبل يريد قتال المسلمين ، الرأي أن نفعل فعلا نعذر فيه ونكف الألسنة عنا . 
فقال  صلاح الدين     : الرأي عندي أن نلقى بجمع المسلمين جمع الكفار ، فإن الأمور لا تجري بحكم الإنسان ، ولا نعلم قدر الباقي من أعمارنا ، ولا ينبغي أن نفرق هذا الجمع إلا بعد الجد بالجهاد . 
ثم رحل من الأقحوانة  اليوم الخامس من نزوله بها ، وهو يوم الخميس لسبع بقين من ربيع الآخر ، فسار حتى خلف طبرية  وراء ظهره ، وصعد جبلها ، وتقدم حتى قارب الفرنج ، فلم ير منهم أحدا ، ولا فارقوا خيامهم ، فنزل وأمر العسكر بالنزول . 
فلما جنه الليل جعل في مقابل الفرنج من يمنعهم من القتال ، ونزل جريدة إلى طبرية  وقاتلها ، ونقب بعض أبراجها ، وأخذ المدينة عنوة في ليلة ، ولجأ من بها إلى القلعة التي لها ، فامتنعوا بها ، وفيها صاحبتها ، ومعها أولادها ، فنهب المدينة وأحرقها . 
فلما سمع الفرنج نزول  صلاح الدين  إلى طبرية  وملكه المدينة ، وأخذ ما فيها ، وإحراقها ، وإحراق ما تخلف مما لا يحمل ، اجتمعوا للمشورة ، فأشار بعضهم بالتقدم إلى المسلمين وقتالهم ، ومنعهم عن طبرية    . 
فقال  القمص     : إن طبرية  لي ولزوجتي ، وقد فعل  صلاح الدين  بالمدينة ما فعل ، وبقي القلعة ، وفيها زوجتي ، وقد رضيت أن يأخذ القلعة وزوجتي وما لنا بها ويعود ، فوالله لقد رأيت عساكر الإسلام قديما وحديثا ما رأيت مثل هذا العسكر الذي مع  صلاح الدين  كثرة وقوة ، وإذا أخذ طبرية  لا يمكنه المقام بها ، فمتى فارقها وعاد عنها أخذناها ، وإن أقام بها لا يقدر على المقام بها إلا بجميع عساكره ، ولا يقدرون على الصبر طول الزمان عن أوطانهم وأهليهم فيضطر إلى تركها ، ونفتك من أسر منا . 
فقال له  برنس أرناط  ، صاحب الكرك    : قد أطلت في التخويف من المسلمين ، ولا شك أنك تريدهم ، وتميل إليهم ، وإلا ما كنت تقول هذا ، وأما قولك : إنهم كثيرون ، فإن النار لا يضرها كثرة الحطب . 
فقال : أنا واحد منكم إن تقدمتم تقدمت ، وإن تأخرتم تأخرت ، وسترون ما يكون . 
 [ ص: 24 ] فقوي عزمهم على التقدم إلى المسلمين وقتالهم ، فرحلوا من معسكرهم الذي لزموه ، وقربوا من عساكر الإسلام ، فلما سمع  صلاح الدين  بذلك عاد عن طبرية  إلى عسكره ، وكان قريبا منه ، وإنما كان قصده بمحاصرة طبرية  أن يفارق الفرنج مكانهم ليتمكن من قتالهم . 
وكان المسلمون قد نزلوا على الماء ، والزمان قيظ شديد الحر ، فوجد الفرنج العطش ، ولم يتمكنوا من الوصول إلى ذلك الماء من المسلمين ، وكانوا قد أفنوا ما هناك من ماء الصهاريج ولم يتمكنوا من الرجوع خوفا من المسلمين ، فبقوا على حالهم إلى الغد ، وهو يوم السبت ، وقد أخذ العطش منهم . 
وأما المسلمون فإنهم فيهم ، وكانوا من قبل يخافونهم ، فباتوا يحرض بعضهم بعضا ، وقد وجدوا ريح النصر والظفر ، وكلما رأوا حال الفرنج خلاف عادتهم مما ركبهم من الخذلان ، زاد طمعهم وجرأتهم ، فأكثروا التكبير والتهليل طول ليلتهم ، ورتب السلطان تلك الليلة الجاليشية ، وفرق فيهم النشاب . 
				
						
						
