ذكر انهزام الفرنج بحطين   
أصبح  صلاح الدين  والمسلمون يوم السبت لخمس بقين من ربيع الآخر ، فركبوا وتقدموا إلى الفرنج ، ودنا بعضهم من بعض ، إلا أن الفرنج قد اشتد بهم العطش وانخذلوا ، فاقتتلوا ، واشتد القتال ، وصبر الفريقان ، ورمى جاليشية المسلمين من النشاب ما كان كالجراد المنتشر ، فقتلوا من خيول الفرنج كثيرا . 
هذا القتال بينهم ، والفرنج قد جمعوا نفوسهم براجلهم وهم يقاتلون سائرين ، نحو طبرية  ، لعلهم يردون الماء . 
فلما علم  صلاح الدين  مقصدهم صدهم عن مرادهم ، ووقف بالعسكر في وجوههم ، وطاف بنفسه على المسلمين يحرضهم ، ويأمرهم بما يصلحهم ، وينهاهم عما يضرهم ، والناس يأتمرون لقوله ، ويقفون عند نهيه . 
فحمل مملوك من مماليكه الصبيان حملة منكرة على صف الفرنج ، فقاتل قتالا عجب منه الناس . ثم تكاثر الفرنج عليه فقتلوه ، فحين قتل حمل المسلمون حملة منكرة فضعضعوا الكفار وقتلوا منهم كثيرا . 
فلما رأى  القمص  شدة الأمر علم أنهم لا طاقة لهم بالمسلمين ، فاتفق هو   [ ص: 25 ] وجماعته وحملوا على من يليهم ، وكان المقدم من المسلمين ، في تلك الناحية ،  تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين  ، فلما رأى حملة الفرنج حملة مكروب ، علم أنه لا سبيل إلى الوقوف في وجوههم . فأمر أصحابه أن يفتحوا لهم طريقا يخرجون منه ، ففعلوا فخرج  القمص  وأصحابه ثم التأم الصف . 
وكان بعض المتطوعة من المسلمين قد ألقى في تلك الأرض نارا ، وكان الحشيش كثيرا فاحترق ، وكانت الريح على الفرنج فحملت حر النار والدخان إليهم ، فاجتمع عليهم العطش ، وحر الزمان ، وحر النار ، والدخان ، وحر القتال . 
فلما انهزم  القمص  سقط في أيديهم وكادوا يستسلمون ، ثم علموا أنهم لا ينجيهم من الموت إلا الإقدام عليه ، فحملوا حملات متداركة كادوا يزيلون [ بها ] المسلمين ، على كثرتهم ، عن مواقفهم لولا لطف الله بهم . 
إلا أن الفرنج لا يحملون حملة فيرجعون إلا وقد قتل منهم ، فوهنوا لذلك وهنا عظيما ، فأحاط بهم المسلمون إحاطة الدائرة بقطرها ، فارتفع من بقي من الفرنج إلى تل بناحية حطين  ، وأرادوا أن ينصبوا خيامهم ، ويحموا نفوسهم به ، فاشتد القتال عليهم من سائر الجهات ، ومنعوهم عما أرادوا ، ولم يتمكنوا من نصب خيمة غير خيمة ملكهم . 
وأخذ المسلمون صليبهم الأعظم الذي يسمونه صليب الصلبوت ، ويذكرون أن فيه قطعة من الخشبة التي صلب عليها المسيح    - عليه السلام - بزعمهم ، فكان أخذه عندهم من أعظم المصائب عليهم ، وأيقنوا بعده بالقتل والهلاك . 
هذا والقتل والأسر يعملان في فرسانهم ورجالتهم ، فبقي الملك على التل في مقدار مائة وخمسين فارسا من الفرسان المشهورين والشجعان المذكورين . 
فحكي لي عن  الملك الأفضل     - ولد  صلاح الدين     - قال : كنت إلى جانب أبي في ذلك المصاف ، وهو أول مصاف شاهدته ، فلما صار ملك الفرنج على التل في تلك الجماعة حملوا حملة منكرة على من بإزائهم من المسلمين حتى ألحقوهم بوالدي . 
قال : فنظرت إليه ، وقد علته كآبة ، واربد لونه ، وأمسك بلحيته ، وتقدم ، وهو يصيح : كذب الشيطان ، قال : فعاد المسلمون على الفرنج ، فرجعوا إلى التل ، فلما رأيت الفرنج قد عادوا ، والمسلمون يتبعونهم ، صحت من فرحي : هزمناهم ! فعاد الفرنج فحملوا حملة ثانية مثل الأولى حتى ألحقوا المسلمين بوالدي ، وفعل مثل ما فعل أولا . 
وعطف المسلمون عليهم فألحقوهم بالتل ، فصحت أنا أيضا : هزمناهم ! فالتفت والدي إلي وقال : اسكت ! ما نهزمهم حتى تسقط تلك الخيمة ، قال : فهو يقول   [ ص: 26 ] لي ، وإذا الخيمة قد سقطت ، فنزل السلطان وسجد شكرا لله تعالى ، وبكى من فرحه . 
وكان سبب سقوطها أن الفرنج لما حملوا تلك الحملات ازدادوا عطشا ، وقد كانوا يرجون الخلاص في بعض تلك الحملات مما هم فيه ، فلما لم يجدوا إلى الخلاص طريقا ، نزلوا عن دوابهم وجلسوا على الأرض ، فصعد المسلمون إليهم ، فألقوا خيمة الملك ، وأسروهم على بكرة أبيهم ، وفيهم الملك وأخوه ،  والبرنس أرناط  ، صاحب الكرك  ، ولم يكن للفرنج أشد منه عداوة للمسلمين . 
وأسروا أيضا صاحب جبيل  ،  وابن هنفري  ، ومقدم الداوية  ، وكان من أعظم الفرنج شأنا ، وأسروا أيضا جماعة من الداوية  ، وجماعة من الاسبتارية  ، وكثر القتل والأسر فيهم ، فكان من يرى القتلى لا يظن أنهم أسروا واحدا ، ومن يرى الأسرى لا يظن أنهم قتلوا أحدا ، وما أصيب الفرنج ، منذ خرجوا إلى الساحل ، وهو سنة إحدى وتسعين وأربعمائة إلى الآن ، بمثل هذه الوقعة . 
فلما فرغ المسلمون منهم نزل  صلاح الدين  في خيمته ، وأحضر ملك الفرنج عنده ، وبرنس صاحب الكرك  ، وأجلس الملك إلى جانبه وقد أهلكه العطش ، فسقاه ماء مثلوجا ، فشرب ، وأعطى فضله  برنس صاحب الكرك   ، فشرب . 
فقال  صلاح الدين     : إن هذا الملعون لم يشرب الماء بإذني فينال أماني ، ثم كلم  البرنس  ، وقرعه بذنوبه ، وعدد عليه غدراته ، وقام إليه بنفسه فضرب رقبته ، وقال : كنت نذرت دفعتين أن أقتله إن ظفرت به : إحداهما لما أراد المسير إلى مكة  والمدينة  ، والثانية لما أخذ القفل غدرا ، فلما قتله وسحب وأخرج ارتعدت فرائص الملك ، فسكن جأشه وأمنه . 
وأما  القمص  ، صاحب طرابلس  ، فإنه لما نجا من المعركة ، كما ذكرناه ، وصل إلى صور  ، ثم قصد طرابلس  ، ولم يلبث إلا أياما قلائل حتى مات غيظا وحنقا مما   [ ص: 27 ] جرى على الفرنج خاصة ، وعلى دين النصرانية عامة . 
				
						
						
