فمن ذلك أنهم استحبوا للمسلمين أن يحجوا كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه . ولما اتفقت جميع الروايات على أنه أمر أصحابه بأن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها متعة استحبوا المتعة لمن جمع بين النسكين في سفرة واحدة وأحرم في أشهر الحج  ، كما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلموا أن من أفرد الحج واعتمر عقبه من الحل - وإن قالوا : إنه جائز - فإنه لم يفعله أحد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا   عائشة  ، على قول من يقول : إنها رفضت العمرة وأحرمت بالحج ، كما يقول الكوفيون . وأما على قول أكثر الفقهاء : أنها صارت قارنة : فلا   عائشة  ولا غيرها فعل ذلك . 
وكذلك علموا أن من لم يسق الهدي وقرن بين النسكين لا يفعله . وإن قال أكثرهم -  كأحمد  وغيره - إنه جائز . فإنه لم يفعله أحد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا   عائشة  ، على قول من قال : إنها كانت قارنة . 
ولم يختلف أئمة الحديث فقهاء وعلماء ،  كأحمد  وغيره : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه لم يكن مفردا للحج ، ولا كان متمتعا تمتعا حل به من إحرامه . ومن قال من أصحاب  أحمد     : إنه تمتع وحل من إحرامه فقد غلط . وكذلك من قال : إنه لم يعتمر في حجته فقد غلط . 
وأما من توهم من بعض الفقهاء أنه اعتمر بعد حجته ، كما يفعله المختارون للإفراد إذا جمعوا بين النسكين : فهذا لم يروه أحد ، ولم يقله أحد أصلا من العالمين بحجته - صلى الله عليه وسلم - . فإنه لا خلاف بينهم أنه - صلى الله عليه وسلم - لا هو ولا أحد من أصحابه اعتمر بعد الحج إلا عائشة . ولهذا لا   [ ص: 145 ] يعرف موضع الإحرام بالعمرة إلا بمسجد   عائشة  ، حيث لم يخرج أحد من الحرم إلى الحل فيحرم بالعمرة إلا هي ، ولا كان - صلى الله عليه وسلم - أيضا قارنا قرانا طاف فيه طوافين وسعى سعيين . فإن الروايات الصحيحة كلها تصرح بأنه إنما طاف بالبيت وبين الصفا  والمروة  قبل التعريف مرة واحدة . 
فمن قال من أصحاب   أبي حنيفة  ، أو  مالك  ، أو  الشافعي  ، أو  أحمد  شيئا من هذه المقالات فقد غلط . 
وسبب غلطه : ألفاظ مشتركة سمعها في ألفاظ الصحابة الناقلين لحجة النبي - صلى الله عليه وسلم - . فإنه قد ثبت في الصحاح عن غير واحد - منهم :   عائشة  ،  وابن عمر  وغيرهما أنه - صلى الله عليه وسلم - تمتع بالعمرة إلى الحج  وثبت أيضا عنهم أنه أفرد الحج ، وعامة الذين نقل عنهم أنه أفرد الحج ثبت عنهم أنهم قالوا : إنه تمتع بالعمرة إلى الحج   . 
وثبت عن  أنس بن مالك  أنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لبيك عمرة وحجا وعن  عمر     : أنه أخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : أتاني آت من ربي - يعني بوادي العقيق    - وقال : قل : عمرة في حجة ، ولم يحك أحد لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أحرم به إلا  عمر  وأنس     . 
فلهذا قال  الإمام أحمد     : لا أشك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارنا ، وأما   [ ص: 146 ] ألفاظ الصحابة : فإن التمتع بالعمرة إلى الحج  اسم لكل من اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه ، سواء جمع بينهما بإحرام واحد أو تحلل من إحرامه ، فهذا التمتع العام يدخل فيه القران ، ولذلك وجب عليه الهدي عند عامة الفقهاء إدخالا له في عموم قوله تعالى : ( فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي    ) [ البقرة : 196] وإن كان اسم "التمتع" قد يختص بمن اعتمر ثم أحرم بالحج بعد قضاء عمرته . فمن قال منهم : " تمتع بالعمرة إلى الحج " لم يرد أنه حل من إحرامه ، ولكن أراد : أنه جمع في حجته بين النسكين معتمرا في أشهر الحج ، لكن لم يبين : هل أحرم بالعمرة قبل الطواف بالبيت وبالجبلين ، أو أحرم بالحج بعد ذلك ؟ فإن كان قد أحرم قبل الطوافين ، فهو قارن بلا تردد . وإن كان إنما أهل بالحج بعد الطواف بالبيت وبالجبلين ، وهو لم يكن حل من إحرامه : فهذا يسمى متمتعا ؛ لأنه اعتمر قبل الإهلال بالحج ، ويسمى قارنا ؛ لأنه أحرم بالحج قبل إحلاله من العمرة . ولهذا يسميه بعض أصحابنا "متمتعا" ، ويسميه بعضهم "قارنا" ، ويسميه بعضهم بالاسمين ، وهو الأصوب . وهذا في التمتع الخاص ، فأما التمتع العام : فيشمله بلا تردد . 
ومع هذا : فالصواب ما قطع به  أحمد  من أنه - صلى الله عليه وسلم - أحرم بالحج قبل الطواف لقوله : لبيك عمرة وحجا ، ولو كان من حين يحرم بالعمرة مع قوله سبحانه : ( فصيام ثلاثة أيام في الحج    ) [البقرة : 196] ؛ لأن العمرة دخلت في الحج ، كما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - . 
				
						
						
