الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              فصل

              فأما اليمين بالطلاق أو العتاق في اللجاج والغضب : فمثل أن يقصد بها حضا أو منعا ، أو تصديقا أو تكذيبا مثل قوله : الطلاق يلزمني لأفعلن كذا ، أو لا فعلت كذا ، أو إن فعلت كذا فعبيدي أحرار ، أو إن لم أفعله فعبيدي أحرار . فمن قال من الفقهاء [ ص: 321 ] المتقدمين : إن نذر اللجاج والغضب يجب فيه الوفاء ، فإنه يقول هنا : يقع الطلاق والعتاق أيضا . وأما الجمهور الذين قالوا في نذر اللجاج والغضب : تجزيه الكفارة ، فاختلفوا هنا ، مع أنه لم يبلغني عن الصحابة في الحلف بالطلاق كلام ، وإنما بلغنا الكلام فيها عن التابعين ومن بعدهم ؛ لأن اليمين به محدثة لم تكن تعرف في عصرهم . ولكن بلغنا عن الصحابة الكلام في الحلف بالعتق ، كما سنذكره إن شاء الله .

              فاختلف التابعون ومن بعدهم في اليمين بالطلاق والعتاق ، فمنهم من فرق بينه وبين اليمين بالنذر وقالوا : إنه يقع الطلاق والعتاق بالحنث ، ولا تجزيه الكفارة ، بخلاف اليمين بالنذر . هذا رواية عوف عن الحسن ، وهو قول الشافعي وأحمد في الصريح المنصوص عنه ، وإسحاق بن راهويه ، وأبي عبيد وغيرهم .

              فروى حرب الكرماني عن معتمر بن سليمان عن عوف عن الحسن قال : " كل يمين - وإن عظمت ، ولو حلف بالحج والعمرة ، وإن جعل ماله في المساكين ، ما لم يكن طلاق امرأة في ملكه يوم حلف ، أو عتق غلام في ملكه يوم حلف - فإنما هي يمين " . وقال إسماعيل بن سعيد الشالنجي : سألت أحمد بن حنبل عن الرجل يقول لابنه : إن كلمتك فامرأتي طالق وعبدي حر ؟ فقال : لا يقوم هذا مقام اليمين ، ويلزمه ذلك في الغضب والرضا . وقال سليمان بن داود : يلزمه الحنث في الطلاق والعتاق . وبه قال أبو خيثمة ، قال إسماعيل : حدثنا أحمد بن حنبل ، حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن [ ص: 322 ] أمية عن عثمان [ بن حاضر ] الحميري : " أن امرأة حلفت بمالها في سبيل الله أو في المساكين ، وجاريتها حرة إن لم تفعل كذا وكذا ، فسألت ابن عمر وابن عباس ، فقالا : أما الجارية فتعتق ، وأما قولها في المال ، فإنها تزكي المال " . قال أبو إسحاق إبراهيم الجوزجاني : الطلاق والعتق لا يحلان في هذا محل الأيمان ، ولو كان [ المجزئ فيها مجزئا ] في الأيمان لوجب على الحالف بها إذا حنث كفارة ، وهذا مما لا يختلف الناس فيه أن لا كفارة فيها .

              قلت : أخبر أبو إسحاق بما بلغه من العلم في ذلك ، فإن أكثر مفتي الناس في ذلك الزمان - من أهل المدينة وأهل العراق أصحاب أبي حنيفة ومالك - كانوا لا يفتون في نذر اللجاج والغضب إلا بوجوب الوفاء ، لا بالكفارة . وإن كان أكثر التابعين مذهبهم فيها الكفارة ، حتى إن الشافعي لما أفتى بمصر بجواز الكفارة ، كان غريبا بين أصحابه المالكية . وقال له السائل : يا أبا عبد الله هذا قولك ؟ فقال : قول من هو خير مني ، قول عطاء بن أبي رباح .

              فلما أفتى فقهاء الحديث - كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وسليمان بن داود وابن أبي شيبة وعلي المديني ونحوهم ، في الحلف بالنذر بالكفارة ، وفرق من فرق بين ذلك وبين الطلاق والعتاق لما سنذكره ، صار الذي يعرف قول هؤلاء وقول أولئك لا يعلم خلافا في الطلاق والعتاق ، وإلا فسنذكر الخلاف في ذلك إن شاء الله تعالى عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، وقد اعتذر أحمد عما ذكرناه عن الصحابة في كفارة العتق بعذرين :

              أحدهما : انفراد سليمان التيمي بذلك .

              [ ص: 323 ] والثاني : معارضته بما رواه عن ابن عمر وابن عباس : أن العتق يقع من غير تكفير . وما وجدت أحدا من العلماء المشاهير بلغه في هذه المسألة من العلم المأثور عن الصحابة ما بلغ أحمد ، فقال المروزي : قال أبو عبد الله : إذا قال : كل مملوك له حر ، فيعتق عليه إذا حنث ؛ لأن الطلاق والعتق ليس فيهما كفارة ، وقال : ليس يقول : كل مملوك لها حر ، في حديث ليلى بنت العجماء حديث أبي رافع : " أنها سألت ابن عمر وحفصة وزينب ، وذكرت العتق ، فأمروها بالكفارة " إلا التيمي . وأما حميد وغيره فلم يذكروا العتق . قال : سألت أبا عبد الله عن حديث أبي رافع ، قصة حلف مولاته ليفارقن امرأته ، وأنها سألت ابن عمر وحفصة ، فأمروها بكفارة يمين . قلت : فيها شيء ؟ قال : نعم ، أذهب إلى أن فيه كفارة يمين ، قال أبو عبد الله : ليس يقول فيه : " كل مملوك " إلا التيمي . قلت : فإذا حلف بعتق مملوكه فحنث ؟ قال : يعتق .

              كذا يروي عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا : " الجارية تعتق " ، ثم قال : ما سمعناه إلا من عبد الرزاق عن معمر . قلت : فأيش إسناده ؟ قال : معمر عن إسماعيل ، عن عثمان [ بن حاضر ] ، عن ابن عمر وابن عباس .

              وقال إسماعيل بن أمية وأيوب بن موسى ، وهما مكيان : [ وقد فرقا ] بين الحلف بالطلاق والعتق والحلف بالنذر ؛ [ لأنهما ] لا يكفران ، واتبع ما بلغه في ذلك [ عن ابن عمر وابن عباس وبه عارض ما رواه من الكفارة ] عن ابن عمر وحفصة وزينب ، مع انفراد التيمي بهذه الزيادة . وقال صالح بن [ ص: 324 ] أحمد : قال أبي : وإذا قال : جاريتي حرة إن لم أصنع كذا وكذا ، قال : قال ابن عمر وابن عباس : تعتق . وإذا قال : كل مالي في المساكين ، لم يدخل فيه جاريته [ فيه كفارة ] ، فإن هذا لا يشبه هذا - ألا ترى أن ابن عمر فرق بينهما - العتق والطلاق لا يكفران - وأصحاب أبي حنيفة يقولون : إذا قال الرجل : مالي في المساكين : إنه يتصدق به على المساكين ، وإذا قال : مالي على فلان صدقة ، كذلك ، وفرقوا بين قوله : إن فعلت كذا فمالي صدقة ، أو فعلي الحج ، وبين قوله : فامرأته طالق ، أو فعبدي حر : بأنه هناك [ موجب ] القول وجوب الصدقة والحج ، لا وجود الصدقة والحج .

              فإذا اقتضى الشرط وجوب ذلك كانت الكفارة بدلا عن هذا الواجب ، كما تكون بدلا عن غيره من الواجبات . كما كانت في أول الإسلام بدلا عن الصوم الواجب ، وبقي الإطعام بدلا عن الصوم عن العاجز عنه . وكما تكون بدلا عن الصوم الواجب في ذمة الميت ، فإن الواجب إذا كان في الذمة أمكن أن يخير بين أدائه وبين أداء غيره .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية