الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              وأيضا : فإن الرواية اختلفت عن أحمد إذا بدا الصلاح في حديقة من الحدائق هل يجوز بيع جميعها ، أم لا يباع إلا ما صلح منها ؟ على روايتين :

              أشهرهما عنه : أنه لا يباع إلا ما بدا صلاحه ، وهي اختيار قدماء أصحابه ، كأبي بكر وابن شاقلا .

              والرواية الثانية : يكون بدو الصلاح في البعض صلاحا للجميع ، وهي اختيار أكثر أصحابه ، كابن حامد والقاضي ومن تبعهما .

              ثم المنصوص عنه في هذه الرواية أنه قال : إذا كان في بستان بعضه بالغ ، وبعضه غير بالغ : بيع إذا كان الأغلب عليه البلوغ ، فمنهم من فرق بين صلاح القليل والكثير ، كالقاضي أخيرا ، وأبي حكيم النهرواني ، وأبي البركات وغيرهم ممن قصر الحكم بما إذا غلب الصلاح ، ومنهم من سوى بين الصلاح القليل والكثير ، كأبي الخطاب وجماعات ، وهو قول مالك والشافعي والليث ، وزاد مالك فقال : يكون صلاحا لما جاوره من الأقرحة ، وحكوا ذلك رواية عن أحمد .

              واختلف هؤلاء : هل يكون صلاح النوع - كالبرني من الرطب - صلاحا لسائر أنواع الرطب ؟ على وجهين في مذهب الشافعي وأحمد .

              أحدهما : المنع ، وهو قول القاضي وابن عقيل وأبي محمد .

              [ ص: 183 ] والثاني : الجواز ، وهو قول أبي الخطاب .

              وزاد الليث على هؤلاء فقال : صلاح الجنس - كالتفاح واللوز - يكون صلاحا لسائر أجناس الثمار .

              ومأخذ من جوز شيئا من ذلك : أن الحاجة تدعو إلى ذلك ، فإن بيع بعض ذلك دون بعض يفضي إلى سوء المشاركة ، واختلاف الأيدي . وهذه علة من فرق بين البستان الواحد والبساتين ، ومن سوى بينهما ، فإنه قال : المقصود الأمن من العاهة . وذلك يحصل بشروع الثمر في الصلاح .

              ومأخذ من منع ذلك : أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : حتى يبدو صلاحها ، يقتضي بدو صلاح الجميع .

              والغرض من هذه المذاهب : أن من جوز بيع البستان من الجنس الواحد لبدو الصلاح في بعضه ، فقياس قوله : جواز بيع المقثاة إذا بدا صلاح بعضها ، والمعدوم هنا فيها كالمعدوم من أجزاء الثمرة ، فإن الحاجة تدعو إلى ذلك أكثر ، إذ تفريق الأشجار في البيع أيسر من تفريق البطيخات والقثاءات والخيارات ، وتمييز اللقطة عن اللقطة لو لم يشق ، فإنه أمر لا ينضبط ، فإن اجتهاد الناس في ذلك متفاوت .

              والغرض من هذا : أن أصول أحمد تقتضي موافقة مالك في هذه المسائل ، كما قد يروى عنه في بعض الجوابات ، أو قد خرجه أصحابه على أصوله ، وكما أن العالم من الصحابة والتابعين والأئمة كثيرا ما يكون له في المسألة الواحدة قولان في وقتين ، فكذلك يكون [ ص: 184 ] له في النوع الواحد من المسائل قولان في وقتين . فيجيب في بعض أفرادها بجواب في وقت ، ويجيب في بعض الأفراد بجواب آخر في وقت آخر . وإذا كانت الأفراد مستوية كان له فيها قولان ، فإن لم يكن بينهما فرق يذهب إليه المجتهد [ فقوله فيها واحد بلا خلاف ، وإن كان مما قد يذهب إليه المجتهد ] ، فقالت طائفة منهم أبو الخطاب : لا يخرج . وقال الجمهور - كالقاضي أبي يعلى - يخرج الجواب ، إذا لم يكن هو ممن يذهب إلى الفرق ، كما اقتضته أصوله . ومن هؤلاء من يخرج الجواب إذا رآهما مستويين ، وإن لم يعلم هل هو ممن يفرق أم لا . وإن فرق بين بعض الأفراد وبعض مستحضرا لهما ، فإن كان سبب الفرق مأخذا شرعيا : كان الفرق قولا له ، وإن كان سبب الفرق مأخذا عاديا أو حسيا ونحو ذلك مما قد يكون أهل الخبرة به أعلم من الفقهاء الذين لم يباشروا ذلك ، فهذا في الحقيقة لا يفرق بينهما شرعا ، وإنما هو أمر من أمر الدنيا لم يعلمه العالم ، فإن العلماء ورثة الأنبياء ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنتم أعلم بأمر دنياكم ، فأما ما كان من أمر دينكم فإلي .

              وهذا الاختلاف في عين المسألة أو نوعها من العلم قد يسمى تناقضا أيضا ؛ لأن التناقض اختلاف مقالتين بالنفي والإثبات ، فإذا كان في وقت قد قال : إن هذا حرام ، وقال في وقت آخر فيه أو في مثله : إنه ليس بحرام ، أو قال ما يستلزم أنه ليس بحرام - فقد تناقض قولاه ، وهو مصيب في كليهما عند من يقول : كل مجتهد مصيب ، وأنه ليس لله في الباطن حكم على المجتهد غير ما اعتقده .

              [ ص: 185 ] وأما الجمهور الذين يقولون : إن لله حكما في الباطن ، علمه [ العالم ] في إحدى المقالتين ولم يعلمه في المقالة التي تناقضها ، وعدم علمه به مع اجتهاد مغفور له ، مع ما يثاب عليه من قصده للحق واجتهاد في طلبه ، ولهذا يشبه بعضهم تعارض الاجتهادات من العلماء بالناسخ والمنسوخ في شرائع الأنبياء ، مع الفرق بينهما بأن كل واحد من الناسخ والمنسوخ ثابت بخطاب حكم الله باطنا وظاهرا ، بخلاف أحد قولي العالم المتناقضين .

              هذا فيمن يتقي الله فيما يقوله ، مع علمه بتقواه ، وسلوكه الطريق الراشد .

              وأما أهل الأهواء والخصومات : فهم مذمومون في مناقضتهم ؛ لأنهم يتكلمون بغير علم ، ولا حسن قصد لما يجب قصده .

              وعلى هذا فلازم قول الإنسان نوعان :

              أحدهما : لازم قوله الحق . فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه ، فإن لازم الحق حق ، ويجوز أن يضاف إليه إذا علم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره ، وكثير مما يضيفه الناس إلى مذهب الأئمة من هذا الباب .

              والثاني : لازم قوله الذي ليس بحق . فهذا لا يجب التزامه ، إذ أكثر ما فيه أنه قد تناقض ، وقد بينت أن التناقض واقع من كل عالم غير النبيين ، ثم إن عرف من حاله أنه يلتزمه بعد ظهوره له فقد يضاف إليه ، وإلا فلا يجوز أن يضاف إليه قول لو ظهر له فساده لم يلتزمه ، لكونه قد قال ما يلزمه ، وهو لم يشعر بفساد ذلك القول ولا يلزمه .

              [ ص: 186 ] وهذا التفصيل في اختلاف الناس في لازم المذهب : هل هو مذهب أو ليس بمذهب ؟ هو أجود من إطلاق أحدهما ، فما كان من اللوازم يرضاه القائل بعد وضوحه له فهو قوله ، وما لا يرضاه فليس قوله ، وإن كان متناقضا ، وهو الفرق بين اللازم الذي يجب التزامه مع لزوم اللازم الذي يجب ترك الملزوم للزومه ، فإذا عرف هذا عرف الفرق بين الواجب من المقالات والواقع منها ، وهذا متوجه في اللوازم التي لم يصرح هو بعدم لزومها .

              فأما إذا نفى هو اللزوم لم يجز أن يضاف إليه اللازم بحال ، وإلا لأضيف إلى كل عالم ما اعتقدنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله ، لكونه ملتزما لرسالته ، فلما لم يضف إليه ما نفاه عن الرسول ، وإن كان لازما له : ظهر الفرق بين اللازم الذي لم ينفه ، واللازم الذي نفاه ، ولا يلزم من كونه نص على الحكم نفيه للزوم ما يلزمه ؛ لأنه قد يكون عن اجتهادين في وقتين .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية