والمنع من هذه الحيل هو الصحيح قطعا ، لما روى
nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004001لا يحل سلف وبيع ، ولا شرطان في بيع ، [ ص: 203 ] ولا ربح ما لم يضمن ، ولا بيع ما ليس عندك " رواه الأئمة الخمسة :
أحمد وأبو داود nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي : حديث حسن صحيح ، فنهى - صلى الله عليه وسلم - عن أن
nindex.php?page=treesubj&link=4902_4903يجمع بين سلف وبيع ، فإذا جمع بين سلف وإجارة فهو جمع بين سلف وبيع أو مثله ، وكل تبرع يجمعه إلى البيع والإجارة ، مثل : الهبة والعارية ، والعرية ، والمحاباة في المساقاة والمزارعة والمبايعة ، وغير ذلك : هي مثل القرض .
فجماع معنى الحديث : أن لا يجمع بين معاوضة وتبرع ; لأن ذلك التبرع إنما كان لأجل المعاوضة ، لا تبرعا مطلقا ، فيصير جزءا من العوض ، فإذا اتفقا على أنه ليس بعوض جمعا بين أمرين متنافيين ، فإن من أقرض رجلا ألف درهم ، وباعه سلعة تساوي خمسمائة بألف لم يرض [بالاقتراض] إلا بالثمن الزائد للسلعة ، والمشتري لم يرض ببذل ذلك الثمن الزائد إلا لأجل الألف التي اقترضها ، فلا هذا باع بيعا بألف ، ولا هذا أقرض قرضا محضا ، بل الحقيقة : أنه أعطاه الألف والسلعة بألفين فهي
nindex.php?page=treesubj&link=25365مسألة " مد عجوة " ، فإذا كان المقصود أخذ ألف بأكثر من ألف : حرم بلا تردد ، وإلا خرج على الخلاف المعروف ، وهكذا من أكرى الأرض التي تساوي مائة بألف وأعراه الشجر ، أو رضي من ثمرها بجزء من ألف جزء ، فمعلوم بالاضطرار : أنه إنما تبرع بالثمرة لأجل الألف التي أخذها ، وأن المستأجر إنما بذل الألف لأجل الثمرة ، فالثمرة هي جل
[ ص: 204 ] المقصود المعقود عليه أو بعضه ، فليست الحيلة إلا ضربا من اللعب [والإفساد] ، وإلا فالمقصود المعقود عليه ظاهر .
والذين لا يحتالون ، أو يحتالون وقد ظهر لهم فساد هذه الحيلة [هم] بين أمرين : إما أن يفعلوا ذلك للحاجة ، ويعتقدوا أنهم فاعلون للمحرم ، كما رأينا عليه أكثر الناس ، وإما أن يتركوا ذلك ويتركوا تناول الثمار الداخلة في هذه المعاملة فيدخل عليهم من الضرر [والاضطرار] ما لا يعلمه إلا الله ، وإن أمكن أن يلتزم ذلك واحد أو اثنان ، فما يمكن المسلمين التزام ذلك إلا بفساد الأموال الذي لا تأتي به شريعة قط ، فضلا عن شريعة قال الله فيها : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=78وما جعل عليكم في الدين من حرج ) [الحج : 78] ، وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) [ البقرة : 185] ، وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=28يريد الله أن يخفف عنكم ) [النساء : 28] ، وفي الصحيحين : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004002إنما بعثتم ميسرين " ، "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004003ويسروا ولا تعسروا " ، "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004004ليعلم اليهود أن في ديننا سعة " ، فكل ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج ، وهو منتف شرعا .
والغرض من هذا : أن تحريم مثل هذا مما لا يمكن الأمة التزامه قط ، لما فيه من الفساد الذي لا يطاق ، فعلم أنه ليس بحرام
[ ص: 205 ] بل هو أشد من الأغلال والآصار التي كانت على
بني إسرائيل ووضعها الله عنا على لسان
محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن استقرأ الشريعة في مواردها ومصادرها وجدها مبنية على قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=173فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ) [ البقرة : 173] ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم ) [المائدة : 3] ، فكل ما احتاج الناس إليه في معاشهم ، ولم يكن سببه معصية : هي ترك واجب ، أو فعل محرم ، لم يحرم عليهم ; لأنهم في معنى المضطر الذي ليس بباغ ولا عاد ، وإن كان سببه معصية ، كالمسافر سفر معصية اضطر فيه إلى الميتة ، والمنفق للمال في المعاصي حتى لزمته الديون ، فإنه يؤمر بالتوبة ، ويباح له ما يزيل ضرورته ، فتباح له الميتة ، ويقضى عنه دينه من الزكاة ، وإن لم يتب فهو الظالم لنفسه المحتال ، وحاله كحال الذين قال الله فيهم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=163إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون ) [ الأعراف : ] ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=160فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ) [النساء : 160] وهذه قاعدة عظيمة ربما ننبه إن شاء الله عليها .
وهذا القول المأثور عن السلف الذي اختاره
ابن عقيل : هو قياس أصول
أحمد وبعض أصول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى ، لوجوه متعددة بعد الأدلة الدالة على نفي التحريم شرعا وعقلا ، فإن دلالة هذه إنما تتم بعد الجواب عما استدل به أصحاب القول الأول .
الوجه الأول : ما ذكرناه من فعل
عمر في قصة
nindex.php?page=showalam&ids=168أسيد بن الحضير ، فإنه قبل الأرض والشجر الذي فيها بالمال الذي كان للغرماء ، وهذا عين مسألتنا ، ولا يحمل ذلك على أن النخل والشجر كان قليلا ، فإنه من المعلوم أن حيطان
أهل المدينة كان الغالب عليها
[ ص: 206 ] الشجر ،
nindex.php?page=showalam&ids=168وأسيد بن الحضير كان من سادات
الأنصار ومياسيرهم ، فبعيد أن يكون الغالب على حائطه الأرض البيضاء ، ثم هذه القصة لا بد أن تشتهر ، ولم يبلغنا أن أحدا أنكرها فيكون إجماعا ، وكذلك ما ضربه من الخراج على السواد ، فإن تسميته خراجا يدل على أنه عوض عما ينتفعون به من منفعة الأرض والشجر ، كما يسمي الناس اليوم كراء الأرض لمن يغرسها خراجا ، إذا كان على كل شجرة شيء معلوم ، ومنه قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=72أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير ) [المؤمنون : 72] ومنه خراج العبد ، فإنه عبارة عن ضريبة يخرجها لسيده من ماله ، فمن اعتقد أنه أجرة وجب عليه أن يعتقد جواز مثل هذا ، لأنه ثابت بإجماع الصحابة . ومن اعتقد أنه ثمن أو عوض مستقل بنفسه فمعلوم أنه لا يشبه غيره ، وإنما جوزه الصحابة - ولا نظير له - لأجل الحاجة الداعية إليه ، والحاجة إلى ذلك موجودة في كل أرض فيها شجر كالأرض المفتتحة سواء .
فإنه إن قيل : يمكن المساقاة أو المزارعة ، قيل : وقد كان يمكن عمر المساقاة والمزارعة ، كما فعل في أثناء الدولة العباسية ، إما في خلافة
المنصور وإما بعده ، فإنهم نقلوا أرض السواد من الخراج إلى المقاسمة ، التي هي المساقاة والمزارعة .
وإن قيل : إنه يمكن جعل الكراء بإزاء الأرض والتبرع بمنفعة الشجر أو المحاباة فيها ، قيل : قد كان يمكن عمر ذلك ، فالقدر المشترك بينهما ظاهر .
وأيضا : فإنا نعلم قطعا أن المسلمين ما زالت لهم أرضون فيها شجر [تكرى] بل هذا غالب على أموال أهل الأمصار . ونعلم أن
[ ص: 207 ] السلف لم يكونوا كلهم يعمرون أرضهم بأنفسهم ولا غالبهم ، ونعلم أن المساقاة والمزارعة لا تتيسر في كل وقت ; لأنها تفتقر إلى عامل أمين ، وما كل أحد يرضى بالمساقاة ، ولا كل من أخذ الأرض يرضى بالمشاركة ، فلا بد أن يكونوا قد كانوا يكرون الأرض السوداء ذات الشجر ، ومعلوم أن الاحتيال بالتبرع أمر [بارد] لم يكن السلف من الصحابة والتابعين يفعلونه ، فلم يبق إلا أنهم كانوا يفعلون كما فعل
عمر بمال
nindex.php?page=showalam&ids=168أسيد بن الحضير ، وكما يفعله غالب المسلمين من تلك الأزمنة وإلى اليوم .
فإذا لم ينقل عن السلف أنهم حرموا هذه الإجارة ، ولا أنهم أمروا بحيلة التبرع - مع قيام المقتضى لفعل هذه المعاملة - علم قطعا أن المسلمين كانوا يفعلونها من غير نكير من الصحابة والتابعين ، فيكون فعلها كان إجماعا منهم .
وَالْمَنْعُ مِنْ هَذِهِ الْحِيَلِ هُوَ الصَّحِيحُ قَطْعًا ، لِمَا رَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=13عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004001لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ ، وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ ، [ ص: 203 ] وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ ، وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ " رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ الْخَمْسَةُ :
أحمد وأبو داود nindex.php?page=showalam&ids=15397وَالنَّسَائِيُّ nindex.php?page=showalam&ids=13948وَالتِّرْمِذِيُّ nindex.php?page=showalam&ids=13478وَابْنُ مَاجَهْ ، وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13948التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، فَنَهَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=4902_4903يُجْمَعَ بَيْنَ سَلَفٍ وَبَيْعٍ ، فَإِذَا جُمِعَ بَيْنَ سَلَفٍ وَإِجَارَةٍ فَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ سَلَفٍ وَبَيْعٍ أَوْ مِثْلُهُ ، وَكُلُّ تَبَرُّعٍ يَجْمَعُهُ إِلَى الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ ، مِثْلُ : الْهِبَةِ وَالْعَارِيَةِ ، وَالْعَرِيَّةِ ، وَالْمُحَابَاةِ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَالْمُبَايَعَةِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ : هِيَ مِثْلُ الْقَرْضِ .
فَجِمَاعُ مَعْنَى الْحَدِيثِ : أَنْ لَا يُجْمَعَ بَيْنَ مُعَاوَضَةٍ وَتَبَرُّعٍ ; لِأَنَّ ذَلِكَ التَّبَرُّعَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ الْمُعَاوَضَةِ ، لَا تَبَرُّعًا مُطْلَقًا ، فَيَصِيرُ جُزْءًا مِنَ الْعِوَضِ ، فَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بَعِوَضٍ جَمَعَا بَيْنَ أَمْرَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ ، فَإِنَّ مَنْ أَقْرَضَ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَبَاعَهُ سِلْعَةً تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ بِأَلْفٍ لَمْ يَرْضَ [بِالِاقْتِرَاضِ] إِلَّا بِالثَّمَنِ الزَّائِدِ لِلسِّلْعَةِ ، وَالْمُشْتَرِي لَمْ يَرْضَ بِبَذْلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ الزَّائِدِ إِلَّا لِأَجْلِ الْأَلْفِ الَّتِي اقْتَرَضَهَا ، فَلَا هَذَا بَاعَ بَيْعًا بِأَلْفٍ ، وَلَا هَذَا أُقْرِضَ قَرْضًا مَحْضًا ، بَلِ الْحَقِيقَةُ : أَنَّهُ أَعْطَاهُ الْأَلْفَ وَالسِّلْعَةَ بِأَلْفَيْنِ فَهِيَ
nindex.php?page=treesubj&link=25365مَسْأَلَةُ " مُدِّ عَجْوَةٍ " ، فَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ أَخْذَ أَلْفٍ بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ : حَرُمَ بِلَا تَرَدُّدٍ ، وَإِلَّا خَرَجَ عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ ، وَهَكَذَا مَنْ أَكَرَى الْأَرْضَ الَّتِي تُسَاوِي مِائَةً بِأَلْفٍ وَأَعْرَاهُ الشَّجَرَ ، أَوْ رَضِيَ مِنْ ثَمَرِهَا بِجُزْءٍ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ ، فَمَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ : أَنَّهُ إِنَّمَا تَبَرَّعَ بِالثَّمَرَةِ لِأَجْلِ الْأَلْفِ الَّتِي أَخَذَهَا ، وَأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إِنَّمَا بَذَلَ الْأَلْفَ لِأَجْلِ الثَّمَرَةِ ، فَالثَّمَرَةُ هِيَ جُلُّ
[ ص: 204 ] الْمَقْصُودِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ بَعْضِهِ ، فَلَيْسَتِ الْحِيلَةُ إِلَّا ضَرْبًا مِنَ اللَّعِبِ [وَالْإِفْسَادِ] ، وَإِلَّا فَالْمَقْصُودُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ ظَاهِرٌ .
وَالَّذِينَ لَا يَحْتَالُونَ ، أَوْ يَحْتَالُونَ وَقَدْ ظَهَرَ لَهُمْ فَسَادُ هَذِهِ الْحِيلَةِ [هُمْ] بَيْنَ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ ، وَيَعْتَقِدُوا أَنَّهُمْ فَاعِلُونَ لِلْمُحَرَّمِ ، كَمَا رَأَيْنَا عَلَيْهِ أَكْثَرَ النَّاسِ ، وَإِمَّا أَنْ يَتْرُكُوا ذَلِكَ وَيَتْرُكُوا تَنَاوُلَ الثِّمَارِ الدَّاخِلَةِ فِي هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ فَيَدْخُلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الضَّرَرِ [وَالِاضْطِرَارِ] مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَلْتَزِمَ ذَلِكَ وَاحِدٌ أَوِ اثْنَانِ ، فَمَا يُمْكِنُ الْمُسْلِمِينَ الْتِزَامَ ذَلِكَ إِلَّا بِفَسَادِ الْأَمْوَالِ الَّذِي لَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ قَطُّ ، فَضْلًا عَنْ شَرِيعَةٍ قَالَ اللَّهُ فِيهَا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=78وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) [الْحَجِّ : 78] ، وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) [ الْبَقَرَةِ : 185] ، وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=28يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ) [النِّسَاءِ : 28] ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004002إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ " ، "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004003وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا " ، "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004004لِيَعْلَمَ الْيَهُودُ أَنَّ فِي دِينِنَا سَعَةً " ، فَكُلُّ مَا لَا يَتِمُّ الْمَعَاشُ إِلَّا بِهِ فَتَحْرِيمُهُ حَرَجٌ ، وَهُوَ مُنْتَفٍ شَرْعًا .
وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا : أَنَّ تَحْرِيمَ مِثْلِ هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ الْأُمَّةُ الْتِزَامَهُ قَطُّ ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي لَا يُطَاقُ ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ
[ ص: 205 ] بَلْ هُوَ أَشَدُّ مِنَ الْأَغْلَالِ وَالْآصَارِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى
بَنِي إِسْرَائِيلَ وَوَضَعَهَا اللَّهُ عَنَّا عَلَى لِسَانِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنِ اسْتَقْرَأَ الشَّرِيعَةَ فِي مَوَارِدِهَا وَمَصَادِرِهَا وَجَدَهَا مَبْنِيَّةً عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=173فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ) [ الْبَقَرَةِ : 173] ، وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [الْمَائِدَةِ : 3] ، فَكُلُّ مَا احْتَاجَ النَّاسُ إِلَيْهِ فِي مَعَاشِهِمْ ، وَلَمْ يَكُنْ سَبَبُهُ مَعْصِيَةً : هِيَ تَرْكُ وَاجِبٍ ، أَوْ فِعْلُ مُحَرَّمٍ ، لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُمْ فِي مَعْنَى الْمُضْطَرِّ الَّذِي لَيْسَ بِبَاغٍ وَلَا عَادٍ ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ مَعْصِيَةً ، كَالْمُسَافِرِ سَفَرَ مَعْصِيَةٍ اضْطُرَّ فِيهِ إِلَى الْمَيْتَةِ ، وَالْمُنْفِقِ لِلْمَالِ فِي الْمَعَاصِي حَتَّى لَزِمَتْهُ الدُّيُونُ ، فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالتَّوْبَةِ ، وَيُبَاحُ لَهُ مَا يُزِيلُ ضَرُورَتَهُ ، فَتُبَاحُ لَهُ الْمَيْتَةُ ، وَيُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ مِنَ الزَّكَاةِ ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ فَهُوَ الظَّالِمُ لِنَفَسِهِ الْمُحْتَالُ ، وَحَالُهُ كَحَالِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=163إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) [ الْأَعْرَافِ : ] ، وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=160فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ) [النِّسَاءِ : 160] وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ رُبَّمَا نُنَبِّهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَيْهَا .
وَهَذَا الْقَوْلُ الْمَأْثُورُ عَنِ السَّلَفِ الَّذِي اخْتَارَهُ
ابن عقيل : هُوَ قِيَاسُ أُصُولِ
أحمد وَبَعْضِ أُصُولِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، لِوُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ بَعْدَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى نَفْيِ التَّحْرِيمِ شَرْعًا وَعَقْلًا ، فَإِنَّ دَلَالَةَ هَذِهِ إِنَّمَا تَتِمُّ بَعْدَ الْجَوَابِ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ .
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ فِعْلِ
عمر فِي قِصَّةِ
nindex.php?page=showalam&ids=168أُسَيْدِ بْنِ الْحُضَيْرِ ، فَإِنَّهُ قَبَّلَ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ الَّذِي فِيهَا بِالْمَالِ الَّذِي كَانَ لِلْغُرَمَاءِ ، وَهَذَا عَيْنُ مَسْأَلَتِنَا ، وَلَا يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّخْلَ وَالشَّجَرَ كَانَ قَلِيلًا ، فَإِنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنْ حِيطَانَ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهَا
[ ص: 206 ] الشَّجَرَ ،
nindex.php?page=showalam&ids=168وَأُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ كَانَ مِنْ سَادَاتِ
الْأَنْصَارِ وَمَيَاسِيرِهِمْ ، فَبَعِيدٌ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ عَلَى حَائِطِهِ الْأَرْضَ الْبَيْضَاءَ ، ثُمَّ هَذِهِ الْقِصَّةُ لَا بُدَّ أَنْ تَشْتَهِرَ ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ أَحَدًا أَنْكَرَهَا فَيَكُونُ إِجْمَاعًا ، وَكَذَلِكَ مَا ضَرَبَهُ مِنَ الْخَرَاجِ عَلَى السَّوَادِ ، فَإِنَّ تَسْمِيَتَهُ خَرَاجًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عِوَضٌ عَمَّا يَنْتَفِعُونَ بِهِ مِنْ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ ، كَمَا يُسَمِّي النَّاسُ الْيَوْمَ كِرَاءَ الْأَرْضِ لِمَنْ يَغْرِسُهَا خَرَاجًا ، إِذَا كَانَ عَلَى كُلِّ شَجَرَةٍ شَيْءٌ مَعْلُومٌ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=72أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ ) [الْمُؤْمِنُونَ : 72] وَمِنْهُ خَرَاجُ الْعَبْدِ ، فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ ضَرِيبَةٍ يُخْرِجُهَا لِسَيِّدِهِ مِنْ مَالِهِ ، فَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ أُجْرَةٌ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ جَوَازَ مِثْلِ هَذَا ، لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ . وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ ثَمَنٌ أَوْ عِوَضٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُشْبِهُ غَيْرَهُ ، وَإِنَّمَا جَوَّزَهُ الصَّحَابَةُ - وَلَا نَظِيرَ لَهُ - لِأَجْلِ الْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ ، وَالْحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ أَرْضٍ فِيهَا شَجَرٌ كَالْأَرْضِ الْمُفْتَتَحَةِ سَوَاءٌ .
فَإِنَّهُ إِنْ قِيلَ : يُمْكِنُ الْمُسَاقَاةُ أَوِ الْمُزَارَعَةُ ، قِيلَ : وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ عُمَرُ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ ، كَمَا فُعِلَ فِي أَثْنَاءِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ ، إِمَّا فِي خِلَافَةِ
المنصور وَإِمَّا بَعْدَهُ ، فَإِنَّهُمْ نَقَلُوا أَرْضَ السَّوَادِ مِنَ الْخَرَاجِ إِلَى الْمُقَاسَمَةِ ، الَّتِي هِيَ الْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ .
وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ يُمْكِنُ جَعْلُ الْكِرَاءِ بِإِزَاءِ الْأَرْضِ وَالتَّبَرُّعِ بِمَنْفَعَةِ الشَّجَرِ أَوِ الْمُحَابَاةِ فِيهَا ، قِيلَ : قَدْ كَانَ يُمْكِنُ عُمَرُ ذَلِكَ ، فَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَا زَالَتْ لَهُمْ أَرْضُونَ فِيهَا شَجَرٌ [تُكْرَى] بَلْ هَذَا غَالِبٌ عَلَى أَمْوَالِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ . وَنَعْلَمُ أَنَّ
[ ص: 207 ] السَّلَفَ لَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ يَعْمُرُونَ أَرْضَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَلَا غَالِبُهُمْ ، وَنَعْلَمُ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ لَا تَتَيَسَّرُ فِي كُلِّ وَقْتٍ ; لِأَنَّهَا تَفْتَقِرُ إِلَى عَامِلٍ أَمِينٍ ، وَمَا كُلُّ أَحَدٍ يَرْضَى بِالْمُسَاقَاةِ ، وَلَا كُلُّ مَنْ أَخَذَ الْأَرْضَ يَرْضَى بِالْمُشَارَكَةِ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا قَدْ كَانُوا يُكْرُونَ الْأَرْضَ السَّوْدَاءَ ذَاتَ الشَّجَرِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاحْتِيَالَ بِالتَّبَرُّعِ أَمْرٌ [بَارِدٌ] لَمْ يَكُنِ السَّلَفُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يَفْعَلُونَهُ ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ كَمَا فَعَلَ
عمر بِمَالِ
nindex.php?page=showalam&ids=168أُسَيْدِ بْنِ الْحُضَيْرِ ، وَكَمَا يَفْعَلُهُ غَالِبُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ وَإِلَى الْيَوْمِ .
فَإِذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ حَرَّمُوا هَذِهِ الْإِجَارَةَ ، وَلَا أَنَّهُمْ أَمَرُوا بِحِيلَةِ التَّبَرُّعِ - مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضَى لِفِعْلِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ - عُلِمَ قَطْعًا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَفْعَلُونَهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، فَيَكُونُ فِعْلُهَا كَانَ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ .