فصل
هذا إذا أكرى الأرض والشجر ، أو الشجرة وحدها لأن يخدمها ويأخذ الثمرة بعوض معلوم . فإن
nindex.php?page=treesubj&link=28314باعه الثمرة فقط وأكراه الأرض للسكنى : فهنا لا يجيء إلا الأصل الأول المذكور عن
ابن عقيل ، وبعضه عن
مالك وأحمد في إحدى الروايتين ، إذا كان الأغلب هو السكنى ، وهو أن الحاجة داعية إلى الجمع بينهما . فيجوز في الجمع ما لا يجوز في التفريق ، كما تقدم من النظائر . وهذا إذا كان كل واحد من السكنى والثمرة مقصودا له ، كما يجري في حوائط
دمشق ، فإن البستان يكترى في المدة الصيفية للسكنى فيه وأخذ ثمره من غير عمل على الثمرة أصلا ، بل العمل على المكري المضمن .
وعلى ذلك الأصل : فيجوز وإن كان الثمر لم يطلع بحال ، سواء كان جنسا واحدا أو أجناسا متفرقة ، كما يجوز مثل ذلك في القسم الأول . فإنه إنما جاز لأجل الجمع بينه وبين المنفعة ، وهو في الحقيقة جمع بين بيع وإجارة ، بخلاف القسم الأول ، فإنه قد يقال : هو إجارة ; لأن مؤنة توفية الثمر هنا على المضمن وبعمله يصير ثمرا ، بخلاف القسم الأول ، فإنه إنما يصير مثمرا بعمل المستأجر ، ولهذا يسميه الناس : ضمانا ، إذ ليس هو بيعا محضا ولا إجارة محضة . فسمي باسم الالتزام العام في المعاوضات وغيرها ، وهو الضمان ، كما يسمي الفقهاء مثل ذلك في قوله : ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه ، وكذلك يسمى القسم الأول ضمانا أيضا ، لكن ذلك يسمى إجارة . وهذا إذا سمي إجارة أو اكتراء فلأن بعضه إجارة أو اكتراء ، وفيه بيع أيضا .
[ ص: 218 ] فأما إن كانت المنفعة ليست مقصودة أصلا ، وإنما جاءت لأجل جداد الثمرة مثل أن
nindex.php?page=treesubj&link=24536_6073يشتري عنبا أو بلحا ، ويريد أن يقيم في الحديقة لقطافه : فهذا لا يجوز قبل بدو صلاحه ; لأن المنفعة إنما قصدت هنا لأجل الثمر ، فلا يكون الثمر تابعا لها ولا يحتاج إلى إجارتها إلا إذا جاز بيع الثمر ، بخلاف القسم الذي قبله ، فإن المنفعة إذا كانت مقصودة احتاج إلى استئجارها ، واحتاج مع ذلك إلى اشتراء الثمرة ، [ فاحتاج إلى الجمع لأن المستأجر لا يمكنه إذا استأجر المكان للسكنى يدع غيره يشتري الثمرة ] ولا يتم غرضه من الانتفاع إلا بأن يكون له ثمرة يأكلها ، فإن مقصوده الانتفاع بالسكنى في ذلك المكان والأكل من الثمر الذي فيه .
ولهذا إذا كان المقصود الأعظم هو السكنى ، والشجر قليل ، مثل أن يكون في الدار نخلات أو غريس عنب ونحو ذلك ، فالجواز هنا مذهب
مالك ، وقياس أكثر نصوص
أحمد وغيره . وإن كان المقصود مع السكنى التجارة في الثمر ، وهو أكثر من منفعة السكنى ، فالمنع هنا أوجه منه في التي قبلها ، كما فرق بينهما
مالك وأحمد ، وإن كان المقصود السكنى والأكل : فهو شبيه بما لو قصد السكنى والشرب من البئر . وإن كان ثمن المأكول أكثر : فهنا الجواز فيه أظهر من التي قبلها ، ودون الأولى على قول من يفرق . وأما على قول
ابن عقيل المأثور عن السلف : فالجميع جائز ، كما قررناه لأجل الجمع . فإن اشترط مع ذلك أن يحرث له المضمن مقثاة فهو كما لو
nindex.php?page=treesubj&link=6147استأجر أرضا من رجل للزرع على أن يحرثها المؤجر ، فقد استأجر أرضه واستأجر منه عملا في الذمة . وهذا جائز ، كما لو استكرى منه جملا أو حمارا على أن
[ ص: 219 ] يحمل المؤجر للمستأجر عليه متاعه ، وهذه إجارة عين وإجارة على عمل في الذمة ، إلا أن يشترط عليه أن يكون هو الذي يعمل العمل ، فيكون قد استأجر عينين .
ولو لم تكن السكنى مقصودة ، وإنما المقصود ابتياع ثمرة في بستان ذي أجناس ، والسقي على البائع : فهذا عند
الليث يجوز ، وهو قياس القول الثالث الذي ذكرناه عند أصحابنا وغيرهم وقررناه ; لأن الحاجة إلى الجمع بين الجنسين كالحاجة إلى الجمع بين بيع الثمرة والمنفعة ، وربما كان أشد ، فإنه قد لا يمكن بيع كل جنس عند بدو صلاحه ، فإنه في كثير من الأوقات لا يحصل ذلك ، وفي بعضها إنما يحصل بضرر كثير . وقد رأيت من يواطئ المشتري على ذلك ، ثم كلما صلحت ثمرة يقسط عليها بعض الثمن . وهذا من الحيل الباردة التي لا تخفى حالها كما تقدم . وما يزال العلماء والمؤمنون ذوو الفطر السليمة ينكرون تحريم مثل هذا ، مع أن أصول الشريعة تنافي تحريمه ، لكن ما سمعوه من العمومات اللفظية والقياسية ، التي اعتقدوا شمولها [ لمثل هذا مع ما سمعوه ] من قول العلماء الذين يدرجون هذا في العموم : هو الذي أوجب ما أوجب . وهو قياس ما قررناه من جواز
nindex.php?page=treesubj&link=24533بيع المقثاة جميعها بعد بدو صلاحها ; لأن تفريق بعضها متعسر أو متعذر ، كتعسر تفريق الأجناس في البستان الواحد ، وإن كانت المشقة في المقثاة أوكد ، ولهذا جوزها من منع [ ذلك في ] الأجناس كمالك .
فإن قيل : هذه الصورة داخلة في عموم نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع
[ ص: 220 ] الثمر حتى يبدو صلاحه ، بخلاف ما إذا أكراه الأرض والشجر ليعمل عليه ، فإنه - كما قررتم - ليس بداخل في العموم ; لأنه إجارة لمن يعمل ، لا بيع لمعين ، وأما هذا فبيع للثمرة ، فيدخل في النهي ، فكيف تخالفون النهي ؟
قلنا : الجواب عن هذا كالجواب عما يجوز بالسنة والإجماع من
nindex.php?page=treesubj&link=24515ابتياع الشجر مع ثمره الذي لم يبد صلاحه ،
nindex.php?page=treesubj&link=24508وابتياع الأرض مع زرعها الذي لم يشتد حبه ، وما نصرناه من ابتياع المقاثي ، مع أن بعض خضرها لم يخلق ، وجواب ذلك بطريقين :
أحدهما : أن يقال : إن النهي لم يشمل بلفظه هذه الصورة ; لأن نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمر انصرف إلى البيع المعهود عند المخاطبين وما كان مثله ; لأن لام التعريف تنصرف إلى ما يعرفه المخاطبون . فإن كان هنالك شخص معهود أو نوع معهود انصرف الكلام إليه ، كما انصرف اللفظ إلى الرسول المعين في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=63لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ) [النور : 63 ] وفي قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=16فعصى فرعون الرسول ) ، وإلى النوع المخصوص : نهيه عن بيع الثمر [ بالثمر ] فإنه لا خلاف بين المسلمين أن المراد بالثمر هنا الرطب ، دون العنب وغيره ، وإن لم يكن المعهود شخصيا ولا نوعيا انصرف إلى [ العموم ] [وتعريف المضاف إليه ] فالبيع المذكور للثمر هو بيع الثمر الذي يعهدونه ، دخل كدخول القرن الثاني والثالث فيما خاطب به الرسول أصحابه .
ونظير هذا : ما ذكره
أحمد في "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004008نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بول الرجل [ ص: 221 ] في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه " فحمله على ما كان معهودا على عهده في المياه الدائمة ، كالأبيار والحياض التي بين
مكة والمدينة . فأما المصانع الكبار التي لا يمكن نزحها التي أحدثت بعده ، فلم يدخله في العموم لوجود الفارق المعنوي وعدم العموم اللفظي .
يدل على عدم العموم في مسألتنا : أن في الصحيحين عن
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس بن مالك رضي الله عنه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004009أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع الثمار حتى تزهى ، قيل : ما تزهى ؟ قال تحمر وتصفر " وفي لفظ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004010 " نهى عن nindex.php?page=treesubj&link=24533_24536بيع الثمر حتى يزهو " ولفظ
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004011 " نهى عن بيع ثمر النخل حتى يزهو " ، ومعلوم أن ذلك : هو ثمر النخل ، كما جاء مقيدا ; لأنه هو الذي يزهو فيحمر أو يصفر ، وإلا فمن الثمار ما يكون نضجها بالبياض ، كالتوت والتفاح والعنب الأبيض والإجاص الأبيض الذي يسميه
أهل دمشق الخوخ ، والخوخ الأبيض الذي يسمى الفرسك ، ويسميه الدمشقيون الدراق ، أو باللين بلا تغير لون كالتين ونحوه .
ولذلك جاء في الصحيحين عن
جابر قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004012 " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمرة حتى تشقح ، قيل : وما تشقح ؟ قال : تحمار أو تصفار ويؤكل منها " وهذه الثمرة هي الرطب . وكذلك في صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004013 " لا تبتاعوا الثمار حتى يبدو صلاحها ، ولا تبتاعوا التمر بالتمر " ، والتمر الثاني هو الرطب بلا ريب ، فكذلك الأول ; لأن اللفظ واحد . وفي صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم قال : قال
[ ص: 222 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004014 " لا تبتاعوا التمر حتى يبدو صلاحه ، وتذهب عنه الآفة " وقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004015 " بدو صلاحه : حمرته أو صفرته " فهذه الأحاديث التي فيها لفظ [الثمر] .
وأما غيرها فصريح في النخل ، كحديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس المتفق عليه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004016 " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع النخل حتى يأكل منه ، أو يؤكل منه " ، وفي رواية
nindex.php?page=showalam&ids=17080لمسلم عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004017أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع النخل حتى يزهو ، وعن السنبل حتى يبيض ، ويأمن العاهة . نهى البائع والمشتري " . والمراد بالنخل ثمره بالاتفاق ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد جوز
nindex.php?page=treesubj&link=24524اشتراء النخل المؤبر مع اشتراط المشتري لثمرته .
فهذه النصوص ليست عامة عموما لفظيا في كل ثمرة في الأرض ، وإنما هي عامة لفظا لكل ما عهده المخاطبون ، وعامة معنى لكل ما كان في معناه . وما ذكرنا عدم تحريمه ليس بمنصوص على تحريمه ولا في معناه ، فلم يتناوله دليل الحرمة ، فيبقى على الحل . وهذا وحده دليل على عدم التحريم ، وبه يتم ما نبهنا عليه أولا من أن الأدلة النافية للتحريم من الأدلة الشرعية والاستصحابية تدل على ذلك ، لكن بشرط نفي الناقل المغير ، وقد بينا انتفاءه .
الطريق الثاني : أن نقول : وإن سلمنا العموم اللفظي ، لكن ليست هي مرادة بل هي مخصوصة بما ذكرناه من الأدلة التي تخص مثل هذا العموم ، فإن هذا العموم مخصوص بالسنة والإجماع في
[ ص: 223 ] الثمر التابع لشجره ، حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004018 " من ابتاع نخلا [ لم يؤبر ] فثمرتها للبائع ، إلا أن يشترط المبتاع " أخرجاه من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر . فجعلها للمبتاع إذا اشترطها بعد التأبير . ومعلوم أنها حينئذ لم يبد صلاحها ، ولا يجوز بيعها مفردة . والعموم المخصوص بالنص أو الإجماع يجوز أن يخص منه صورة في معناه عند جمهور الفقهاء من سائر الطوائف ، ويجوز أيضا تخصيصه بالإجماع وبالقياس القوي ، وقد ذكرنا من آثار السلف ومن المعاني ما يخص مثل هذا لو كان عاما ، أو بالاشتداد بلا تغير لون ، كالجوز واللوز ، فبدو الصلاح في الثمار متنوع ، تارة يكون بالرطوبة بعد اليبس ، وتارة باليبس بعد الرطوبة ، وتارة بتغير لونه بحمرة أو صفرة أو بياض ، وتارة لا يتغير .
وإذا كان قد نهى عن بيع الثمر حتى يحمر أو يصفر : علم أن هذا اللفظ لم يشمل جميع أصناف الثمار ، وإنما يشمل ما تأتي فيه الحمرة والصفرة ، وقد جاء مقيدا : أنه النخل .
فتدبر ما ذكرناه في هذه المسألة ، فإنه عظيم المنفعة في هذه [ القضية ] التي عمت بها البلوى ، وفي نظائرها ، وانظر في عموم كلام الله ورسوله لفظا ومعنى ، حتى تعطيه حقه ، وأحسن ما تستدل به على معناه : آثار الصحابة الذين كانوا أعلم بمقاصده ، فإن ضبط ذلك يوجب توافق أصول الشريعة وجريها على الأصول الثابتة المذكورة في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=157يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) [ الأعراف : 157] .
[ ص: 224 ]
فَصْلٌ
هَذَا إِذَا أَكْرَى الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ ، أَوِ الشَّجَرَةَ وَحْدَهَا لِأَنْ يَخْدِمَهَا وَيَأْخُذَ الثَّمَرَةَ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ . فَإِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=28314بَاعَهُ الثَّمَرَةَ فَقَطْ وَأَكَرَاهُ الْأَرْضَ لِلسُّكْنَى : فَهُنَا لَا يَجِيءُ إِلَّا الْأَصْلُ الْأَوَّلُ الْمَذْكُورُ عَنِ
ابن عقيل ، وَبَعْضُهُ عَنْ
مالك وأحمد فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، إِذَا كَانَ الْأَغْلَبُ هُوَ السُّكْنَى ، وَهُوَ أَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا . فَيَجُوزُ فِي الْجَمْعِ مَا لَا يَجُوزُ فِي التَّفْرِيقِ ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّظَائِرِ . وَهَذَا إِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ السُّكْنَى وَالثَّمَرَةِ مَقْصُودًا لَهُ ، كَمَا يَجْرِي فِي حَوَائِطَ
دِمَشْقَ ، فَإِنَّ الْبُسْتَانَ يُكْتَرَى فِي الْمُدَّةِ الصَّيْفِيَّةِ لِلسُّكْنَى فِيهِ وَأَخْذِ ثَمَرِهِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ عَلَى الثَّمَرَةِ أَصْلًا ، بَلِ الْعَمَلُ عَلَى الْمُكْرِي الْمُضَمِّنِ .
وَعَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ : فَيَجُوزُ وَإِنْ كَانَ الثَّمَرُ لَمْ يَطْلُعْ بِحَالٍ ، سَوَاءٌ كَانَ جِنْسًا وَاحِدًا أَوْ أَجْنَاسًا مُتَفَرِّقَةً ، كَمَا يَجُوزُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ . فَإِنَّهُ إِنَّمَا جَازَ لِأَجْلِ الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَنْفَعَةِ ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ جَمْعٌ بَيْنَ بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ ، بِخِلَافِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ، فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ : هُوَ إِجَارَةٌ ; لِأَنَّ مُؤْنَةَ تَوْفِيَةِ الثَّمَرِ هُنَا عَلَى الْمُضَمِّنِ وَبِعَمَلِهِ يَصِيرُ ثَمَرًا ، بِخِلَافِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَصِيرُ مُثْمِرًا بِعَمَلِ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَلِهَذَا يُسَمِّيهِ النَّاسُ : ضَمَانًا ، إِذْ لَيْسَ هُوَ بَيْعًا مَحْضًا وَلَا إِجَارَةً مَحْضَةً . فَسُمِّيَ بِاسْمِ الِالْتِزَامِ الْعَامِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ وَغَيْرِهَا ، وَهُوَ الضَّمَانُ ، كَمَا يُسَمِّي الْفُقَهَاءُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : أَلْقِ مَتَاعَكَ فِي الْبَحْرِ وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ ، وَكَذَلِكَ يُسَمَّى الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ضَمَانًا أَيْضًا ، لَكِنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى إِجَارَةً . وَهَذَا إِذَا سُمِّيَ إِجَارَةً أَوِ اكْتِرَاءً فَلِأَنَّ بَعْضَهُ إِجَارَةٌ أَوِ اكْتِرَاءٌ ، وَفِيهِ بَيْعٌ أَيْضًا .
[ ص: 218 ] فَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً أَصْلًا ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ لِأَجْلِ جِدَادِ الثَّمَرَةِ مِثْلَ أَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=24536_6073يَشْتَرِيَ عِنَبًا أَوْ بَلَحًا ، وَيُرِيدُ أَنْ يُقِيمَ فِي الْحَدِيقَةِ لِقِطَافِهِ : فَهَذَا لَا يَجُوزُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ ; لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ إِنَّمَا قُصِدَتْ هُنَا لِأَجْلِ الثَّمَرِ ، فَلَا يَكُونُ الثَّمَرُ تَابِعًا لَهَا وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِجَارَتِهَا إِلَّا إِذَا جَازَ بَيْعُ الثَّمَرِ ، بِخِلَافِ الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ ، فَإِنَّ الْمَنْفَعَةَ إِذَا كَانَتْ مَقْصُودَةً احْتَاجَ إِلَى اسْتِئْجَارِهَا ، وَاحْتَاجَ مَعَ ذَلِكَ إِلَى اشْتِرَاءِ الثَّمَرَةِ ، [ فَاحْتَاجَ إِلَى الْجَمْعِ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَا يُمْكِنُهُ إِذَا اسْتَأْجَرَ الْمَكَانَ لِلسُّكْنَى يَدَعُ غَيْرَهُ يَشْتَرِي الثَّمَرَةَ ] وَلَا يَتِمُّ غَرَضُهُ مِنَ الِانْتِفَاعِ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ لَهُ ثَمَرَةٌ يَأْكُلُهَا ، فَإِنَّ مَقْصُودَهُ الِانْتِفَاعُ بِالسُّكْنَى فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَالْأَكْلِ مِنَ الثَّمَرِ الَّذِي فِيهِ .
وَلِهَذَا إِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ هُوَ السُّكْنَى ، وَالشَّجَرُ قَلِيلٌ ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّارِ نَخَلَاتٌ أَوْ غَرِيسُ عِنَبٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ ، فَالْجَوَازُ هُنَا مَذْهَبُ
مالك ، وَقِيَاسُ أَكْثَرِ نُصُوصِ
أحمد وَغَيْرِهِ . وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مَعَ السُّكْنَى التِّجَارَةُ فِي الثَّمَرِ ، وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَةِ السُّكْنَى ، فَالْمَنْعُ هُنَا أَوْجَهُ مِنْهُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا ، كَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا
مالك وأحمد ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ السُّكْنَى وَالْأَكْلُ : فَهُوَ شَبِيهٌ بِمَا لَوْ قَصَدَ السُّكْنَى وَالشُّرْبَ مِنَ الْبِئْرِ . وَإِنْ كَانَ ثَمَنُ الْمَأْكُولِ أَكْثَرَ : فَهُنَا الْجَوَازُ فِيهِ أَظْهَرُ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا ، وَدُونَ الْأُولَى عَلَى قَوْلِ مَنْ يُفَرِّقُ . وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ
ابن عقيل الْمَأْثُورِ عَنِ السَّلَفِ : فَالْجَمِيعُ جَائِزٌ ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ لِأَجْلِ الْجَمْعِ . فَإِنِ اشْتَرَطَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَحْرُثَ لَهُ الْمُضَمِّنُ مَقْثَاةً فَهُوَ كَمَا لَوِ
nindex.php?page=treesubj&link=6147اسْتَأْجَرَ أَرْضًا مِنْ رَجُلٍ لِلزَّرْعِ عَلَى أَنْ يَحْرُثَهَا الْمُؤَجِّرُ ، فَقَدِ اسْتَأْجَرَ أَرْضَهُ وَاسْتَأْجَرَ مِنْهُ عَمَلًا فِي الذِّمَّةِ . وَهَذَا جَائِزٌ ، كَمَا لَوِ اسْتَكْرَى مِنْهُ جَمَلًا أَوْ حِمَارًا عَلَى أَنْ
[ ص: 219 ] يَحْمِلَ الْمُؤَجِّرُ لِلْمُسْتَأْجِرِ عَلَيْهِ مَتَاعَهُ ، وَهَذِهِ إِجَارَةُ عَيْنٍ وَإِجَارَةٌ عَلَى عَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَعْمَلُ الْعَمَلَ ، فَيَكُونُ قَدِ اسْتَأْجَرَ عَيْنَيْنِ .
وَلَوْ لَمْ تَكُنِ السُّكْنَى مَقْصُودَةً ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ ابْتِيَاعُ ثَمَرَةٍ فِي بُسْتَانٍ ذِي أَجْنَاسٍ ، وَالسَّقْيُ عَلَى الْبَائِعِ : فَهَذَا عِنْدَ
الليث يَجُوزُ ، وَهُوَ قِيَاسُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَقَرَّرْنَاهُ ; لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ كَالْحَاجَةِ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ بَيْعِ الثَّمَرَةِ وَالْمَنْفَعَةِ ، وَرُبَّمَا كَانَ أَشَدَّ ، فَإِنَّهُ قَدْ لَا يُمْكِنُ بَيْعُ كُلِّ جِنْسٍ عِنْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ ، فَإِنَّهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ ، وَفِي بَعْضِهَا إِنَّمَا يَحْصُلُ بِضَرَرٍ كَثِيرٍ . وَقَدْ رَأَيْتُ مَنْ يُوَاطِئُ الْمُشْتَرِيَ عَلَى ذَلِكَ ، ثُمَّ كَلَّمَا صَلَحَتْ ثَمَرَةٌ يُقَسِّطُ عَلَيْهَا بَعْضَ الثَّمَنِ . وَهَذَا مِنَ الْحِيَلِ الْبَارِدَةِ الَّتِي لَا تَخْفَى حَالُهَا كَمَا تَقَدَّمَ . وَمَا يَزَالُ الْعُلَمَاءُ وَالْمُؤْمِنُونَ ذَوُو الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ يُنْكِرُونَ تَحْرِيمَ مِثْلِ هَذَا ، مَعَ أَنَّ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ تُنَافِي تَحْرِيمَهُ ، لَكِنْ مَا سَمِعُوهُ مِنَ الْعُمُومَاتِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْقِيَاسِيَّةِ ، الَّتِي اعْتَقَدُوا شُمُولَهَا [ لِمِثْلِ هَذَا مَعَ مَا سَمِعُوهُ ] مِنْ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُدْرِجُونَ هَذَا فِي الْعُمُومِ : هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ مَا أَوْجَبَ . وَهُوَ قِيَاسُ مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ جَوَازِ
nindex.php?page=treesubj&link=24533بِيعِ الْمَقْثَاةِ جَمِيعِهَا بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا ; لِأَنَّ تَفْرِيقَ بَعْضِهَا مُتَعَسِّرٌ أَوْ مُتَعَذِّرٌ ، كَتَعَسُّرِ تَفْرِيقِ الْأَجْنَاسِ فِي الْبُسْتَانِ الْوَاحِدِ ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَشَقَّةُ فِي الْمَقْثَاةِ أَوْكَدَ ، وَلِهَذَا جَوَّزَهَا مَنْ مَنَعَ [ ذَلِكَ فِي ] الْأَجْنَاسِ كَمَالِكٍ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذِهِ الصُّورَةُ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ نَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ
[ ص: 220 ] الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَكْرَاهُ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ لِيَعْمَلَ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ - كَمَا قَرَّرْتُمْ - لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي الْعُمُومِ ; لِأَنَّهُ إِجَارَةٌ لِمَنْ يَعْمَلُ ، لَا بَيْعَ لِمُعَيَّنٍ ، وَأَمَّا هَذَا فَبَيْعٌ لِلثَّمَرَةِ ، فَيَدْخُلُ فِي النَّهْيِ ، فَكَيْفَ تُخَالِفُونَ النَّهْيَ ؟
قُلْنَا : الْجَوَابُ عَنْ هَذَا كَالْجَوَابِ عَمَّا يَجُوزُ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ مِنَ
nindex.php?page=treesubj&link=24515ابْتِيَاعِ الشَّجَرِ مَعَ ثَمَرِهِ الَّذِي لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ ،
nindex.php?page=treesubj&link=24508وَابْتِيَاعِ الْأَرْضِ مَعَ زَرْعِهَا الَّذِي لَمْ يَشْتَدَّ حَبُّهُ ، وَمَا نَصَرْنَاهُ مِنِ ابْتِيَاعِ الْمَقَاثِي ، مَعَ أَنَّ بَعْضَ خَضَرِهَا لَمْ يُخْلَقْ ، وَجَوَابُ ذَلِكَ بِطَرِيقَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يُقَالَ : إِنَّ النَّهْيَ لَمْ يَشْمَلْ بِلَفْظِهِ هَذِهِ الصُّورَةَ ; لِأَنَّ نَهْيَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ انْصَرَفَ إِلَى الْبَيْعِ الْمَعْهُودِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ وَمَا كَانَ مِثْلُهُ ; لِأَنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ تَنْصَرِفُ إِلَى مَا يَعْرِفُهُ الْمُخَاطَبُونَ . فَإِنْ كَانَ هُنَالِكَ شَخْصٌ مَعْهُودٌ أَوْ نَوْعٌ مَعْهُودٌ انْصَرَفَ الْكَلَامُ إِلَيْهِ ، كَمَا انْصَرَفَ اللَّفْظُ إِلَى الرَّسُولِ الْمُعَيَّنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=63لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ) [النُّورِ : 63 ] وَفِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=16فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ) ، وَإِلَى النَّوْعِ الْمَخْصُوصِ : نَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ [ بِالثَّمَرِ ] فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالثَّمَرِ هُنَا الرُّطَبُ ، دُونَ الْعِنَبِ وَغَيْرِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَعْهُودُ شَخْصِيًّا وَلَا نَوْعِيًّا انْصَرَفَ إِلَى [ الْعُمُومِ ] [وَتَعْرِيفِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ ] فَالْبَيْعُ الْمَذْكُورُ لِلثَّمَرِ هُوَ بَيْعُ الثَّمَرِ الَّذِي يَعْهَدُونَهُ ، دَخَلَ كَدُخُولِ الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فِيمَا خَاطَبَ بِهِ الرَّسُولُ أَصْحَابَهُ .
وَنَظِيرُ هَذَا : مَا ذَكَرَهُ
أحمد فِي "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004008نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَوْلِ الرَّجُلِ [ ص: 221 ] فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ " فَحَمَلَهُ عَلَى مَا كَانَ مَعْهُودًا عَلَى عَهْدِهِ فِي الْمِيَاهِ الدَّائِمَةِ ، كَالْأَبْيَارِ وَالْحِيَاضِ الَّتِي بَيْنَ
مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ . فَأَمَّا الْمَصَانِعُ الْكِبَارُ الَّتِي لَا يُمْكِنُ نَزْحُهَا الَّتِي أُحْدِثَتْ بَعْدَهُ ، فَلَمْ يُدْخِلْهُ فِي الْعُمُومِ لِوُجُودِ الْفَارِقِ الْمَعْنَوِيِّ وَعَدَمِ الْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ .
يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْعُمُومِ فِي مَسْأَلَتِنَا : أَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=9أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004009أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهَى ، قِيلَ : مَا تُزْهَى ؟ قَالَ تَحْمَرُّ وَتَصْفَرُّ " وَفِي لَفْظٍ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004010 " نَهَى عَنْ nindex.php?page=treesubj&link=24533_24536بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَزْهُوَ " وَلَفْظُ
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004011 " نَهَى عَنْ بَيْعِ ثَمَرِ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ " ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ : هُوَ ثَمَرُ النَّخْلِ ، كَمَا جَاءَ مُقَيَّدًا ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَزْهُو فَيَحْمَرُّ أَوْ يَصْفَرُّ ، وَإِلَّا فَمِنَ الثِّمَارِ مَا يَكُونُ نُضْجُهَا بِالْبَيَاضِ ، كَالتُّوتِ وَالتُّفَّاحِ وَالْعِنَبِ الْأَبْيَضِ وَالْإِجَّاصِ الْأَبْيَضِ الَّذِي يُسَمِّيهِ
أَهْلُ دِمَشْقَ الْخَوْخَ ، وَالْخَوْخُ الْأَبْيَضُ الَّذِي يُسَمَّى الْفِرْسِكَ ، وَيُسَمِّيهِ الدِّمَشْقِيُّونَ الدُّرَّاقَ ، أَوْ بِاللِّينِ بِلَا تَغَيُّرِ لَوْنٍ كَالتِّينِ وَنَحْوِهِ .
وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ
جابر قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004012 " نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى تُشَقَّحَ ، قِيلَ : وَمَا تُشَقَّحُ ؟ قَالَ : تَحْمَارُّ أَوْ تَصْفَارُّ وَيُؤْكَلُ مِنْهَا " وَهَذِهِ الثَّمَرَةُ هِيَ الرُّطَبُ . وَكَذَلِكَ فِي صَحِيحِ
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004013 " لَا تَبْتَاعُوا الثِّمَارَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا ، وَلَا تَبْتَاعُوا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ " ، وَالتَّمْرُ الثَّانِي هُوَ الرُّطَبُ بِلَا رَيْبٍ ، فَكَذَلِكَ الْأَوَّلُ ; لِأَنَّ اللَّفْظَ وَاحِدٌ . وَفِي صَحِيحِ
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم قَالَ : قَالَ
[ ص: 222 ] رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004014 " لَا تَبْتَاعُوا التَّمْرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ ، وَتَذْهَبَ عَنْهُ الْآفَةُ " وَقَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004015 " بُدُوُّ صَلَاحِهِ : حُمْرَتُهُ أَوْ صُفْرَتُهُ " فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي فِيهَا لَفْظُ [الثَّمَرِ] .
وَأَمَّا غَيْرُهَا فَصَرِيحٌ فِي النَّخْلِ ، كَحَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004016 " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَأْكُلَ مِنْهُ ، أَوْ يُؤْكَلَ مِنْهُ " ، وَفِي رِوَايَةٍ
nindex.php?page=showalam&ids=17080لمسلم عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=12ابْنِ عُمَرَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004017أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ ، وَعَنِ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبَيَّضَ ، وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ . نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ " . وَالْمُرَادُ بِالنَّخْلِ ثَمَرُهُ بِالِاتِّفَاقِ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ جَوَّزَ
nindex.php?page=treesubj&link=24524اشْتِرَاءَ النَّخْلِ الْمُؤَبَّرِ مَعَ اشْتِرَاطِ الْمُشْتَرِي لِثَمَرَتِهِ .
فَهَذِهِ النُّصُوصُ لَيْسَتْ عَامَّةً عُمُومًا لَفْظِيًّا فِي كُلِّ ثَمَرَةٍ فِي الْأَرْضِ ، وَإِنَّمَا هِيَ عَامَّةٌ لَفْظًا لِكُلِّ مَا عَهِدَهُ الْمُخَاطَبُونَ ، وَعَامَّةٌ مَعْنًى لِكُلِّ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ . وَمَا ذَكَرْنَا عَدَمَ تَحْرِيمِهِ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَلَا فِي مَعْنَاهُ ، فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ دَلِيلُ الْحُرْمَةِ ، فَيَبْقَى عَلَى الْحِلِّ . وَهَذَا وَحْدَهُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ التَّحْرِيمِ ، وَبِهِ يَتِمُّ مَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ أَوَّلًا مِنْ أَنَّ الْأَدِلَّةَ النَّافِيَةَ لِلتَّحْرِيمِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالِاسْتِصْحَابِيَّةِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ، لَكِنْ بِشَرْطِ نَفْيِ النَّاقِلِ الْمُغَيِّرِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا انْتِفَاءَهُ .
الطَّرِيقُ الثَّانِي : أَنْ نَقُولَ : وَإِنْ سَلَّمْنَا الْعُمُومَ اللَّفْظِيَّ ، لَكِنْ لَيْسَتْ هِيَ مُرَادَةً بَلْ هِيَ مَخْصُوصَةٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَخُصُّ مِثْلَ هَذَا الْعُمُومِ ، فَإِنَّ هَذَا الْعُمُومَ مَخْصُوصٌ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فِي
[ ص: 223 ] الثَّمَرِ التَّابِعِ لِشَجَرِهِ ، حَيْثُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004018 " مَنِ ابْتَاعَ نَخْلًا [ لَمْ يُؤَبَّرْ ] فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ " أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=12ابْنِ عُمَرَ . فَجَعَلَهَا لِلْمُبْتَاعِ إِذَا اشْتَرَطَهَا بَعْدَ التَّأْبِيرِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا حِينَئِذٍ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا مُفْرَدَةً . وَالْعُمُومُ الْمَخْصُوصُ بِالنَّصِّ أَوِ الْإِجْمَاعِ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ مِنْهُ صُورَةٌ فِي مَعْنَاهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنْ سَائِرِ الطَّوَائِفِ ، وَيَجُوزُ أَيْضًا تَخْصِيصُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَبِالْقِيَاسِ الْقَوِيِّ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ آثَارِ السَّلَفِ وَمِنَ الْمَعَانِي مَا يَخُصُّ مِثْلَ هَذَا لَوْ كَانَ عَامًّا ، أَوْ بِالِاشْتِدَادِ بِلَا تَغَيُّرِ لَوْنٍ ، كَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ ، فَبُدُوُّ الصَّلَاحِ فِي الثِّمَارِ مُتَنَوِّعٌ ، تَارَةً يَكُونُ بِالرُّطُوبَةِ بَعْدَ الْيُبْسِ ، وَتَارَةً بِالْيُبْسِ بَعْدَ الرُّطُوبَةِ ، وَتَارَةً بِتَغَيُّرِ لَوْنِهِ بِحُمْرَةٍ أَوْ صُفْرَةٍ أَوْ بَيَاضٍ ، وَتَارَةً لَا يَتَغَيَّرُ .
وَإِذَا كَانَ قَدْ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَحْمَرَّ أَوْ يَصْفَرَّ : عُلِمَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ يَشْمَلْ جَمِيعَ أَصْنَافِ الثِّمَارِ ، وَإِنَّمَا يَشْمَلُ مَا تَأْتِي فِيهِ الْحُمْرَةُ وَالصُّفْرَةُ ، وَقَدْ جَاءَ مُقَيَّدًا : أَنَّهُ النَّخْلُ .
فَتَدَبَّرَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَإِنَّهُ عَظِيمُ الْمَنْفَعَةِ فِي هَذِهِ [ الْقَضِيَّةِ ] الَّتِي عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى ، وَفِي نَظَائِرِهَا ، وَانْظُرْ فِي عُمُومِ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَفْظًا وَمَعْنًى ، حَتَّى تُعْطِيَهُ حَقَّهُ ، وَأَحْسُنُ مَا تَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى مَعْنَاهُ : آثَارُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ كَانُوا أَعْلَمَ بِمَقَاصِدِهِ ، فَإِنَّ ضَبْطَ ذَلِكَ يُوجِبُ تَوَافُقَ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَجَرْيِهَا عَلَى الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=157يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) [ الْأَعْرَافِ : 157] .
[ ص: 224 ]