وهذه الأقوال الثلاثة في مثل هذه المسألة موجودة بين الفقهاء - وهي ثلاثة أقوال في مذهب
أحمد وغيره -
nindex.php?page=treesubj&link=23797_5935هل يكون ربح من اتجر بمال غيره بغير إذنه لرب المال أو للعامل ، أو لهما ؟ على ثلاثة أقوال ، وأحسنها وأقيسها : أن يكون مشتركا بينهما ، كما قضى به
عمر ; لأن النماء متولد عن الأصلين .
وإذا كان أصل المضاربة الذي قد اعتمدوا عليه ، راعوا فيه ما ذكرناه من الشركة ، فأخذ مثل الدراهم يجري مجرى عينها . ولهذا سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون بعده القرض منيحة ، يقال : منيحة ورق . ويقول الناس : أعرني دراهمك ، يجعلون رد مثل الدراهم مثل رد عين العارية ، والمقترض انتفع بها وردها ، وسموا المضاربة قراضا ; لأنها في المقابلات نظير القرض في التبرعات .
ويقال أيضا : لو كان ما ذكروه من الفرق مؤثرا لكان اقتضاؤه لتجويز المزارعة دون المضاربة أولى من العكس ; لأن النماء إذا حصل مع بقاء الأصلين كان أولى بالصحة من حصوله مع ذهاب أحدهما . وإن قيل : الزرع نماء الأرض دون البدن ، فقد يقال : والربح نماء العامل ، دون الدراهم أو بالعكس ، وكل هذا باطل ، بل الزرع يحصل بمنفعة الأرض المشتملة على التراب والماء والهواء ، ومنفعة بدن العامل والبقر والحديد .
[ ص: 237 ] ثم لو سلم أن بينها وبين المضاربة فرقا فلا ريب أنها بالمضاربة أشبه منها بالمؤاجرة ; لأن المؤاجرة المقصود فيها هو العمل ، ويشترط أن يكون معلوما ، والأجرة مضمونة في الذمة أو عين معينة . وهنا ليس المقصود إلا النماء ، ولا يشترط معرفة العمل ، والأجرة ليست عينا ولا شيئا في الذمة ، وإنما هي بعض ما يحصل من النماء . ولهذا متى عين فيها شيء معين فسد العقد ، كما
nindex.php?page=treesubj&link=23792_5979تفسد المضاربة إذا شرطا لأحدهما ربحا معينا ، أو أجرة معلومة في الذمة . وهذا بين في الغاية . فإذا كانت بالمضاربة أشبه منها بالمؤاجرة جدا ، والفرق الذي بينها وبين المضاربة ضعيف والذي بينهما وبين المؤاجرة فروق غير مؤثرة في الشرع والعقل ، وكان لا بد من إلحاقها بأحد الأصلين ، فإلحاقها بما هي به أشبه أولى . وهذا أجلى من أن يحتاج فيه إلى إطناب .
الوجه الثالث : أن نقول : لفظ الإجارة فيه عموم وخصوص . فإنها على ثلاث مراتب :
أحدها : أن يقال لكل من بذل نفعا بعوض . فيدخل في ذلك المهر ، كما في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=24فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن ) وسواء كان العمل هنا معلوما أو مجهولا ، وكان الآخر معلوما أو مجهولا لازما أو غير لازم .
المرتبة الثانية : الإجارة التي هي جعالة ، وهو أن يكون النفع غير معلوم ، لكن العوض مضمونا ، فيكون عقدا جائزا غير لازم ، مثل أن يقول : من رد علي عبدي فله كذا . فقد يرده من كان بعيدا أو قريبا .
الثالثة :
nindex.php?page=treesubj&link=6040الإجارة الخاصة ، وهي أن يستأجر عينا أو يستأجره على عمل في الذمة ، بحيث تكون المنفعة معلومة . فيكون الأجر معلوما
[ ص: 238 ] والإجارة لازمة . وهذه الإجارة التي تشبه البيع في عامة أحكامه . والفقهاء المتأخرون إذا أطلقوا الإجارة ، أو قالوا : " باب الإجارة " ، أرادوا هذا بالمعنى .
فيقال : المساقاة والمزارعة والمضاربة ونحوهن من المشاركات على نماء يحصل ، من قال : هي إجارة بالمعنى الأعم أو العام ، فقد صدق . ومن قال : هي إجارة بالمعنى الخاص فقد أخطأ . وإذا كانت إجارة بالمعنى العام التي هي الجعالة ، فهنالك إن كان العوض شيئا مضمونا من عين أو دين ، فلا بد أن يكون معلوما ، وأما إن كان العوض مما يحصل من العمل جاز أن يكون جزءا شائعا فيه . كما لو قال الأمير في الغزو : من دلنا على حصن كذا فله منه كذا ، فحصول الجعل هناك مشروط بحصول المال ، مع أنه جعالة محضة لا شركة فيه ، فالشركة أولى وأحرى .
ويسلك في هذا طريقة أخرى ، فيقال : الذي دل عليه قياس الأصول أن الإجارة الخاصة يشترط فيها أن يكون العوض غررا ، قياسا على الثمن . فأما الإجارة العامة التي لا يشترط فيها العلم بالمنفعة فلا تشبه هذه الإجارة لما تقدم ، فلا يجوز إلحاقها بها ، فتبقى على الأصل المبيح .
فتحرير المسألة : أن المعتقد لكونها إجارة يستفسر عن مراده بالإجارة . فإن أراد الخاصة : لم يصح ، وإن أراد العامة : فأين الدليل على تحريمها إلا بعوض معلوم ؟ فإن ذكر قياسا بين له الفرق الذي لا يخفى على غير فقيه ، فضلا عن الفقيه ، ولن يجد إلى أمر يشمل مثل هذه الإجارة سبيلا . فإذا انتفت أدلة التحريم ثبت الحل .
ويسلك في هذا طريقة أخرى ، وهو قياس العكس . وهو أن
[ ص: 239 ] يثبت في الفرع نقيض حكم الأصل ; لانتفاء العلة المقتضية لحكم الأصل . فيقال : المعنى الموجب لكون الأجرة يجب أن تكون معلومة منتف في باب المزارعة ونحوها ; لأن المقتضي لذلك أن المجهول غرر . فيكون في معنى بيع الغرر المقتضي أكل المال بالباطل ، أو ما يذكر من هذا الجنس . وهذه المعاني منتفية في الفرع ، فإذا لم يكن للتحريم موجب إلا كذا - وهو منتف - فلا تحريم .
وأما الأحاديث - حديث
nindex.php?page=showalam&ids=46رافع بن خديج وغيره - : فقد جاءت مفسرة مبينة لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه لم يكن نهيا عما فعل هو والصحابة في عهده وبعده ، بل الذي رخص فيه غير الذي نهى عنه . فعن
nindex.php?page=showalam&ids=46رافع بن خديج قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004042كنا أكثر أهل المدينة مزدرعا ، كنا nindex.php?page=treesubj&link=26878نكري الأرض بالناحية منها تسمى لسيد الأرض . قال : [فمما] يصاب ذلك وتسلم الأرض ، [فمما] تصاب الأرض ويسلم ذلك ؟ فنهينا ، فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ " . رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري . وفي رواية له قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004043كنا أكثر أهل المدينة حقلا . وكان أحدنا يكري أرضه فيقول : هذه القطعة لي ، وهذه لك . فربما أخرجت ذه ولم تخرج ذه ، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - " وفي رواية : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004044فربما أخرجت هذه كذا ولم تخرج ذه ، فنهينا عن ذلك ، ولم ننه عن الورق " وفي صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم عن
رافع قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004045 " كنا أكثر أهل الأمصار حقلا . قال : كنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه . فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه ، فنهانا عن ذلك ، وأما الورق فلم ينهنا " . وفي
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم أيضا عن
حنظلة بن قيس [ ص: 240 ] قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004046سألت nindex.php?page=showalam&ids=46رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق ؟ فقال : " لا بأس به ، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما على الماذيانات وأقبال الجداول ، وأشياء من الزرع ، فيهلك هذا ، ويسلم هذا ، ويهلك هذا ، فلم يكن للناس كراء إلا هذا ، فلذلك زجر الناس عنه ، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به " .
فهذا
nindex.php?page=showalam&ids=46رافع بن خديج - الذي عليه مدار الحديث - يذكر أنه لم يكن لهم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كراء إلا بزرع مكان معين من الحقل . وهذا النوع حرام بلا ريب عند الفقهاء قاطبة ، وحرموا نظيره في المضاربة . فلو اشترط ربح ثوب بعينه لم يجز . وهذا الغرر في المشاركات نظير الغرر في المعاوضات .
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَوْجُودَةٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ - وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ
أحمد وَغَيْرِهِ -
nindex.php?page=treesubj&link=23797_5935هَلْ يَكُونُ رِبْحُ مَنِ اتَّجَرَ بِمَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لِرَبِّ الْمَالِ أَوْ لِلْعَامِلِ ، أَوْ لَهُمَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ، وَأَحْسَنُهَا وَأَقْيَسُهَا : أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا ، كَمَا قَضَى بِهِ
عمر ; لِأَنَّ النَّمَاءَ مُتَوَلِّدٌ عَنِ الْأَصْلَيْنِ .
وَإِذَا كَانَ أَصْلُ الْمُضَارَبَةِ الَّذِي قَدِ اعْتَمَدُوا عَلَيْهِ ، رَاعَوْا فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الشَّرِكَةِ ، فَأَخْذُ مِثْلِ الدَّرَاهِمِ يَجْرِي مَجْرَى عَيْنِهَا . وَلِهَذَا سَمَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ الْقَرْضَ مَنِيحَةً ، يُقَالُ : مَنِيحَةُ وَرِقٍ . وَيَقُولُ النَّاسُ : أَعِرْنِي دَرَاهِمَكَ ، يَجْعَلُونَ رَدَّ مِثْلِ الدَّرَاهِمِ مِثْلَ رَدِّ عَيْنِ الْعَارِيَةِ ، وَالْمُقْتَرِضُ انْتَفَعَ بِهَا وَرَدَّهَا ، وَسَمَّوُا الْمُضَارَبَةَ قِرَاضًا ; لِأَنَّهَا فِي الْمُقَابَلَاتِ نَظِيرَ الْقَرْضِ فِي التَّبَرُّعَاتِ .
وَيُقَالُ أَيْضًا : لَوْ كَانَ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْفَرْقِ مُؤَثِّرًا لَكَانَ اقْتِضَاؤُهُ لِتَجْوِيزِ الْمُزَارَعَةِ دُونَ الْمُضَارَبَةِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ ; لِأَنَّ النَّمَاءَ إِذَا حَصَلَ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلَيْنِ كَانَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِنْ حُصُولِهِ مَعَ ذَهَابِ أَحَدِهِمَا . وَإِنْ قِيلَ : الزَّرْعُ نَمَاءُ الْأَرْضِ دُونَ الْبَدَنِ ، فَقَدْ يُقَالُ : وَالرِّبْحُ نَمَاءُ الْعَامِلِ ، دُونَ الدَّرَاهِمِ أَوْ بِالْعَكْسِ ، وَكُلُّ هَذَا بَاطِلٌ ، بَلِ الزَّرْعُ يَحْصُلُ بِمَنْفَعَةِ الْأَرْضِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى التُّرَابِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ ، وَمَنْفَعَةِ بَدَنِ الْعَامِلِ وَالْبَقَرِ وَالْحَدِيدِ .
[ ص: 237 ] ثُمَّ لَوْ سُلِّمَ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُضَارَبَةِ فَرْقًا فَلَا رَيْبَ أَنَّهَا بِالْمُضَارَبَةِ أَشْبَهُ مِنْهَا بِالْمُؤَاجَرَةِ ; لِأَنَّ الْمُؤَاجَرَةَ الْمَقْصُودُ فِيهَا هُوَ الْعَمَلُ ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا ، وَالْأُجْرَةُ مَضْمُونَةٌ فِي الذِّمَّةِ أَوْ عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ . وَهُنَا لَيْسَ الْمَقْصُودُ إِلَّا النَّمَاءَ ، وَلَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الْعَمَلِ ، وَالْأُجْرَةُ لَيْسَتْ عَيْنًا وَلَا شَيْئًا فِي الذِّمَّةِ ، وَإِنَّمَا هِيَ بَعْضُ مَا يَحْصُلُ مِنَ النَّمَاءِ . وَلِهَذَا مَتَى عُيِّنَ فِيهَا شَيْءٌ مُعَيَّنٌ فَسَدَ الْعَقْدُ ، كَمَا
nindex.php?page=treesubj&link=23792_5979تَفْسُدُ الْمُضَارَبَةُ إِذَا شَرَطَا لِأَحَدِهِمَا رِبْحًا مُعَيَّنًا ، أَوْ أُجْرَةً مَعْلُومَةً فِي الذِّمَّةِ . وَهَذَا بَيِّنٌ فِي الْغَايَةِ . فَإِذَا كَانَتْ بِالْمُضَارَبَةِ أَشْبَهَ مِنْهَا بِالْمُؤَاجَرَةِ جِدًّا ، وَالْفَرْقَ الَّذِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُضَارَبَةِ ضَعِيفٌ وَالَّذِي بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُؤَاجَرَةِ فُرُوقٌ غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ ، وَكَانَ لَا بُدَّ مِنْ إِلْحَاقِهَا بِأَحَدِ الْأَصْلَيْنِ ، فَإِلْحَاقُهَا بِمَا هِيَ بِهِ أَشْبَهُ أَوْلَى . وَهَذَا أَجْلَى مِنْ أَنْ يُحْتَاجَ فِيهِ إِلَى إِطْنَابٍ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ نَقُولَ : لَفْظُ الْإِجَارَةِ فِيهِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ . فَإِنَّهَا عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ :
أَحَدُهَا : أَنْ يُقَالَ لِكُلِّ مَنْ بَذَلَ نَفْعًا بِعِوَضٍ . فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْمَهْرُ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=24فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَمَلُ هُنَا مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا ، وَكَانَ الْآخَرُ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا لَازِمًا أَوْ غَيْرَ لَازِمٍ .
الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ : الْإِجَارَةُ الَّتِي هِيَ جَعَالَةٌ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ النَّفْعُ غَيْرَ مَعْلُومٍ ، لَكِنِ الْعِوَضُ مَضْمُونًا ، فَيَكُونُ عَقْدًا جَائِزًا غَيْرَ لَازِمٍ ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : مَنْ رَدَّ عَلَيَّ عَبْدِي فَلَهُ كَذَا . فَقَدْ يَرُدُّهُ مَنْ كَانَ بَعِيدًا أَوْ قَرِيبًا .
الثَّالِثَةُ :
nindex.php?page=treesubj&link=6040الْإِجَارَةُ الْخَاصَّةُ ، وَهِيَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَيْنًا أَوْ يَسْتَأْجِرَهُ عَلَى عَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ ، بِحَيْثُ تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ مَعْلُومَةً . فَيَكُونُ الْأَجْرُ مَعْلُومًا
[ ص: 238 ] وَالْإِجَارَةُ لَازِمَةً . وَهَذِهِ الْإِجَارَةُ الَّتِي تُشْبِهُ الْبَيْعَ فِي عَامَّةِ أَحْكَامِهِ . وَالْفُقَهَاءُ الْمُتَأَخِّرُونَ إِذَا أَطْلَقُوا الْإِجَارَةَ ، أَوْ قَالُوا : " بَابُ الْإِجَارَةِ " ، أَرَادُوا هَذَا بِالْمَعْنَى .
فَيُقَالُ : الْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ وَالْمُضَارَبَةُ وَنَحْوُهُنَّ مِنَ الْمُشَارَكَاتِ عَلَى نَمَاءٍ يَحْصُلُ ، مَنْ قَالَ : هِيَ إِجَارَةٌ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ أَوِ الْعَامِّ ، فَقَدْ صَدَقَ . وَمَنْ قَالَ : هِيَ إِجَارَةٌ بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ فَقَدْ أَخْطَأَ . وَإِذَا كَانَتْ إِجَارَةً بِالْمَعْنَى الْعَامِّ الَّتِي هِيَ الْجَعَالَةُ ، فَهُنَالِكَ إِنْ كَانَ الْعِوَضُ شَيْئًا مَضْمُونًا مِنْ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْعِوَضُ مِمَّا يَحْصُلُ مِنَ الْعَمَلِ جَازَ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا شَائِعًا فِيهِ . كَمَا لَوْ قَالَ الْأَمِيرُ فِي الْغَزْوِ : مَنْ دَلَّنَا عَلَى حِصْنِ كَذَا فَلَهُ مِنْهُ كَذَا ، فَحُصُولُ الْجَعْلِ هُنَاكَ مَشْرُوطٌ بِحُصُولِ الْمَالِ ، مَعَ أَنَّهُ جَعَالَةٌ مَحْضَةٌ لَا شَرِكَةَ فِيهِ ، فَالشَّرِكَةُ أَوْلَى وَأَحْرَى .
وَيُسْلَكُ فِي هَذَا طَرِيقَةٌ أُخْرَى ، فَيُقَالُ : الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قِيَاسُ الْأُصُولِ أَنَّ الْإِجَارَةَ الْخَاصَّةَ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ غَرَرًا ، قِيَاسًا عَلَى الثَّمَنِ . فَأَمَّا الْإِجَارَةُ الْعَامَّةُ الَّتِي لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعِلْمُ بِالْمَنْفَعَةِ فَلَا تُشْبِهُ هَذِهِ الْإِجَارَةَ لِمَا تَقَدَّمَ ، فَلَا يَجُوزُ إِلْحَاقُهَا بِهَا ، فَتَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ الْمُبِيحِ .
فَتَحْرِيرُ الْمَسْأَلَةِ : أَنَّ الْمُعْتَقِدَ لِكَوْنِهَا إِجَارَةً يُسْتَفْسَرُ عَنْ مُرَادِهِ بِالْإِجَارَةِ . فَإِنْ أَرَادَ الْخَاصَّةَ : لَمْ يَصِحَّ ، وَإِنْ أَرَادَ الْعَامَّةَ : فَأَيْنَ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهَا إِلَّا بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ ؟ فَإِنْ ذَكَرَ قِيَاسًا بُيِّنَ لَهُ الْفَرْقُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى غَيْرِ فَقِيهٍ ، فَضْلًا عَنِ الْفَقِيهِ ، وَلَنْ يَجِدَ إِلَى أَمْرٍ يَشْمَلُ مِثْلَ هَذِهِ الْإِجَارَةِ سَبِيلًا . فَإِذَا انْتَفَتْ أَدِلَّةُ التَّحْرِيمِ ثَبَتَ الْحِلُّ .
وَيُسْلَكُ فِي هَذَا طَرِيقَةٌ أُخْرَى ، وَهُوَ قِيَاسُ الْعَكْسِ . وَهُوَ أَنْ
[ ص: 239 ] يَثْبُتَ فِي الْفَرْعِ نَقِيضُ حُكْمِ الْأَصْلِ ; لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِحُكْمِ الْأَصْلِ . فَيُقَالُ : الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِكَوْنِ الْأُجْرَةِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً مُنْتَفٍ فِي بَابِ الْمُزَارَعَةِ وَنَحْوِهَا ; لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِذَلِكَ أَنَّ الْمَجْهُولَ غَرَرٌ . فَيَكُونُ فِي مَعْنَى بَيْعِ الْغَرَرِ الْمُقْتَضِي أَكْلَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ ، أَوْ مَا يُذْكَرُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ . وَهَذِهِ الْمَعَانِي مُنْتَفِيَةٌ فِي الْفَرْعِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ لِلتَّحْرِيمِ مُوجَبٌ إِلَّا كَذَا - وَهُوَ مُنْتَفٍ - فَلَا تَحْرِيمَ .
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ - حَدِيثُ
nindex.php?page=showalam&ids=46رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَغَيْرُهُ - : فَقَدْ جَاءَتْ مُفَسِّرَةً مُبَيِّنَةً لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَهْيًا عَمَّا فَعَلَ هُوَ وَالصَّحَابَةُ فِي عَهْدِهِ وَبَعْدِهِ ، بَلِ الَّذِي رَخَّصَ فِيهِ غَيْرُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ . فَعَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=46رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004042كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مُزْدَرَعًا ، كُنَّا nindex.php?page=treesubj&link=26878نُكْرِي الْأَرْضَ بِالنَّاحِيَةِ مِنْهَا تُسَمَّى لِسَيِّدِ الْأَرْضِ . قَالَ : [فَمِمَّا] يُصَابُ ذَلِكَ وَتَسْلَمُ الْأَرْضُ ، [فَمِمَّا] تُصَابُ الْأَرْضُ وَيَسْلَمُ ذَلِكَ ؟ فَنُهِينَا ، فَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ فَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ " . رَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيُّ . وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ قَالَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004043كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حَقْلًا . وَكَانَ أَحَدُنَا يُكْرِي أَرْضَهُ فَيَقُولُ : هَذِهِ الْقِطْعَةُ لِي ، وَهَذِهِ لَكَ . فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ ذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ ذِهِ ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " وَفِي رِوَايَةٍ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004044فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ كَذَا وَلَمْ تُخْرِجْ ذِهِ ، فَنُهِينَا عَنْ ذَلِكَ ، وَلَمْ نُنْهَ عَنِ الْوَرِقِ " وَفِي صَحِيحِ
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم عَنْ
رافع قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004045 " كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْأَمْصَارِ حَقْلًا . قَالَ : كُنَّا نُكْرِي الْأَرْضَ عَلَى أَنَّ لَنَا هَذِهِ وَلَهُمْ هَذِهِ . فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِهِ ، فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ ، وَأَمَّا الْوَرِقُ فَلَمْ يَنْهَنَا " . وَفِي
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم أَيْضًا عَنْ
حنظلة بن قيس [ ص: 240 ] قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004046سَأَلْتُ nindex.php?page=showalam&ids=46رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ ؟ فَقَالَ : " لَا بَأْسَ بِهِ ، إِنَّمَا كَانَ النَّاسُ يُؤَاجِرُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ وَأَقْبَالِ الْجَدَاوِلِ ، وَأَشْيَاءَ مِنَ الزَّرْعِ ، فَيَهْلِكُ هَذَا ، وَيَسْلَمُ هَذَا ، وَيَهْلِكُ هَذَا ، فَلَمْ يَكُنِ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إِلَّا هَذَا ، فَلِذَلِكَ زَجَرَ النَّاسَ عَنْهُ ، فَأَمَّا شَيْءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ " .
فَهَذَا
nindex.php?page=showalam&ids=46رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ - الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ الْحَدِيثِ - يَذْكُرُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كِرَاءٌ إِلَّا بِزَرْعِ مَكَانٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْحَقْلِ . وَهَذَا النَّوْعُ حَرَامٌ بِلَا رَيْبٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ قَاطِبَةً ، وَحَرَّمُوا نَظِيرَهُ فِي الْمُضَارَبَةِ . فَلَوِ اشْتَرَطَ رِبْحَ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ . وَهَذَا الْغَرَرُ فِي الْمُشَارَكَاتِ نَظِيرُ الْغَرَرِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ .