[ ص: 393 ] 78 - الأسئلة الوزيرية وأجوبتها
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله مجيب السائلين . ما يقول علامة الزمان ، والفائق على سائر الأقران ، في الجواب عن أسئلة على وجه يرتفع عنها غريب الإشكال حتى تهدي الطالب لوجه الحق فيها على أحسن حال ؟
الأول :
nindex.php?page=treesubj&link=34080هل الوضع في أسماء الإشارة للمعنى العام أو للخصوصيات المشتركة ؟
فإن قلت : بالأول ورد أنه لا يجوز إطلاقها عليه إذ لا يطلق إلا على الخصوصيات ، فلا يقال هذا والمراد أحد مما يشار إليه ، ولو كان كما يقول لجاز ذلك كما في رجل مع أنه يلزم أن يكون استعماله في الخصوصيات مجازا ولا قائل به . وإن قلت : إنه موضوع للخصوصيات لزمك أن يكون المعنى مشتركا لفظيا ولا قائل به مع أنه يشار به إلى أمر كلي مذكور وذلك ينافي وضعه للخاص .
الثاني : إطلاق العام وإرادة الخاص أحقيقة أم مجاز ؟ فإن قلت : بالأول أورد أنه استعمال اللفظ في غير ما وضع له فكيف يكون حقيقة ؟ وإن قلت : بالثاني ورد ما ذكره بعض المحققين من أنه قد يكون في هذه الحالة حقيقة ، الثالث : هل الإنسان بالنسبة إلى الأب والابن مشكك أم متواطئ ؟ الرابع : هل ينطبق على مجاز الزيادة والنقصان تعريف المجاز بأنه اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة أم لا ؟ الخامس : أن العلاقة في مثل قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=40وجزاء سيئة سيئة ) ما هي ومن أي الأنواع المذكورة في العلاقة ؟ السادس : وهو أعظمها إشكالا كيف صح التكليف بالإيمان مع أن الإيمان في الشرع هو التصديق بما جاء به
محمد صلى الله عليه وسلم وكل تصديق فهو كيف ، فالإيمان كيف ولا شيء من الكيف بمكلف به فلا شيء من الإيمان بمكلف به ، أما الصغرى فواضحة ، وأما الكبرى فلما تقرر في الأصول من أنه لا تكليف إلا بفعل ؟ والمسئول من الأستاذ المحقق والمولى المدقق كشف الحجاب عن هذه الأسئلة بإيضاح الصواب .
الجواب : الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى . وردت علي هذه الأسئلة من مولى لا يخفى على مثله جوابها ولا يطلب من غيره صوابها ، غير أنه قصد بذلك
[ ص: 394 ] تجديد العهد القديم وتذكير الود القديم ، فأقول والله الهادي إلى صراط مستقيم هذه الأسئلة كلها مسطورة وأجوبتها معروفة مشهورة .
أما السؤال الأول : فقد ذكره وجوابه
القرافي علامة المالكية لكن في المضمر فقال : اختلف الفضلاء في
nindex.php?page=treesubj&link=34080مسمى المضمر حيث وجد هل هو جزئي أو كلي ؟ فقال الأكثرون : مسماه جزئي واحتجوا بإجماع النحاة على أنه معرفة ، ولو كان مسماه كليا لكان نكرة ، وبأنه لو كان كليا كان دالا على ما هو أعم من الشخص المعين ، والقاعدة العقلية أن الدال على الأعم غير دال على الأخص ، فيلزم أن لا يدل المضمر على شخص خاص البتة وليس كذلك ، وهذا معنى قول السائل حفظه الله - وإن قلت بالأول - ورد أنه لا يجوز إطلاقها عليه إلى آخره .
ثم قال
القرافي : وذهب الأقلون وهو الذي أجزم بصحته إلى أن مسماه كلي قال : والدليل عليه أنه لو كان مسماه جزئيا لما صدق على شخص آخر إلا بوضع آخر كالإعلام ، فإنها لما كان مسماها جزئيا لم يصدق على غير من وضعت له إلا بوضع ثان ، فإذا قال قائل : أنا فإن كان اللفظ موضوعا بإزاء خصوصه من حيث هو هو وخصوصه ليس موجودا في غيره فيلزم أن لا يصدق على غيره إلا بوضع آخر ، وإن كان موضوعا لمفهوم المتكلم بها وهو قدر مشترك بينه وبين غيره والمشترك كلي فيكون لفظ أنا حقيقة في كل من قال أنا لأنه متكلم بهذا الذي هو مسمى اللفظ ، فينطبق ذلك على الواقع ، قال : والجواب عما احتج به الأولون أن دلالة اللفظ على الشخص المعين لها سببان : أحدهما وضع اللفظ بإزاء خصوصه فيفهم الشخص حينئذ للوضع بإزاء الخصوص وهذا كالعلم .
والثاني : أن يوضع اللفظ بإزاء معنى عام ويدل الواقع على أن مسمى اللفظ محصور في شخص معين ، فيدل اللفظ عليه لانحصار مسماه فيه لا للوضع بإزائه ، ومن ذلك المضمرات وضعت العرب لفظة أنا مثلا لمفهوم المتكلم بها ، فإذا قال القائل أنا - فهم هو - لأن الواقع أنه لم يقل هذه اللفظة الآن إلا هو ففهمناه لانحصار المسمى فيه لا للوضع بإزائه - وكذلك بقية المضمرات - قال : وبهذا يحصل الجواب عن القاعدة العقلية أن اللفظ الموضوع لمعنى أعم لا يدل على ما هو أخص منه ، فإن الدلالة لم تأت من اللفظ ، وإنما أتت من جهة حصر الواقع المسمى في ذلك الأخص - هذا كلام
القرافي ملخصا - وما قاله في المضمرات بعينه في اسم الإشارة ، وقول السائل حفظه الله : إن قلت بالأول ورد كذا ، وإن قلت بالثاني لزم أن يكون مشتركا لفظيا ولا قائل به إلى آخره .
[ ص: 395 ] جوابه : أنه ليس من باب المشترك ولا من باب المجاز ، بل من باب الوضع للقدر المشترك ، والوضع للقدر المشترك معروف في الأصول في مواضع ، فليس الوضع منحصرا فيما ردده السائل ، فهذا مثلا وضع لمشار إليه مفرد ذكر حاضر أو في حكمه وهو مفهوم كلي ، وانحصاره في خاص ليس للوضع بإزائه ، بل لأن المتكلم لم يشر به الآن إلا لزيد مثلا ، وهذا معنى قول بعض النحاة المحققين : إن المضمر واسم الإشارة كلي وضعا جزئي استعمالا ، ونظيره قول بعض الأصوليين أن الأمر موضوع للقدر المشترك بين الوجوب والندب ، وهو الطلب حذرا من المجاز والاشتراك ، فاستعمال صيغة الأمر في الندب وفي الوجوب مثلا نقول في كل منها إنه حقيقة غير مجاز وغير مشترك ؛ لأن الوضع على هذا القول ليس لكل منهما ولا لواحد منهما ثم استعمل في غيره ، وإنما هو لمعنى صادق على كل منهما وهو الطلب ، وكذا نقول في اسم الإشارة والمضمر : ليس الوضع فيهما لواحد فقط بحيث يستعمل في غيره مجازا ، ولا لكل واحد بحيث يكون مشتركا ، بل لمفهوم صادق على كل فرد وهو في اسم الإشارة مشار إليه مفرد ذكر حاضر كما قلناه ، وفي المضمر متكلم مفرد أو غيره كما قاله
القرافي .
[ ص: 393 ] 78 - الْأَسْئِلَةُ الْوَزِيرِيَّةُ وَأَجْوِبَتُهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ مُجِيبِ السَّائِلِينَ . مَا يَقُولُ عَلَّامَةُ الزَّمَانِ ، وَالْفَائِقُ عَلَى سَائِرِ الْأَقْرَانِ ، فِي الْجَوَابِ عَنْ أَسْئِلَةٍ عَلَى وَجْهٍ يَرْتَفِعُ عَنْهَا غَرِيبُ الْإِشْكَالِ حَتَّى تَهْدِيَ الطَّالِبَ لِوَجْهِ الْحَقِّ فِيهَا عَلَى أَحْسَنِ حَالٍ ؟
الْأَوَّلُ :
nindex.php?page=treesubj&link=34080هَلِ الْوَضْعُ فِي أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ لِلْمَعْنَى الْعَامِّ أَوْ لِلْخُصُوصِيَّاتِ الْمُشْتَرَكَةِ ؟
فَإِنْ قُلْتَ : بِالْأَوَّلِ وَرَدَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُهَا عَلَيْهِ إِذْ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْخُصُوصِيَّاتِ ، فَلَا يُقَالُ هَذَا وَالْمُرَادُ أَحَدٌ مِمَّا يُشَارُ إِلَيْهِ ، وَلَوْ كَانَ كَمَا يَقُولُ لَجَازَ ذَلِكَ كَمَا فِي رَجُلٍ مَعَ أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْخُصُوصِيَّاتِ مَجَازًا وَلَا قَائِلَ بِهِ . وَإِنْ قُلْتَ : إِنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْخُصُوصِيَّاتِ لَزِمَكَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مُشْتَرَكًا لَفْظِيًّا وَلَا قَائِلَ بِهِ مَعَ أَنَّهُ يُشَارُ بِهِ إِلَى أَمْرٍ كُلِّيٍّ مَذْكُورٍ وَذَلِكَ يُنَافِي وَضْعَهُ لِلْخَاصِّ .
الثَّانِي : إِطْلَاقُ الْعَامِّ وَإِرَادَةُ الْخَاصِّ أَحَقِيقَةٌ أَمْ مَجَازٌ ؟ فَإِنْ قُلْتَ : بِالْأَوَّلِ أَوَرَدَ أَنَّهُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ فَكَيْفَ يَكُونُ حَقِيقَةً ؟ وَإِنْ قُلْتَ : بِالثَّانِي وَرَدَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ حَقِيقَةً ، الثَّالِثُ : هَلِ الْإِنْسَانُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَبِ وَالِابْنِ مُشَكِّكٌ أَمْ مُتَوَاطِئٌ ؟ الرَّابِعُ : هَلْ يَنْطَبِقُ عَلَى مَجَازِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ تَعْرِيفُ الْمَجَازِ بِأَنَّهُ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ لِعَلَاقَةٍ أَمْ لَا ؟ الْخَامِسُ : أَنَّ الْعَلَاقَةَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=40وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ ) مَا هِيَ وَمِنْ أَيِّ الْأَنْوَاعِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْعَلَاقَةِ ؟ السَّادِسُ : وَهُوَ أَعْظَمُهَا إِشْكَالًا كَيْفَ صَحَّ التَّكْلِيفُ بِالْإِيمَانِ مَعَ أَنَّ الْإِيمَانَ فِي الشَّرْعِ هُوَ التَّصْدِيقُ بِمَا جَاءَ بِهِ
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّ تَصْدِيقٍ فَهُوَ كَيْفٌ ، فَالْإِيمَانُ كَيْفٌ وَلَا شَيْءَ مِنَ الْكَيْفِ بِمُكَلَّفٍ بِهِ فَلَا شَيْءَ مِنَ الْإِيمَانِ بِمُكَلَّفٍ بِهِ ، أَمَّا الصُّغْرَى فَوَاضِحَةٌ ، وَأَمَّا الْكُبْرَى فَلِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ مِنْ أَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ إِلَّا بِفِعْلٍ ؟ وَالْمَسْئُولُ مِنَ الْأُسْتَاذِ الْمُحَقِّقِ وَالْمَوْلَى الْمُدَقِّقِ كَشْفُ الْحِجَابِ عَنْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ بِإِيضَاحِ الصَّوَابِ .
الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى . وَرَدَتْ عَلَيَّ هَذِهِ الْأَسْئِلَةُ مِنْ مَوْلًى لَا يَخْفَى عَلَى مِثْلِهِ جَوَابُهَا وَلَا يُطْلَبُ مِنْ غَيْرِهِ صَوَابُهَا ، غَيْرَ أَنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ
[ ص: 394 ] تَجْدِيدَ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَتَذْكِيرَ الْوُدِّ الْقَدِيمِ ، فَأَقُولُ وَاللَّهُ الْهَادِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ هَذِهِ الْأَسْئِلَةُ كُلُّهَا مَسْطُورَةٌ وَأَجْوِبَتُهَا مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ .
أَمَّا السُّؤَالُ الْأَوَّلُ : فَقَدْ ذَكَرَهُ وَجَوَابَهُ
القرافي عَلَّامَةُ الْمَالِكِيَّةِ لَكِنْ فِي الْمُضْمَرِ فَقَالَ : اخْتَلَفَ الْفُضَلَاءُ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=34080مُسَمَّى الْمُضْمَرِ حَيْثُ وُجِدَ هَلْ هُوَ جُزْئِيٌّ أَوْ كُلِّيٌّ ؟ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ : مُسَمَّاهُ جُزْئِيٌّ وَاحْتَجُّوا بِإِجْمَاعِ النُّحَاةِ عَلَى أَنَّهُ مَعْرِفَةٌ ، وَلَوْ كَانَ مُسَمَّاهُ كُلِّيًّا لَكَانَ نَكِرَةً ، وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كُلِّيًّا كَانَ دَالًّا عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ ، وَالْقَاعِدَةُ الْعَقْلِيَّةُ أَنَّ الدَّالَّ عَلَى الْأَعَمِّ غَيْرُ دَالٍّ عَلَى الْأَخَصِّ ، فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَدُلَّ الْمُضْمَرُ عَلَى شَخْصٍ خَاصٍّ الْبَتَّةَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ السَّائِلِ حَفِظَهُ اللَّهُ - وَإِنْ قُلْتَ بِالْأَوَّلِ - وَرَدَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُهَا عَلَيْهِ إِلَى آخِرِهِ .
ثُمَّ قَالَ
القرافي : وَذَهَبَ الْأَقَلُّونَ وَهُوَ الَّذِي أَجْزِمُ بِصِحَّتِهِ إِلَى أَنَّ مُسَمَّاهُ كُلِّيٌّ قَالَ : وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُسَمَّاهُ جُزْئِيًّا لَمَا صَدَقَ عَلَى شَخْصٍ آخَرَ إِلَّا بِوَضْعٍ آخَرَ كَالْإِعْلَامِ ، فَإِنَّهَا لَمَّا كَانَ مُسَمَّاهَا جُزْئِيًّا لَمْ يَصْدُقْ عَلَى غَيْرِ مَنْ وُضِعَتْ لَهُ إِلَّا بِوَضْعٍ ثَانٍ ، فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ : أَنَا فَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا بِإِزَاءِ خُصُوصِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ وَخُصُوصُهُ لَيْسَ مَوْجُودًا فِي غَيْرِهِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَصْدُقَ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا بِوَضْعٍ آخَرَ ، وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعًا لِمَفْهُومِ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا وَهُوَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَالْمُشْتَرَكُ كُلِّيٌّ فَيَكُونُ لَفْظُ أَنَا حَقِيقَةً فِي كُلِّ مَنْ قَالَ أَنَا لِأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِهَذَا الَّذِي هُوَ مُسَمَّى اللَّفْظِ ، فَيَنْطَبِقُ ذَلِكَ عَلَى الْوَاقِعِ ، قَالَ : وَالْجَوَابُ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ الْأَوَّلُونَ أَنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ عَلَى الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ لَهَا سَبَبَانِ : أَحَدُهُمَا وَضْعُ اللَّفْظِ بِإِزَاءِ خُصُوصِهِ فَيَفْهَمُ الشَّخْصُ حِينَئِذٍ لِلْوَضْعِ بِإِزَاءِ الْخُصُوصِ وَهَذَا كَالْعِلْمِ .
وَالثَّانِي : أَنْ يُوضَعَ اللَّفْظُ بِإِزَاءِ مَعْنًى عَامٍّ وَيَدُلُّ الْوَاقِعُ عَلَى أَنَّ مُسَمَّى اللَّفْظِ مَحْصُورٌ فِي شَخْصٍ مُعَيَّنٍ ، فَيَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ لِانْحِصَارِ مُسَمَّاهُ فِيهِ لَا لِلْوَضْعِ بِإِزَائِهِ ، وَمِنْ ذَلِكَ الْمُضْمَرَاتُ وَضَعَتِ الْعَرَبُ لَفْظَةَ أَنَا مَثَلًا لِمَفْهُومِ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا ، فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ أَنَا - فُهِمَ هُوَ - لِأَنَّ الْوَاقِعَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ هَذِهِ اللَّفْظَةَ الْآنَ إِلَّا هُوَ فَفَهِمْنَاهُ لِانْحِصَارِ الْمُسَمَّى فِيهِ لَا لِلْوَضْعِ بِإِزَائِهِ - وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْمُضْمَرَاتِ - قَالَ : وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَنِ الْقَاعِدَةِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ اللَّفْظَ الْمَوْضُوعَ لِمَعْنًى أَعَمَّ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْهُ ، فَإِنَّ الدَّلَالَةَ لَمْ تَأْتِ مِنَ اللَّفْظِ ، وَإِنَّمَا أَتَتْ مِنْ جِهَةِ حَصْرِ الْوَاقِعِ الْمُسَمَّى فِي ذَلِكَ الْأَخَصِّ - هَذَا كَلَامُ
القرافي مُلَخَّصًا - وَمَا قَالَهُ فِي الْمُضْمَرَاتِ بِعَيْنِهِ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ ، وَقَوْلُ السَّائِلِ حَفِظَهُ اللَّهُ : إِنْ قُلْتَ بِالْأَوَّلِ وَرَدَ كَذَا ، وَإِنْ قُلْتَ بِالثَّانِي لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا لَفْظِيًّا وَلَا قَائِلَ بِهِ إِلَى آخِرِهِ .
[ ص: 395 ] جَوَابُهُ : أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْمُشْتَرَكِ وَلَا مِنْ بَابِ الْمَجَازِ ، بَلْ مِنْ بَابِ الْوَضْعِ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ ، وَالْوَضْعُ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ فِي مَوَاضِعَ ، فَلَيْسَ الْوَضْعُ مُنْحَصِرًا فِيمَا رَدَّدَهُ السَّائِلُ ، فَهَذَا مَثَلًا وَضْعٌ لِمُشَارٍ إِلَيْهِ مُفْرَدٍ ذَكَرٍ حَاضِرٍ أَوْ فِي حُكْمِهِ وَهُوَ مَفْهُومٌ كُلِّيٌّ ، وَانْحِصَارُهُ فِي خَاصٍّ لَيْسَ لِلْوَضْعِ بِإِزَائِهِ ، بَلْ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَمْ يُشِرْ بِهِ الْآنَ إِلَّا لِزَيْدٍ مَثَلًا ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ النُّحَاةِ الْمُحَقِّقِينَ : إِنَّ الْمُضْمَرَ وَاسْمَ الْإِشَارَةِ كُلِّيٌّ وَضْعًا جُزْئِيٌّ اسْتِعْمَالًا ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْأَمْرَ مَوْضُوعٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ ، وَهُوَ الطَّلَبُ حَذَرًا مِنَ الْمَجَازِ وَالِاشْتِرَاكِ ، فَاسْتِعْمَالُ صِيغَةِ الْأَمْرِ فِي النَّدْبِ وَفِي الْوُجُوبِ مَثَلًا نَقُولُ فِي كُلٍّ مِنْهَا إِنَّهُ حَقِيقَةٌ غَيْرُ مَجَازٍ وَغَيْرُ مُشْتَرَكٍ ؛ لِأَنَّ الْوَضْعَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَيْسَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا وَلَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ لِمَعْنًى صَادِقٍ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا وَهُوَ الطَّلَبُ ، وَكَذَا نَقُولُ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ وَالْمُضْمَرِ : لَيْسَ الْوَضْعُ فِيهِمَا لِوَاحِدٍ فَقَطْ بِحَيْثُ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ مَجَازًا ، وَلَا لِكُلِّ وَاحِدٍ بِحَيْثُ يَكُونُ مُشْتَرَكًا ، بَلْ لِمَفْهُومٍ صَادِقٍ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ وَهُوَ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ مُشَارٌ إِلَيْهِ مُفْرَدٌ ذَكَرٌ حَاضِرٌ كَمَا قُلْنَاهُ ، وَفِي الْمُضْمَرِ مُتَكَلِّمٌ مُفْرَدٌ أَوْ غَيْرُهُ كَمَا قَالَهُ
القرافي .