الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            الوجه التاسع : إن قيل : فما الحكمة في التكرير سبعا ، وهلا اكتفي بالأول ؟

            فالجواب : أولا أن نقول هل ظننت أن المقصود من السؤال علم ما عنده حتى إذا أجاب أول مرة حصل المقصود ؟ معاذ الله ، لا يظن ذلك عاقل ، قد علم الله ما هو عليه قبل السؤال ، بل وعلم ذلك الملكان أيضا ؛ ولذا ورد في الصحيح أنهما يقولان له إذا أجاب : نم صالحا فقد علمنا إن كنت لمؤمنا . وإنما المقصود من السؤال أمور :

            أحدها : إظهار شرف النبي صلى الله عليه وسلم ومكانته وخصوصيته ومزيته على سائر الأنبياء ، فإن سؤال القبر إنما جعل تعظيما له ، وخصوصية شرف بأن الميت يسأل عنه في قبره ، ولم يعط ذلك نبي قبله ، كما قال صلى الله عليه وسلم : فأما فتنة القبر ، فبي تفتنون وعني تسألون . . . الحديث ، وأخرجه أحمد والبيهقي من حديث عائشة بسند صحيح ، قال الحكيم الترمذي : سؤال القبور خاص بهذه الأمة ؛ لأن الأمم قبلها كانت الرسل تأتيهم بالرسالة ، فإذا أبوا كفت الرسل واعتزلوهم وعوجلوا بالعذاب ، فلما بعث الله سبحانه وتعالى محمدا صلى الله عليه وسلم بالرحمة أمسك عنهم العذاب ، وأعطي السيف حتى يدخل في دين الإسلام من دخل لمهابة السيف ، ثم يرسخ الإيمان في قلبه ، فمن هذا ظهر النفاق ، فكانوا يسرون الكفر ويعلنون الإيمان ، فكانوا بين المسلمين في ستر ، فلما ماتوا قيض الله لهم فتانى القبر ؛ ليستخرج سرهم بالسؤال ، وليميز الله الخبيث من الطيب .

            الثاني : قال الحليمي من أصحابنا في شعب الإيمان : لعل المعنى في السؤال - والله أعلم - أن الميت قد حول من ظهر الأرض إلى بطنها الذي هو الطريق إلى الهاوية ، فيجيء هناك ويوقف ويسأل ، فإن كان من الأبرار عرجت الملائكة بنفسه وروحه إلى عليين ، وهو نظير إيقافه في المحشر على شفير جهنم واستعراض عمله ، حتى إذا وجد من الأبرار أجيز على الصراط ، وإن كان من الفجار ألقي في النار ، انتهى كلام الحليمي .

            [ ص: 228 ] الثالث : قال بعضهم : جعلت فتنة القبر تكرمة للمؤمن ، وإظهارا لإيمانه ، وتمحيصا لذنوبه .

            وقال بعض العلماء : من فعل سيئة فإن عقوبتها تدفع عنه بعشرة أشياء : أن يتوب فيتاب عليه ، أو يستغفر فيغفر له ، أو يعمل حسنات فتمحوها ، فإن الحسنات يذهبن السيئات ، أو يبتلى في الدنيا بمصائب فتكفر عنه ، أو في البرزخ بالضغطة والفتنة ، فتكفر عنه ، أو يدعو له إخوانه من المؤمنين ويستغفرون له ، أو يهدون له من ثواب أعمالهم ما ينفعه ، أو يبتلى في عرصات القيامة بأهوال تكفر عنه ، أو تدركه شفاعة نبيه ، أو رحمة ربه ، انتهى .

            الرابع : قال عبد الجليل القصري في " شعب الإيمان " : المعنى في سؤال الملكين الفتانين في القبر أن الخلق في التزام الشرائع وقبول الإيمان لا بد لهم من الاختبار لأمر الله ، ومن النظر فيه وفي أمر الرسل وما جاءت به ، وهو المعبر عنه بأول الواجبات عند عرض الشرائع على العقول ، فيعتقد كل أحد في قلبه وسره على حسب ما قدر له حين تعترضهم أفكار النظر والفكر فيما جاءت به الرسل من أمور الغيب ، فمن بين منكر جاحد أو شاك مرتاب ، ومن بين مؤمن مصدق وموقن مطمئن ثابت ، هذه حال الكل مدة الدنيا من أول ما وجبت عليهم الواجبات إلى حين الموت ، فلما حصل الخلق في الآخرة فتنوا بالجزاء عن عقائدهم وأحوالهم جزاء وفاقا ؛ ولذلك يقول الملكان للمسئول : قد علمنا إن كنت لمؤمنا ، ولا دريت ولا تليت ، وعلى الشك حييت وعليه مت ، على حسب اختلاف أسرار الخلق في الدنيا ، ثم بعد ذلك يفتح لكل أحد باب إلى الجنة وباب إلى النار ، وينظر إلى مقعده منهما ، ومعنى ذلك أن الرسل جاءت من عند الله ، وفتحت للعقول أبواب دين الإسلام حين عرضته على العقول ، وحين وجوب الواجبات ، وأمرت بالدخول فيه ، وأمرت بالتزام الطاعات وترك المعاصي ، وذكرت للعقول أن من التزم الطاعات جوزي بالجنة ودخلها ، ومن أعرض وأبى وقع في الكفر ودخل النار ، فمن بين داخل مفتوح له بدخوله في الإسلام والشرائع ، ومن بين خارج نافر . فيقال للعبد ذلك الوقت : هذا مقعدك من الجنة أو النار أبدلك الله به مقعدا من النار أو الجنة كما صنع هو بنفسه في دار الدنيا فافهم .

            الخامس : قال الباجي في " شرح الموطأ " : ليس الاختبار في القبر بمنزلة التكليف والعبادة ، وإنما معناه إظهار العمل وإعلام بالمآل والعاقبة ، كاختبار الحساب ؛ لأن العمل والتكليف قد انقطع بالموت ، قال مالك : من مات فقد انقطع عمله ، وفتنة الرجل لمعنى [ ص: 229 ] التكليف والتعبد ، لكنه شبهها بها لصعوبتها وعظم المحنة بها ، وقلة الثبات معها ، انتهى .

            إذا عرفت المقصود من السؤال عرفت منه حكمة التكرير ، أما على المعنى الأول فلأن التكرير أبلغ في إظهار شرف المصطفى وخصوصيته ومكانته ، وأما على المعنى الثاني فلأن ذلك هو وقت العروج بالروح إلى عليين والجنة ، كما قال صلى الله عليه وسلم : غالية لا تدرك بالهوينا . ولهذا جعل الصراط الذي هو أحد من السيف وأدق من الشعر طريقا إلى وصول الإنسان إليها ببدنه ، ولا شك في شدة ذلك الطريق ، فجعل عوضه لوصول الروح إليها تكرير الفتنة سبعة أيام ؛ ولهذا جعله الحليمي نظير الإيقاف على الصراط .

            وأما على المعنى الثالث فواضح ؛ لأنه قد يكون على المؤمن من صغائر الذنوب ما يقتضي التشديد عليه بذلك ، وهو رحمة من الله في حقه حيث اكتفى منه بذلك وكفر عنه به ، ولو شاء لانتقم منه بعذاب القبر الذي هو أشد من السؤال بكثير ، ولكنه لطف بعباده المؤمنين ، فكفر عنهم الصغائر بمقاساة أهوال السؤال ونحوه ، وخص عذاب القبر بالكبائر ، ونظيره في الأحكام الشرعية من وجب عليه تعزير ، فصولح من العقوبة على الإغلاظ في القول والانتهار رحمة له ورفقا به ، أو لكونه من ذوي الهيئات الذين يكتفى في تعزيرهم بمثل ذلك .

            وقد ورد الحديث أن فتنة القبر أشد فتنة تعرض على الموقن ، فمن تمام شدتها تكريرها سبعة أيام .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية