ثم قال تعالى : ( فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر     ) واعلم أنه تعالى أمره في هذه الآية بثلاثة أشياء : 
أولها : بالعفو عنهم وفيه مسائل . 
المسألة الأولى : أن كمال حال العبد ليس إلا في أن يتخلق بأخلاق الله تعالى ، قال عليه السلام : " تخلقوا بأخلاق الله   " ثم إنه تعالى لما عفا عنهم في الآية المتقدمة أمر الرسول أيضا أن يعفو عنهم ليحصل للرسول عليه السلام فضيلة التخلق بأخلاق الله    . 
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" : ( فاعف عنهم    ) فيما يتعلق بحقك ( واستغفر لهم    ) فيما يتعلق بحق الله تعالى . 
المسألة الثالثة : ظاهر الأمر للوجوب  ، والفاء في قوله تعالى : ( فاعف عنهم    ) يدل على التعقيب ، فهذا يدل على أنه تعالى أوجب عليه أن يعفو عنهم في الحال ، وهذا يدل على كمال الرحمة الإلهية حيث عفا هو عنهم ، ثم أوجب على رسوله أن يعفو في الحال عنهم . 
واعلم أن قوله : ( فاعف عنهم    ) إيجاب للعفو على الرسول عليه السلام  ، ولما آل الأمر إلى الأمة لم يوجبه عليهم ، بل ندبهم إليه فقال تعالى : ( والعافين عن الناس    ) ليعلم أن حسنات الأبرار سيئات المقربين . 
وثانيها : قوله تعالى : ( واستغفر لهم    ) وفي الآية مسائل : 
المسألة الأولى : في هذه الآية دلالة قوية على أنه تعالى يعفو عن أصحاب الكبائر  ، وذلك لأن الانهزام في وقت المحاربة كبيرة لقوله تعالى : ( ومن يولهم يومئذ دبره    ) إلى قوله : ( فقد باء بغضب من الله    ) [الأنفال : 16] فثبت أن انهزام أهل أحد  كان من الكبائر ، ثم إنه تعالى نص في الآية المتقدمة على أنه عفا عنهم وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بالعفو عنهم ، ثم أمره بالاستغفار لهم ، وذلك من أدل الدلائل على ما ذكرنا . 
المسألة الثانية : قوله تعالى : ( واستغفر لهم    ) أمر له بالاستغفار لأصحاب الكبائر  ، وإذا أمره بطلب المغفرة لا يجوز أن لا يجيبه إليه ؛ لأن ذلك لا يليق بالكريم ، فدلت هذه الآية على أنه تعالى يشفع محمدا  صلى الله عليه وسلم في الدنيا في حق أصحاب الكبائر ، فبأن يشفعه في حقهم في القيامة كان أولى . 
 [ ص: 54 ] المسألة الثالثة : أنه سبحانه وتعالى عفا عنهم أولا بقوله : ( ولقد عفا الله عنهم    ) [آل عمران : 155] ثم أمر محمدا  صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بالاستغفار لهم ولأجلهم ، كأنه قيل له : يا محمد  استغفر لهم فإني قد غفرت لهم قبل أن تستغفر لهم ، واعف عنهم فإني قد عفوت عنهم قبل عفوك عنهم ، وهذا يدل على كمال رحمة الله لهذه الأمة . 
وثالثها : قوله تعالى : ( وشاورهم في الأمر    ) وفيه مسائل : 
المسألة الأولى : يقال : شاورهم مشاورة وشوارا ومشورة ، والقوم شورى ، وهي مصدر سمي القوم بها كقوله : ( وإذ هم نجوى    ) [الإسراء : 47] قيل : المشاورة مأخوذة من قولهم : شرت العسل أشوره إذا أخذته من موضعه واستخرجته وقيل مأخوذة من قولهم : شرت الدابة شورا إذا عرضتها ، والمكان الذي يعرض فيه الدواب يسمى مشوارا ، كأنه بالعرض يعلم خيره وشره ، فكذلك بالمشاورة يعلم خير الأمور وشرها . 
المسألة الثانية : الفائدة في أنه تعالى أمر الرسول بمشاورتهم  وجوه : 
الأول : أن مشاورة الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم توجب علو شأنهم ورفعة درجتهم ، وذلك يقتضي شدة محبتهم له وخلوصهم في طاعته ، ولو لم يفعل ذلك لكان ذلك إهانة بهم فيحصل سوء الخلق والفظاظة .
الثاني : أنه عليه السلام وإن كان أكمل الناس عقلا إلا أن علوم الخلق متناهية ، فلا يبعد أن يخطر ببال إنسان من وجوه المصالح ما لا يخطر بباله ، لا سيما فيما يفعل من أمور الدنيا فإنه عليه السلام قال : " أنتم أعرف بأمور دنياكم وأنا أعرف بأمور دينكم   " ولهذا السبب قال عليه السلام : " ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم   " . 
الثالث : قال الحسن   وسفيان بن عيينة  إنما أمر بذلك ليقتدي به غيره في المشاورة ويصير سنة في أمته . 
الرابع : أنه عليه السلام شاورهم في واقعة أحد   فأشاروا عليه بالخروج ، وكان ميله إلى أن يخرج ، فلما خرج وقع ما وقع ، فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان ذلك يدل على أنه بقي في قلبه منهم بسبب مشاورتهم بقية أثر . فأمره الله تعالى بعد تلك الواقعة بأن يشاورهم ليدل على أنه لم يبق في قلبه أثر من تلك الواقعة . 
الخامس : وشاورهم في الأمر ، لا لتستفيد منهم رأيا وعلما ، لكن لكي تعلم مقادير عقولهم وأفهامهم ومقادير حبهم لك وإخلاصهم في طاعتك فحينئذ يتميز عندك الفاضل من المفضول فبين لهم على قدر منازلهم . 
السادس : وشاورهم في الأمر لا لأنك محتاج إليهم ، ولكن لأجل أنك إذا شاورتهم في الأمر اجتهد كل واحد منهم في استخراج الوجه الأصلح في تلك الواقعة ، فتصير الأرواح متطابقة متوافقة على تحصيل أصلح الوجوه فيها ، وتطابق الأرواح الطاهرة على الشيء الواحد مما يعين على حصوله ، وهذا هو السر عند الاجتماع في الصلوات . وهو السر في أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد . 
السابع : لما أمر الله محمدا  عليه السلام بمشاورتهم دل ذلك على أن لهم عند الله قدرا وقيمة ، فهذا يفيد أن لهم قدرا عند الله وقدرا عند الرسول وقدرا عند الخلق . 
الثامن : الملك العظيم لا يشاور في المهمات العظيمة إلا خواصه والمقربين عنده ، فهؤلاء لما أذنبوا عفا الله عنهم ، فربما خطر ببالهم أن الله تعالى وإن عفا عنا بفضله إلا أنه ما بقيت لنا تلك الدرجة العظيمة ، فبين الله تعالى أن تلك الدرجة ما انتقصت بعد التوبة ، بل أنا أزيد فيها ، وذلك أن قبل هذه الواقعة ما أمرت رسولي بمشاورتكم ، وبعد هذه الواقعة أمرته بمشاورتكم ، لتعلموا أنكم الآن أعظم حالا مما كنتم قبل ذلك ، والسبب فيه أنكم قبل هذه الواقعة كنتم تعولون على أعمالكم وطاعتكم ، والآن تعولون على فضلي وعفوي ، فيجب أن تصير درجتكم ومنزلتكم الآن أعظم مما كان قبل ذلك ، لتعلموا أن عفوي أعظم من عملكم ، وكرمي أكثر من طاعتكم . 
والوجوه الثلاثة الأول مذكورة ، والبقية مما خطر ببالي عند هذا الموضع والله أعلم بمراده وأسرار كتابه . 
 [ ص: 55 ] 
المسألة الثالثة : اتفقوا على أن كل ما نزل فيه وحي من عند الله لم يجز للرسول أن يشاور فيه الأمة  ؛ لأنه إذا جاء النص بطل الرأي والقياس ، فأما ما لا نص فيه فهل تجوز المشاورة فيه في جميع الأشياء أم لا  ؟ قال الكلبي  وكثير من العلماء : هذا الأمر مخصوص بالمشاورة في الحروب وحجته أن الألف واللام في لفظ "الأمر" ليسا للاستغراق ، لما بين أن الذي نزل فيه الوحي لا تجوز المشاورة فيه ، فوجب حمل الألف واللام هاهنا على المعهود السابق ، والمعهود السابق في هذه الآية إنما هو ما يتعلق بالحرب ولقاء العدو ، فكان قوله : ( وشاورهم في الأمر    ) مختصا بذلك ، ثم قال القائلون بهذا القول : قد أشار الحباب بن المنذر  يوم بدر  على النبي صلى الله عليه وسلم بالنزول على الماء فقبل منه ، فأشار عليه السعدان :  سعد بن معاذ   وسعد بن عبادة  ، يوم الخندق  بترك مصالحة غطفان  على بعض ثمار المدينة  لينصرفوا ، فقبل منهما وخرق الصحيفة ، ومنهم من قال : اللفظ عام خص عنه ما نزل فيه وحي فتبقى حجته في الباقي ، والتحقيق في القول أنه تعالى أمر أولي الأبصار بالاعتبار فقال : ( فاعتبروا ياأولي الأبصار    ) [الحشر : 2] وكان عليه السلام سيد أولي الأبصار ، ومدح المستنبطين فقال : ( لعلمه الذين يستنبطونه منهم    ) [النساء : 83] وكان أكثر الناس عقلا وذكاء ، وهذا يدل على أنه كان مأمورا بالاجتهاد إذا لم ينزل عليه الوحي ، والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة فلهذا كان مأمورا بالمشاورة . وقد شاورهم يوم بدر  في الأسارى وكان من أمور الدين ، والدليل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس  أن النص كان لعامة الملائكة في سجود آدم  ، ثم إن إبليس خص نفسه بالقياس وهو قوله : ( خلقتني من نار وخلقته من طين    ) [الأعراف : 12] فصار ملعونا ، فلو كان تخصيص النص بالقياس جائزا لما استحق اللعن بهذا السبب . 
المسألة الرابعة : ظاهر الأمر للوجوب  فقوله : ( وشاورهم    ) يقتضي الوجوب ، وحمل  الشافعي  رحمه الله ذلك على الندب فقال هذا كقوله عليه الصلاة والسلام : " البكر تستأمر في نفسها   " ولو أكرهها الأب على النكاح جاز ، لكن الأولى ذلك تطييبا لنفسها فكذا هاهنا . 
المسألة الخامسة : روى الواحدي  في الوسيط عن  عمرو بن دينار  عن  ابن عباس  أنه قال : الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمشاورته في هذه الآية أبو بكر  وعمر  رضي الله عنهما ، وعندي فيه إشكال ؛ لأن الذين أمر الله رسوله بمشاورتهم في هذه الآية هم الذين أمره بأن يعفو عنهم ويستغفر لهم وهم المنهزمون ، فهب أن عمر  كان من المنهزمين فدخل تحت الآية ، إلا أن أبا بكر  ما كان منهم فكيف يدخل تحت هذه الآية ؟ والله أعلم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					