الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( من بعد وصية يوصى بها أو دين ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : اعلم أن ظاهر هذه الآية يقتضي جواز الوصية بكل المال وبأي بعض أريد ، ومما يوافق هذه الآية من الأحاديث ما روى نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما حق امرئ مسلم له مال يوصي به ثم تمضي عليه ليلتان إلا ووصيته مكتوبة عنده " فهذا الحديث أيضا يدل على الإطلاق في الوصية كيف أريد ، إلا أنا نقول : هذه العمومات مخصوصة من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : في قدر الوصية ، فإنه لا يجوز الوصية بكل المال بدلالة القرآن والسنة ، أما القرآن فالآيات الدالة على الميراث مجملا ومفصلا ، أما المجمل فقوله تعالى : ( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ) ومعلوم أن الوصية بكل المال تقتضي نسخ هذا النص ، وأما المفصل فهي آيات المواريث كقوله : ( للذكر مثل حظ الأنثيين ) ويدل عليه أيضا قوله تعالى : ( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم ) وأما السنة فهي الحديث المشهور في هذا الباب ، وهو [ ص: 182 ] قوله عليه الصلاة والسلام : " الثلث والثلث كثير إنك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس " .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذا الحديث يدل على أحكام : أحدها : أن الوصية غير جائزة في أكثر من الثلث .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن الأولى النقصان عن الثلث لقوله : " والثلث كثير "

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أنه إذا ترك القليل من المال وورثته فقراء فالأفضل له أن لا يوصي بشيء لقوله عليه الصلاة والسلام : " إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس " .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : فيه دلالة على جواز الوصية بجميع المال إذا لم يكن له وارث ؛ لأن المنع منه لأجل الورثة ، فعند عدمهم وجب الجواز .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : تخصيص عموم هذه الآية في الموصى له ، وذلك لأنه لا يجوز الوصية لوارث ، قال عليه الصلاة والسلام : " ألا لا وصية لوارث " .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال الشافعي رحمة الله عليه : إذا أخر الزكاة والحج حتى مات يجب إخراجهما من التركة ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا يجب ، حجة الشافعي : أن الزكاة الواجبة والحج الواجب دين فيجب إخراجه بهذه الآية ، وإنما قلنا : إنه دين ؛ لأن اللغة تدل عليه ، والشرع أيضا يدل عليه ، أما اللغة فهو أن الدين عبارة عن الأمر الموجب للانقياد ، قيل في الدعوات المشهورة ؛ يا من دانت له الرقاب ، أي انقادت ، وأما الشرع فلأنه روي أن الخثعمية لما سألت الرسول صلى الله عليه وسلم عن الحج الذي كان على أبيها ، فقال عليه الصلاة والسلام : " أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يجزئ ؟ فقالت : نعم ، فقال عليه الصلاة والسلام : فدين الله أحق أن يقضى " إذا ثبت أنه دين وجب تقديمه على الميراث لقوله تعالى : ( من بعد وصية يوصى بها أو دين ) قال أبو بكر الرازي : المذكور في الآية الدين المطلق ، والنبي صلى الله عليه وسلم سمى الحج دينا لله ، والاسم المطلق لا يتناول المقيد .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : هذا في غاية الركاكة ؛ لأنه لما ثبت أن هذا دين ، وثبت بحكم الآية أن الدين مقدم على الميراث لزم المقصود لا محالة ، وحديث الإطلاق والتقييد كلام مهمل لا يقدح في هذا المطلوب . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : اعلم أن قوله تعالى : ( غير مضار ) نصب على الحال ، أي يوصي بها وهو غير مضار لورثته .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن الضرار في الوصية يقع على وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن يوصي بأكثر من الثلث .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن يقر بكل ماله أو ببعضه لأجنبي .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن يقر على نفسه بدين لا حقيقة له دفعا للميراث عن الورثة .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أن يقر بأن الدين الذي كان له على غيره قد استوفاه ووصل إليه .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : أن يبيع شيئا بثمن بخس أو يشتري شيئا بثمن غال ، كل ذلك لغرض أن لا يصل المال إلى الورثة .

                                                                                                                                                                                                                                            وسادسها : أن يوصي بالثلث لا لوجه الله لكن لغرض تنقيص حقوق الورثة ، فهذا هو وجه الإضرار في الوصية .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن العلماء قالوا : الأولى أن يوصي بأقل من الثلث ، قال علي : لأن أوصي بالخمس أحب إلي من الربع . ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث . وقال النخعي : قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوص ، وقبض أبو بكر فوصى ، فإن أوصى الإنسان فحسن ، وإن لم يوص فحسن أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 183 ] واعلم أن الأولى بالإنسان أن ينظر في قدر ما يخلف ومن يخلف ، ثم يجعل وصيته بحسب ذلك ، فإن كان ماله قليلا وفي الورثة كثرة لم يوص ، وإن كان في المال كثرة أوصى بحسب المال وبحسب حاجتهم بعده في القلة والكثرة . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : الإضرار في الوصية من الكبائر . واعلم أنه يدل على ذلك القرآن والسنة والمعقول ، أما القرآن فقوله تعالى : ( تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله ) قال ابن عباس في الوصية : ( ومن يعص الله ورسوله ) قال في الوصية ، وأما السنة فروى عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الإضرار في الوصية من الكبائر " وعن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة وجار في وصيته ختم له بشر عمله فيدخل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة " وقال عليه الصلاة والسلام : " من قطع ميراثا فرضه الله قطع الله ميراثه من الجنة " ومعلوم أن الزيادة في الوصية قطع من الميراث .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما المعقول فهو أن مخالفة أمر الله عند القرب من الموت يدل على جراءة شديدة على الله تعالى ، وتمرد عظيم عن الانقياد لتكاليفه ، وذلك من أكبر الكبائر .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية