المسألة الثانية : اعلم أن ظاهر الآية يدل على كون هؤلاء المقتولين أحياء ، فإما أن يكون المراد منه حقيقة أو مجازا ، فإن كان المراد منه هو الحقيقة ، فإما أن يكون المراد أنهم سيصيرون في الآخرة أحياء ، أو   [ ص: 73 ] المراد أنهم أحياء في الحال ، وبتقدير أن يكون هذا هو المراد ، فإما أن يكون المراد إثبات الحياة الروحانية أو إثبات الحياة الجسمانية ، فهذا ضبط الوجوه التي يمكن ذكرها في هذه الآية . 
الاحتمال الأول : أن تفسير الآية بأنهم سيصيرون في الآخرة أحياء ، قد ذهب إليه جماعة من متكلمي المعتزلة  ، منهم أبو القاسم الكعبي  قال : وذلك لأن المنافقين الذين حكى الله عنهم ما حكى ، كانوا يقولون : أصحاب محمد  صلى الله عليه وسلم يعرضون أنفسهم للقتل فيقتلون ويخسرون الحياة ، ولا يصلون إلى خير ، وإنما كانوا يقولون ذلك لجحدهم البعث والميعاد ، فكذبهم الله تعالى وبين بهذه الآية أنهم يبعثون ويرزقون ويوصل إليهم الفرح والسرور والبشارة . 
واعلم أن هذا القول عندنا باطل ، ويدل عليه وجوه : 
الحجة الأولى : أن قوله : ( بل أحياء    ) ظاهره يدل على كونهم أحياء عند نزول الآية ، فحمله على أنهم سيصيرون أحياء بعد ذلك عدول عن الظاهر .
الحجة الثانية : أنه لا شك أن جانب الرحمة والفضل والإحسان أرجح من جانب العذاب والعقوبة  ، ثم إنه تعالى ذكر في أهل العذاب أنه أحياهم قبل القيامة لأجل التعذيب ، فإنه تعالى قال : ( أغرقوا فأدخلوا نارا    ) [ نوح : 25 ] والفاء للتعقيب ، والتعذيب مشروط بالحياة ، وأيضا قال تعالى : ( النار يعرضون عليها غدوا وعشيا    ) [ غافر : 46 ] وإذا جعل الله أهل العذاب أحياء قبل قيام القيامة لأجل التعذيب ، فلأن يجعل أهل الثواب أحياء قبل القيامة لأجل الإحسان والإثابة كان ذلك أولى . 
الحجة الثالثة : أنه لو أراد أنه سيجعلهم أحياء عند البعث في الجنة لما قال للرسول عليه الصلاة والسلام : ( ولا تحسبن    ) مع علمه بأن جميع المؤمنين كذلك ، أما إذا حملناه على ثواب القبر حسن قوله : ( ولا تحسبن ) لأنه عليه الصلاة والسلام لعله ما كان يعلم أنه تعالى يشرف المطيعين والمخلصين بهذا التشريف ، وهو أنه يحييهم قبل قيام القيامة لأجل إيصال الثواب إليهم . 
فإن قيل : إنه عليه الصلاة والسلام وإن كان عالما بأنهم سيصيرون أحياء عند ربهم عند البعث ، ولكنه غير عالم بأنهم من أهل الجنة ، فجاز أن يبشره الله بأنهم سيصيرون أحياء ويصلون إلى الثواب والسرور . 
قلنا : قوله : ( ولا تحسبن ) إنما يتناول الموت لأنه قال : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا    ) فالذي يزيل هذا الحسبان هو كونهم أحياء في الحال ؛ لأنه لا حسبان هناك في صيرورتهم أحياء يوم القيامة ، وقوله : ( يرزقون  فرحين    ) فهو خبر مبتدأ ولا تعلق له بذلك الحسبان ، فزال هذا السؤال . 
الحجة الرابعة : قوله تعالى : ( ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم    ) والقوم الذين لم يلحقوا بهم لا بد وأن يكونوا في الدنيا ، فاستبشارهم بمن يكون في الدنيا لا بد وأن يكون قبل قيام القيامة ، والاستبشار لا بد وأن يكون مع الحياة ، فدل هذا على كونهم أحياء قبل يوم القيامة ، وفي هذا الاستدلال بحث سيأتي ذكره . 
الحجة الخامسة : ما روي عن  ابن عباس  رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صفة الشهداء    : إن أرواحهم في أجواف طير خضر وإنها ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح حيث شاءت وتأوي إلى قناديل   [ ص: 74 ] من ذهب تحت العرش ، فلما رأوا طيب مسكنهم ومطعمهم ومشربهم قالوا : يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه من النعيم وما صنع الله تعالى بنا كي يرغبوا في الجهاد ، فقال الله تعالى : أنا مخبر عنكم ومبلغ إخوانكم ، ففرحوا بذلك واستبشروا فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وسئل ابن مسعود  رضي الله عنه عن هذه الآية ، فقال : سألنا عنها فقيل لنا : إن الشهداء على نهر بباب الجنة في قبة خضراء ، وفي رواية في روضة خضراء ، وعن  جابر بن عبد الله  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أبشرك أن أباك حيث أصيب بأحد  أحياه الله ثم قال : ما تريد يا  عبد الله بن عمرو  أن أفعل بك ؟ فقال : يا رب أحب أن تردني إلى الدنيا فأقتل فيك مرة أخرى ، والروايات في هذا الباب كأنها بلغت حد التواتر ، فكيف يمكن إنكارها ! طعن الكعبي  في هذه الروايات وقال : إنها غير جائزة لأن الأرواح لا تتنعم ، وإنما يتنعم الجسم إذا كان فيه روح لا الروح ، ومنزلة الروح من البدن منزلة القوة ، وأيضا : الخبر المروي ظاهره يقتضي أن هذه الأرواح في حواصل الطير ، وأيضا ظاهره يقتضي أنها ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح ، وهذا يناقض كونها في حواصل الطير . 
والجواب : أما الطعن الأول فهو مبني على أن الروح عرض قائم بالجسم ، وسنبين أن الأمر ليس كذلك ، وأما الطعن الثاني فهو مدفوع لأن القصد من أمثال هذه الكلمات الكنايات عن حصول الراحات والمسرات وزوال المخافات والآفات ، فهذا جملة الكلام في هذا الاحتمال . 
وأما الوجه الثاني : من الوجوه المحتملة في هذه الآية : هو أن الشهداء أحياء  في الحال ، والقائلون بهذا القول منهم من أثبت هذه الحياة للروح ، ومنهم من أثبتها للبدن ، وقبل الخوض في هذا الباب يجب تقديم مقدمة ، وهي أن الإنسان ليس عبارة عن مجموع هذه البنية ، ويدل عليه أمران :
أحدهما : أن أجزاء هذه البنية في الذوبان والانحلال والتبدل ، والإنسان المخصوص شيء باق من أول عمره إلى آخره ، والباقي مغاير للمتبدل ، والذي يؤكد ما قلناه : أنه تارة يصير سمينا وأخرى هزيلا ، وأنه يكون في أول الأمر صغير الجثة ، ثم إنه يكبر وينمو ، ولا شك أن كل إنسان يجد من نفسه أنه شيء واحد من أول عمره إلى آخره فصح ما قلناه . 
الثاني : أن الإنسان قد يكون عالما بنفسه حال ما يكون غافلا عن جميع أعضائه وأجزائه ، والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم ، فثبت بهذين الوجهين أنه شيء مغاير لهذا البدن المحسوس ، ثم بعد ذلك يحتمل أن يكون جسما مخصوصا ساريا في هذه الجثة سريان النار في الفحم ، والدهن في السمسم ، وماء الورد في الورد . ويحتمل أن يكون جوهرا قائما بنفسه ليس بجسم ولا حال في الجسم ، وعلى كلا المذهبين فإنه لا يبعد أنه لما مات البدن انفصل ذلك الشيء حيا ، وإن قلنا إنه أماته الله إلا أنه تعالى يعيد الحياة إليه ، وعلى هذا التقدير تزول الشبهات بالكلية عن ثواب القبر  ، كما في هذه الآية ، وعن عذاب القبر  كما في قوله : ( أغرقوا فأدخلوا نارا    ) [ نوح : 25 ] فثبت بما ذكرناه أنه لا امتناع في ذلك ، فظاهر الآية دال عليه ، فوجب المصير إليه ، والذي يؤكد ما ذكرناه القرآن والحديث والعقل . 
أما القرآن فآيات : 
إحداها : ( ياأيتها النفس المطمئنة  ارجعي إلى ربك راضية مرضية  فادخلي في عبادي  وادخلي جنتي    ) [ الفجر : 27 - 30 ] ولا شك أن المراد من قوله : ( ارجعي إلى ربك    ) الموت . ثم قال : ( فادخلي في عبادي    ) [ الفجر : 29 ] وفاء التعقيب تدل على أن حصول هذه الحالة يكون عقيب الموت ، وهذا يدل على ما ذكرناه . 
وثانيها : ( حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون    ) [ الأنعام : 61 ] وهذا عبارة عن موت البدن . 
 [ ص: 75 ] ثم قال : ( ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق    ) [ الأنعام : 62 ] فقوله : ( ردوا ) ضمير عنه . وإنما هو بحياته وذاته المخصوصة ، فدل على أن ذلك باق بعد موت البدن . 
وثالثها : قوله : ( فأما إن كان من المقربين  فروح وريحان وجنة نعيم    ) [ الواقعة : 88 ، 89 ] وفاء التعقيب تدل على أن هذا الروح والريحان والجنة حاصل عقيب الموت . 
وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام : " من مات فقد قامت قيامته   " والفاء فاء التعقيب تدل على أن قيامة كل أحد حاصلة بعد موته  ، وأما القيامة الكبرى فهي حاصلة في الوقت المعلوم عند الله ، وأيضا قوله عليه الصلاة والسلام : " القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار   " وأيضا روي أنه عليه الصلاة والسلام يوم بدر  كان ينادي المقتولين ويقول : " هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟ " فقيل له : يا رسول الله إنهم أموات ، فكيف تناديهم ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : " إنهم أسمع منكم " أو لفظا هذا معناه ، وأيضا قال عليه الصلاة والسلام : " أولياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار   " وكل ذلك يدل على أن النفوس باقية بعد موت الجسد    . 
وأما المعقول فمن وجوه : 
الأول : وهو أن وقت النوم يضعف البدن ، وضعفه لا يقتضي ضعف النفس ، بل النفس تقوى وقت النوم فتشاهد الأحوال وتطلع على المغيبات ، فإذا كان ضعف البدن لا يوجب ضعف النفس ، فهذا يقوي الظن في أن موت البدن لا يستعقب موت النفس . 
الثاني : وهو أن كثرة الأفكار سبب لجفاف الدماغ ، وجفافه يؤدي إلى الموت ، وهذه الأفكار سبب لاستكمال النفس بالمعارف الإلهية ، وهو غاية كمال النفس ، فما هو سبب في كمال النفس فهو سبب لنقصان البدن ، وهذا يقوي الظن في أن النفس لا تموت بموت البدن . 
الثالث : أن أحوال النفس على ضد أحوال البدن ، وذلك لأن النفس إنما تفرح وتبتهج بالمعارف الإلهية ، والدليل عليه قوله تعالى : ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب    ) [ الرعد : 28 ] وقال عليه الصلاة والسلام : " أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني   " ولا شك أن ذلك الطعام والشراب ليس إلا عبارة عن المعرفة والمحبة والاستنارة بأنوار عالم الغيب . وأيضا فإنا نرى أن الإنسان إذا غلب عليه الاستبشار بخدمة سلطان ، أو بالفوز بمنصب ، أو بالوصول إلى معشوقه ، قد ينسى الطعام والشراب ، بل يصير بحيث لو دعي إلى الأكل والشرب لوجد من قلبه نفرة شديدة منه ، والعارفون المتوغلون في معرفة الله تعالى قد يجدون من أنفسهم أنهم إذا لاح لهم شيء من تلك الأنوار ، وانكشف لهم شيء من تلك الأسرار ، لم يحسوا البتة بالجوع والعطش . وبالجملة فالسعادة النفسانية كالمضادة للسعادة الجسمانية ، وكل ذلك يغلب على الظن أن النفس مستقلة بذاتها ولا تعلق لها بالبدن ، وإذا كان كذلك وجب أن لا تموت النفس بموت البدن ، ولتكن هذه الإقناعيات كافية في هذا المقام . 
واعلم أنه متى تقررت هذه القاعدة زالت الإشكالات والشبهات عن كل ما ورد في القرآن من ثواب القبر وعذابه . وإذا عرفت هذه القاعدة فنقول : قال بعض المفسرين : أرواح الشهداء أحياء وهي تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة ، والدليل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا نام العبد في سجوده باهى الله تعالى به ملائكته ويقول انظروا إلى عبدي روحه عندي وجسده في خدمتي   " . 
واعلم أن الآية دالة على ذلك وهي قوله : ( أحياء عند ربهم    ) ولفظ " عند " فكما أنه مذكور ههنا فكذا في صفة الملائكة مذكور وهو قوله : ( ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته    ) [ الأنبياء : 19 ] فإذا فهمت السعادة   [ ص: 76 ] الحاصلة للملائكة بكونهم عند الله ، فهمت السعادة الحاصلة للشهداء بكونهم عند الله ، وهذه كلمات تفتح على العقل أبواب معارف الآخرة . 
الوجه الثالث في تفسير هذه الآية عند من يثبت هذه الحياة للأجساد : والقائلون بهذا القول اختلفوا ، فقال بعضهم : إنه تعالى يصعد أجساد هؤلاء الشهداء إلى السماوات وإلى قناديل تحت العرش ، ويوصل أنواع السعادة والكرامات إليها ، ومنهم من قال : يتركها في الأرض ويحييها ويوصل هذه السعادات إليها ، ومن الناس من طعن فيه وقال : إنا نرى أجساد هؤلاء الشهداء قد تأكلها السباع ، فإما أن يقال إن الله تعالى يحييها حال كونها في بطون هذه السباع ويوصل الثواب إليها ، أو يقال إن تلك الأجزاء بعد انفصالها من بطون السباع يركبها الله تعالى ، ويؤلفها ويرد الحياة إليها ويوصل الثواب إليها ، وكل ذلك مستبعد ، ولأنا قد نرى الميت المقتول باقيا أياما إلى أن تنفسخ أعضاؤه وينفصل القيح والصديد ، فإن جوزنا كونها حية متنعمة عاقلة عارفة لزم القول بالسفسطة . 
الوجه الرابع : في تفسير هذه الآية أن نقول : ليس المراد من كونها أحياء حصول الحياة فيهم ، بل المراد بعض المجازات ، وبيانه من وجوه : 
الأول : قال الأصم البلخي    : إن الميت إذا كان عظيم المنزلة في الدين ، وكانت عاقبته يوم القيامة البهجة والسعادة والكرامة ، صح أن يقال : إنه حي وليس بميت ، كما يقال في الجاهل الذي لا ينفع نفسه ولا ينتفع به أحد : إنه ميت وليس بحي ، وكما يقال للبليد : إنه حمار ، وللمؤذي إنه سبع ، وروي أن  عبد الملك بن مروان  لما رأى  الزهري  وعلم فقهه وتحقيقه قال له : ما مات من خلف مثلك ، وبالجملة فلا شك أن الإنسان إذا مات وخلف ثناء جميلا وذكرا حسنا ، فإنه يقال على سبيل المجاز إنه ما مات بل هو حي . 
الثاني : قال بعضهم : مجاز هذه الحياة أن أجسادهم باقية في قبورهم ، وأنها لا تبلى تحت الأرض البتة . واحتج هؤلاء بما روي أنه لما أراد معاوية  أن يجري العين على قبور الشهداء ، أمر بأن ينادى : من كان له قتيل فليخرجه من هذا الموضع ، قال جابر    : فخرجنا إليهم فأخرجناهم رطاب الأبدان ، فأصابت المسحاة أصبع رجل منهم فقطرت دما   . 
والثالث : أن المراد بكونهم أحياء أنهم لا يغسلون كما تغسل الأموات . فهذا مجموع ما قيل في هذه الآية ، والله أعلم بأسرار المخلوقات . 
المسألة الثالثة : قال صاحب الكشاف : " ولا تحسبن " الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لكل أحد ، وقرئ بالياء ، وفيه وجوه : 
أحدها : " ولا يحسبن رسول الله " . 
والثاني : " ولا يحسبن حاسب " . 
والثالث : " ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتا " . قال : وقرئ " تحسبن " بفتح السين ، وقرأ ابن عامر    " قتلوا " بالتشديد ، والباقون بالتخفيف . 
المسألة الرابعة : قوله : ( بل أحياء    ) قال الواحدي    : التقدير : بل هم أحياء ، قال صاحب الكشاف : قرئ " أحياءا " بالنصب على معنى بل أحسبهم أحياءا . وأقول : إن الزجاج  قال : ولو قرئ " أحياء " بالنصب لجاز على معنى بل أحسبهم أحياءا ، وطعن أبو علي الفارسي  فيه فقال : لا يجوز ذلك لأنه أمر بالشك ، والأمر بالشك غير جائز على الله ، ولا يجوز تفسير الحسبان بالعلم لأن ذلك لم يذهب إليه أحد من علماء أهل اللغة ، وللزجاج  أن يجيب فيقول : الحسبان ظن لا شك ، فلم قلتم إنه لا يجوز أن يأمر الله بالظن ، أليس أن تكليفه في جميع المجتهدات ليس إلا بالظن . 
 [ ص: 77 ] وأقول : هذه المناظرة من الزجاج  وأبي علي الفارسي  تدل على أنه ما قرئ " أحياءا " بالنصب بل الزجاج  كان يدعي أن لها وجها في اللغة ، والفارسي  نازعه فيه ، وليس كل ما له وجه في الإعراب جازت القراءة به . 
أما قوله تعالى : ( عند ربهم    ) ففيه وجوه : 
أحدها : بحيث لا يملك لهم أحد نفعا ولا ضرا إلا الله تعالى . 
والثاني : هم أحياء عند ربهم ، أي هم أحياء في علمه وحكمه ، كما يقال : هذا عند  الشافعي  كذا ، وعند  أبي حنيفة  بخلافه . 
والثالث : أن " عند " معناه القرب والإكرام ، كقوله : ( ومن عنده لا يستكبرون    ) [ الأنبياء : 19 ] وقوله : ( فالذين عند ربك    ) [ فصلت : 38 ] . 
أما قوله : ( يرزقون  فرحين بما آتاهم الله    ) فاعلم أن المتكلمين قالوا : الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم ، فقوله : ( يرزقون ) إشارة إلى المنفعة ، وقوله : ( فرحين ) إشارة إلى الفرح الحاصل بسبب ذلك التعظيم ، وأما الحكماء فإنهم قالوا : إذا أشرقت جواهر الأرواح القدسية بالأنوار الإلهية كانت مبتهجة من وجهين : 
أحدهما : أن تكون ذواتها منيرة مشرقة متلألئة بتلك الجلايا القدسية والمعارف الإلهية . 
والثاني : بكونها ناظرة إلى ينبوع النور ومصدر الرحمة والجلالة ، قالوا : وابتهاجها بهذا القسم الثاني أتم من ابتهاجها بالأول ، فقوله : ( يرزقون ) إشارة إلى الدرجة الأولى ، وقوله : ( فرحين ) إشارة إلى الدرجة الثانية ، ولهذا قال : ( فرحين بما آتاهم الله من فضله    ) يعني أن فرحهم ليس بالرزق ، بل بإيتاء الرزق لأن المشغول بالرزق مشغول بنفسه ، والناظر إلى إيتاء الرزق مشغول بالرازق ، ومن طلب الحق لغيره فهو محجوب . 
				
						
						
