المسألة الرابعة : قال القفال    : قوله : ( يوصيكم الله في أولادكم    ) أي يقول الله لكم قولا يوصلكم إلى إيفاء حقوق أولادكم بعد موتكم ، وأصل الإيصاء هو الإيصال يقال : وصى يصي إذا وصل ، وأوصى يوصي إذا أوصل ، فإذا قيل : أوصاني فمعناه أوصلني إلى علم ما أحتاج إلى علمه ، وكذلك وصى وهو على المبالغة قال الزجاج    : معنى قوله ههنا : ( يوصيكم ) أي يفرض عليكم ؛ لأن الوصية من الله إيجاب والدليل عليه قوله :   [ ص: 166 ]   ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به    ) [ الأنعام : 151 ] ولا شك في كون ذلك واجبا علينا . 
فإن قيل : إنه لا يقال في اللغة أوصيك لكذا فكيف قال ههنا : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين    ) . 
قلنا : لما كانت الوصية قولا ، لا جرم ذكر بعد قوله : ( يوصيكم الله    ) خبرا مستأنفا وقال : ( للذكر مثل حظ الأنثيين    ) ونظيره قوله تعالى : ( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما    ) [ الفتح : 29 ] أي قال الله لهم مغفرة ؛ لأن الوعد قول . 
المسألة الخامسة : اعلم أنه تعالى بدأ بذكر ميراث الأولاد  وإنما فعل ذلك ؛ لأن تعلق الإنسان بولده أشد التعلقات ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : " فاطمة بضعة مني   " فلهذا السبب قدم الله ذكر ميراثهم . 
واعلم أن للأولاد حال انفراد ، وحال اجتماع مع الوالدين : أما حال الانفراد فثلاثة ، وذلك لأن الميت إما أن يخلف الذكور والإناث معا ، وإما أن يخلف الإناث فقط ، أو الذكور فقط . 
القسم الأول : ما إذا خلف الذكران والإناث معا ، وقد بين الله الحكم فيه بقوله : ( للذكر مثل حظ الأنثيين    ) . 
واعلم أن هذا يفيد أحكاما : أحدها : إذا خلف الميت ذكرا واحدا وأنثى واحدة فللذكر سهمان وللأنثى سهم ، وثانيها : إذا كان الوارث جماعة من الذكور وجماعة من الإناث كان لكل ذكر سهمان ، ولكل أنثى سهم . وثالثها : إذا حصل مع الأولاد جمع آخرون من الوارثين كالأبوين والزوجين فهم يأخذون سهامهم ، وكان الباقي بعد تلك السهام بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين فثبت أن قوله : ( للذكر مثل حظ الأنثيين    ) يفيد هذه الأحكام الكثيرة . 
القسم الثاني : ما إذا مات وخلف الإناث فقط : بين تعالى أنهن إن كن فوق اثنتين ، فلهن الثلثان ، وإن كانت واحدة فلها النصف ، إلا أنه تعالى لم يبين حكم البنتين بالقول الصريح . واختلفوا فيه ، فعن  ابن عباس  أنه قال : الثلثان فرض الثلاث من البنات فصاعدا ، وأما فرض البنتين فهو النصف ، واحتج عليه بأنه تعالى قال : ( فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك    ) وكلمة " إن " في اللغة للاشتراط ، وذلك يدل على أن أخذ الثلثين مشروط بكونهن ثلاثا فصاعدا ، وذلك ينفي حصول الثلثين للبنتين . 
والجواب من وجوه : 
الأول : أن هذا الكلام لازم على  ابن عباس  ، لأنه تعالى قال : ( وإن كانت واحدة فلها النصف    ) فجعل حصول النصف مشروطا بكونها واحدة ، وذلك ينفي حصول النصف نصيبا للبنتين ، فثبت أن هذا الكلام إن صح فهو يبطل قوله . الثاني : أنا لا نسلم أن كلمة " إن " تدل على انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف ؛ ويدل عليه أنه لو كان الأمر كذلك لزم التناقض بين هاتين الآيتين ؛ لأن الإجماع دل على أن نصيب الثنتين إما النصف ، وإما الثلثان ، وبتقدير أن يكون كلمة " إن " للاشتراط وجب القول بفسادهما ، فثبت أن القول بكلمة الاشتراط يفضي إلى الباطل فكان باطلا ، ولأنه تعالى قال : ( ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة    ) [ البقرة : 283 ] وقال : لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة إن خفتم ، ولا يمكن أن يفيد معنى الاشتراط في هذه الآيات . 
 [ ص: 167 ] الوجه الثالث في الجواب : هو أن في الآية تقديما وتأخيرا ، والتقدير : فإن كن نساء اثنتين فما فوقهما فلهن الثلثان ، فهذا هو الجواب عن حجة  ابن عباس  ، وأما سائر الأمة فقد أجمعوا على أن فرض البنتين الثلثان  ، قالوا : وإنما عرفنا ذلك بوجوه : 
الأول : قال أبو مسلم الأصفهاني    : عرفناه من قوله تعالى : ( للذكر مثل حظ الأنثيين    ) وذلك لأن من مات وخلف ابنا وبنتا  فههنا يجب أن يكون نصيب الابن الثلثين لقوله تعالى : ( للذكر مثل حظ الأنثيين    ) فإذا كان نصيب الذكر مثل نصيب الأنثيين ، ونصيب الذكر ههنا هو الثلثان ، وجب لا محالة أن يكون نصيب الابنتين الثلثين ، الثاني : قال  أبو بكر الرازي    : إذا مات وخلف ابنا وبنتا فههنا نصيب البنت الثلث بدليل قوله تعالى : ( للذكر مثل حظ الأنثيين    ) فإذا كان نصيب البنت مع الولد الذكر هو الثلث ، فبأن يكون نصيبهما مع ولد آخر أنثى هو الثلث كان أولى ؛ لأن الذكر أقوى من الأنثى . الثالث : أن قوله تعالى : ( للذكر مثل حظ الأنثيين    ) يفيد أن حظ الأنثيين أزيد من حظ الأنثى الواحدة ، وإلا لزم أن يكون حظ الذكر مثل حظ الأنثى الواحدة وذلك على خلاف النص ، وإذا ثبت أن حظ الأنثيين أزيد من حظ الواحدة فنقول وجب أن يكون ذلك هو الثلثان ، لأنه لا قائل بالفرق ، والرابع : أنا ذكرنا في سبب نزول هذه الآية أنه عليه الصلاة والسلام أعطى بنتي  سعد بن الربيع  الثلثين ، وذلك يدل على ما قلناه . الخامس : أنه تعالى ذكر في هذه الآية حكم الواحدة من البنات وحكم الثلاث فما فوقهن ، ولم يذكر حكم الثنتين ، وقال في شرح ميراث الأخوات : ( إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك    ) [ النساء : 176 ] ( فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك    ) [ النساء : 176 ] فههنا ذكر ميراث الأخت الواحدة والأختين ولم يذكر ميراث الأخوات الكثيرة ، فصار كل واحدة من هاتين الآيتين مجملا من وجه ومبينا من وجه ، فنقول : لما كان نصيب الأختين الثلثين كانت البنتان أولى بذلك ، لأنهما أقرب إلى الميت من الأختين ، ولما كان نصيب البنات الكثيرة لا يزداد على الثلثين وجب أن لا يزداد نصيب الأخوات الكثيرة على ذلك ؛ لأن البنت لما كانت أشد اتصالا بالميت امتنع جعل الأضعف زائدا على الأقوى ، فهذا مجموع الوجوه المذكورة في هذا الباب ، فالوجوه الثلاثة الأول مستنبطة من الآية ، والرابع مأخوذ من السنة ، والخامس من القياس الجلي . 
أما القسم الثالث : وهو إذا مات وخلف الأولاد الذكور فقط فنقول : أما الابن الواحد فإنه إذا انفرد أخذ كل المال  ، وبيانه من وجوه : 
الأول من دلالة قوله تعالى : ( للذكر مثل حظ الأنثيين    ) فإن هذا يدل على أن نصيب الذكر مثل نصيب الأنثيين . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					