( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما ) .
قوله تعالى : ( ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ) .
اعلم أنه تعالى لما رغب في مقاتلة الكفار ، وحرض عليها ، ذكر بعد ذلك بعض ما يتعلق بهذه المحاربة ، فمنها أنه تعالى لما أذن في قتل الكفار فلا شك أنه قد يتفق أن يرى الرجل رجلا يظنه كافرا حربيا فيقتله ، ثم يتبين أنه كان مسلما ، فذكر الله تعالى حكم هذه الواقعة في هذه الآية وههنا مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا في سبب النزول وجوها :
الأول : روى عروة بن الزبير أن كان مع الرسول صلى الله عليه وسلم يوم حذيفة بن اليمان أحد فأخطأ المسلمون وظنوا أن أباه اليمان واحد من الكفار ، فأخذوه وضربوه بأسيافهم وحذيفة يقول : إنه أبي فلم يفهموا قوله إلا بعد أن قتلوه ، فقال حذيفة : يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ، فلما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك ازداد وقع حذيفة عنده ، فنزلت هذه الآية :
الرواية الثانية : أن الآية ، وذلك لأنه كان في سرية فعدل إلى شعب لحاجة له فوجد رجلا في غنم له فحمل عليه بالسيف ، فقال الرجل : لا إله إلا الله ، فقتله وساق غنمه ثم وجد في نفسه شيئا ، فذكر الواقعة للرسول صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام : " هلا شققت عن قلبه " أبي الدرداء وندم نزلت في أبو الدرداء فنزلت الآية .
[ ص: 181 ] .
الرواية الثالثة : روي أن عياش بن أبي ربيعة ، وكان أخا لأبي جهل من أمه ، أسلم وهاجر خوفا من قومه إلى المدينة ، وذلك قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فأقسمت أمه لا تأكل ولا تشرب ولا تجلس تحت سقف حتى يرجع ، فخرج أبو جهل ومعه الحرث بن زيد بن أبي أنيسة فأتياه وطولا في الأحاديث ، فقال أبو جهل : أليس أن محمدا يأمرك ببر الأم فانصرف وأحسن إلى أمك وأنت على دينك فرجع ، فلما دنوا من مكة قيدوا يديه ورجليه ، وجلده أبو جهل مائة جلدة ، وجلده الحرث مائة أخرى ، فقال للحرث : هذا أخي فمن أنت يا حرث ، لله علي إن وجدتك خاليا أن أقتلك . وروي أن الحرث قال لعياش حين رجع : إن كان دينك الأول هدى فقد تركته وإن كان ضلالا فقد دخلت الآن فيه ، فشق ذلك على عياش وحلف أن يقتله ، فلما دخل على أمه حلفت أمه لا يزول عنه القيد حتى يرجع إلى دينه الأول ففعل ، ثم هاجر بعد ذلك وأسلم الحرث أيضا وهاجر ، فلقيه عياش خاليا ولم يشعر بإسلامه فقتله ، فلما أخبر بأنه كان مسلما ندم على فعله وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : قتلته ولم أشعر بإسلامه ، فنزلت هذه الآية .
المسألة الثانية : قوله تعالى : ( وما كان ) فيه وجهان :
الأول : أي وما كان فيما أتاه من ربه وعهد إليه .
الثاني : ما كان له في شيء من الأزمنة ذلك ، والغرض منه بيان أن حرمة القتل كانت ثابتة من أول زمان التكليف .
المسألة الثالثة : قوله : ( إلا خطأ ) فيه قولان :
الأول : أنه استثناء متصل ، والذاهبون إلى هذا القول ذكروا وجوها :
الأول : أن هذا الاستثناء ورد على طريق المعنى ، لأن قوله : ( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ) [النساء : 92 ] معناه أنه يؤاخذ الإنسان على القتل إلا إذا كان القتل قتل خطأ فإنه لا يؤاخذ به .
الثاني : أن الاستثناء صحيح أيضا على ظاهر اللفظ ، والمعنى أنه ليس لمؤمن أن يقتل مؤمنا البتة إلا عند الخطأ . وهو ما إذا رأى عليه شعار الكفار ، أو وجده في عسكرهم فظنه مشركا ، فههنا يجوز قتله ، ولا شك أن هذا خطأ ، فإنه ظن أنه كافر مع أنه ما كان كافرا .
الثالث : أن في الكلام تقديما وتأخيرا ، والتقدير : وما كان مؤمن ليقتل مؤمنا إلا خطأ ، ومثله قوله تعالى : ( ما كان لله أن يتخذ من ولد ) [ مريم : 35 ] تأويله : ما كان الله ليتخذ من ولد ، لأنه تعالى لا يحرم عليه شيء ، إنما ينفي عنه ما لا يليق به ، وأيضا قال تعالى : ( ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ) [ النمل : 60 ] معناه ما كنتم لتنبتوا ، لأنه تعالى لم يحرم عليهم أن ينبتوا الشجر ، إنما نفى عنهم أن يمكنهم إنباتها ، فإنه تعالى هو القادر على إنبات الشجر .
الرابع : أن وجه الإشكال في حمل هذا الاستثناء على الاستثناء المتصل ، وهو أن يقال : ، وهذا يقتضي الإطلاق في قتل المؤمن في بعض الأحوال ، وذلك محال ، إلا أن هذا الإشكال إنما يلزم إذا سلمنا أن الاستثناء من النفي إثبات ، وذلك مختلف فيه بين الأصوليين ، والصحيح أنه لا يقتضيه لأن الاستثناء يقتضي صرف الحكم عن المستثنى لا صرف المحكوم به عنه ، وإذا كان تأثير الاستثناء في صرف الحكم فقط بقي المستثنى غير محكوم عليه لا بالنفي ولا بالإثبات ، وحينئذ يندفع الإشكال . ومما يدل على أن الاستثناء من النفي ليس بإثبات قوله عليه الصلاة والسلام : " الاستثناء من النفي إثبات " ويقال : لا ملك إلا بالرجال ولا رجال إلا بالمال ، والاستثناء في جملة هذه الصور لا يفيد أن يكون الحكم المستثنى من النفي إثباتا والله أعلم . لا صلاة إلا بطهور ولا نكاح إلا بولي
الخامس : قال أبو هاشم وهو أحد رؤساء المعتزلة : تقدير الآية : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا فيبقى مؤمنا ، إلا أن يقتله [ ص: 182 ] خطأ فيبقى حينئذ مؤمنا ، قال : والمراد أن قتل المؤمن للمؤمن يخرجه عن كونه مؤمنا ، إلا أن يكون خطأ فإنه لا يخرجه عن كونه مؤمنا . واعلم أن هذا الكلام بناء على أن الفاسق ليس بمؤمن ، وهو أصل باطل ، والله أعلم .
القول الثاني : أن هذا الاستثناء منقطع بمعنى لكن ، ونظيره في القرآن كثير . قال تعالى : ( لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة ) [ النساء : 29 ] وقال : ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) [ النجم : 32 ] وقال : ( لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما ) [ الواقعة : 25 ] والله أعلم .
المسألة الرابعة : في انتصاب قوله : ( خطأ ) وجوه :
الأول : أنه مفعول له ، والتقدير ما ينبغي أن يقتله لعلة من العلل ، إلا لكونه خطأ .
الثاني : أنه حال ، والتقدير : لا يقتله البتة إلا حال كونه خطأ .
الثالث : أنه صفة للمصدر . والتقدير : إلا قتلا خطأ .