قالت المعتزلة    : هذه الآية دالة على أصلين عظيمين من أصولنا . 
فالأصل الأول : المضل هو الشيطان ، وليس المضل هو الله تعالى . قالوا : وإنما قلنا : إن الآية تدل على أن المضل هو الشيطان ؛ لأن الشيطان ادعى ذلك والله تعالى ما كذبه فيه ، ونظيره قوله : ( لأغوينهم أجمعين    ) [ الحجر : 39 ] وقوله : ( لأحتنكن ذريته إلا قليلا    ) [ الإسراء : 62 ] ، وقوله : ( لأقعدن لهم صراطك المستقيم    ) [الأعراف : 16] وأيضا أنه تعالى ذكر وصفه بكونه مضلا للناس في معرض الذم له ، وذلك يمنع من كون الإله موصوفا بذلك . 
والأصل الثاني : وهو أن أهل السنة يقولون : الإضلال عبارة عن خلق الكفر والضلال  ، وقلنا : ليس الإضلال عبارة عن خلق الكفر والضلال ، بدليل أن إبليس وصف نفسه بأنه مضل مع أنه بالإجماع لا يقدر على خلق الضلال . 
والجواب : أن هذا كلام إبليس فلا يكون حجة ، وأيضا أن كلام إبليس في هذه المسألة مضطرب   [ ص: 39 ] جدا ، فتارة يميل إلى القدر المحض ، وهو قوله : ( لأغوينهم أجمعين    ) [الحجر : 39 ] . وأخرى إلى الجبر المحض ، وهو قوله : ( رب بما أغويتني    ) [الحجر 39] . وتارة يظهر التردد فيه حيث قال : ( ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا    ) [القصص : 63] يعني : أن قول هؤلاء الكفار : نحن أغوينا فمن الذي أغوانا عن الدين ؟ ولا بد من انتهاء الكل بالآخرة إلى الله . 
وثالثها : قوله : ( ولأمنينهم    ) . واعلم أنه لما ادعى أنه يضل الخلق قال : ( ولأمنينهم    ) وهذا يشعر بأنه لا حيلة له في الإضلال أقوى من إلقاء الأماني في قلوب الخلق ، وطلب الأماني يورث شيئين ؛ الحرص والأمل ، والحرص والأمل يستلزمان أكثر الأخلاق الذميمة  ، وهما كالأمرين اللازمين لجوهر الإنسان قال صلى الله عليه وسلم :   " يهرم ابن آدم ويشب معه اثنان الحرص والأمل "   . والحرص يستلزم ركوب أهوال الدنيا وأهوال الدين ، فإنه إذا اشتد حرصه على الشيء فقد لا يقدر على تحصيله إلا بمعصية الله وإيذاء الخلق ، وإذا طال أمله نسي الآخرة وصار غريقا في الدنيا ، فلا يكاد يقدم على التوبة ، ولا يكاد يؤثر فيه الوعظ ، فيصير قلبه كالحجارة أو أشد قسوة . 
ورابعها : قوله ( ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام    )    . البتك : القطع ، وسيف باتك : أي قاطع ، والتبتيك التقطيع . قال الواحدي    -رحمه الله- : التبتيك ههنا هو قطع آذان البحيرة بإجماع المفسرين ، وذلك أنهم كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرا ، وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها . وقال آخرون : المراد أنهم يقطعون آذان الأنعام نسكا في عبادة الأوثان ، فهم يظنون أن ذلك عبادة ، مع أنه في نفسه كفر وفسق . 
خامسها : قوله : ( ولآمرنهم فليغيرن خلق الله    ) وللمفسرين ههنا قولان : 
الأول : أن المراد من تغيير خلق الله تغيير دين الله ، وهو قول  سعيد بن جبير  ،  وسعيد بن المسيب  ، والحسن  ، والضحاك  ،  ومجاهد  ، والسدي  ،  والنخعي  ، وقتادة  ، وفي تقرير هذا القول وجهان : 
الأول : أن الله تعالى فطر الخلق على الإسلام يوم أخرجهم من ظهر آدم  كالذر  ، وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم وآمنوا به ، فمن كفر فقد غير فطرة الله التي فطر الناس عليها ، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم :   " كل مولود يولد على الفطرة ، ولكن أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه"   . 
والوجه الثاني : في تقرير هذا القول : أن المراد من تغيير دين الله هو تبديل الحلال حراما أو الحرام حلالا . 
القول الثاني : حمل هذا التغيير على تغيير أحوال كلها تتعلق بالظاهر ، وذكروا فيه وجوها : 
الأول : قال الحسن    : المراد ما روى  عبد الله بن مسعود  عن النبي صلى الله عليه وسلم :   "لعن الله الواصلات والواشمات " قال : وذلك لأن المرأة تتوصل بهذه الأفعال إلى الزنا . 
الثاني : روي عن أنس  ،  وشهر بن حوشب  ، وعكرمة  ، وأبي صالح  أن معنى تغيير خلق الله ههنا : هو الإخصاء ، وقطع الآذان ، وفقء العيون ؛ ولهذا كان أنس  يكره إخصاء الغنم ، وكانت العرب إذا بلغت إبل أحدهم ألفا عوروا عين فحلها . 
الثالث : قال ابن زيد  هو التخنث ، وأقول : يجب إدخال السحاقات في هذه الآية على هذا القول ؛ لأن التخنث عبارة عن ذكر يشبه الأنثى ، والسحق عبارة عن أنثى تشبه الذكر . 
الرابع : حكى الزجاج  عن بعضهم أن الله تعالى خلق الأنعام ليركبوها ويأكلوها ، فحرموها على أنفسهم ؛ كالبحائر والسوائب والوصائل . وخلق الشمس والقمر والنجوم مسخرة للناس ، ينتفعون بها ، فعبدها المشركون ، فغيروا خلق الله ، هذا جملة كلام المفسرين في هذا الباب ، ويخطر ببالي ههنا وجه آخر في تخريج الآية على سبيل المعنى ؛ وذلك لأن دخول الضرر والمرض في الشيء يكون على ثلاثة أوجه : التشوش ، والنقصان ، والبطلان . فادعى الشيطان لعنه الله إلقاء أكثر الخلق في مرض الدين ، وضرر الدين هو   [ ص: 40 ] قوله : ( ولأمنينهم    ) ثم إن هذا المرض لا بد وأن يكون على أحد الأوجه الثلاثة التي ذكرناها ، وهي التشوش والنقصان والبطلان ، فأما التشوش فالإشارة إليه بقوله : ( ولأمنينهم    ) ؛ وذلك لأن صاحب الأماني يشغل عقله وفكره في استخراج المعاني الدقيقة ، والحيل والوسائل اللطيفة في تحصيل المطالب الشهوانية والغضبية ، فهذا مرض روحاني من جنس التشوش ، وأما النقصان فالإشارة إليه بقوله : ( ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام    ) ؛ وذلك لأن بتك الآذان نوع نقصان ؛ وهذا لأن الإنسان إذا صار مستغرق العقل في طلب الدنيا صار فاتر الرأي ضعيف الحزم في طلب الآخرة ، وأما البطلان فالإشارة إليه بقوله : ( ولآمرنهم فليغيرن خلق الله    ) ؛ وذلك لأن التغيير يوجب بطلان الصفة الحاصلة في المدة الأولى ، ومن المعلوم أن من بقي مواظبا على طلب اللذات العاجلة معرضا عن السعادات الروحانية فلا يزال يزيد في قلبه الرغبة في الدنيا والنفرة عن الآخرة  ، ولا تزال تتزايد هذه الأحوال إلى أن يتغير القلب بالكلية فلا يخطر بباله ذكر الآخرة البتة ، ولا يزول عن خاطره حب الدنيا البتة ، فتكون حركته وسكونه ، وقوله وفعله لأجل الدنيا ، وذلك يوجب تغيير الخلقة ؛ لأن الأرواح البشرية إنما دخلت في هذا العالم الجسماني على سبيل السفر ، وهي متوجهة إلى عالم القيامة ، فإذا نسيت معادها ، وألفت هذه المحسوسات التي لا بد من انقضائها وفنائها كان هذا بالحقيقة تغييرا للخلقة ، وهو كما قال تعالى : ( ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم    ) [الحشر : 19] وقال : ( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور    ) [الحج : 46] . 
واعلم أنه تعالى لما حكى عن الشيطان دعاويه في الإغواء والضلال حذر الناس عن متابعته ، فقال : ( ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا    ) . واعلم أن أحدا لا يختار أن يتخذ الشيطان وليا من دون الله ، ولكن المعنى أنه إذا فعل ما أمره الشيطان به ، وترك ما أمره الرحمن به  صار كأنه اتخذ الشيطان وليا لنفسه ، وترك ولاية الله تعالى ، وإنما قال : ( خسر خسرانا مبينا    ) ؛ لأن طاعة الله تفيد المنافع العظيمة  الدائمة الخالصة عن شوائب الضرر ، وطاعة الشيطان تفيد المنافع الثلاثة المنقطعة المشوبة بالغموم والأحزان والآلام الغالبة  ، والجمع بينهما محال عقلا ، فمن رغب في ولايته فقد فاته أشرف المطالب وأجلها بسبب أخس المطالب وأدونها ، ولا شك أن هذا هو الخسار المطلق . 
				
						
						
