( ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا  ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا    ) . 
قوله تعالى : ( ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا  ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا    ) . 
اعلم أنه تعالى لما شرط حصول النجاة والفوز بالجنة بكون الإنسان مؤمنا شرح الإيمان وبين فضله من وجهين : 
أحدهما : أنه الدين المشتمل على إظهار كمال العبودية والخضوع والانقياد لله تعالى    . 
والثاني : وهو أنه الدين الذي كان عليه إبراهيم  عليه الصلاة والسلام  ، وكل واحد من هذين الوجهين سبب مستقل بالترغيب في دين الإسلام . 
أما الوجه الأول : فاعلم أن دين الإسلام مبني على أمرين    : الاعتقاد والعمل : أما الاعتقاد فإليه الإشارة بقوله : ( أسلم وجهه    ) ؛ وذلك لأن الإسلام : هو الانقياد والخضوع . والوجه أحسن أعضاء الإنسان ، فالإنسان إذا عرف بقلبه ربه وأقر بربوبيته وبعبودية نفسه فقد أسلم وجهه لله ، وأما العمل فإليه الإشارة بقوله : ( وهو محسن    ) ويدخل فيه فعل الحسنات وترك السيئات ، فتأمل في هذه اللفظة المختصرة واحتوائها على جميع المقاصد والأغراض ، وأيضا فقوله : ( أسلم وجهه لله    ) يفيد الحصر ، معناه : أنه أسلم نفسه لله وما أسلم لغير الله ، وهذا تنبيه على أن كمال الإيمان لا يحصل إلا عند تفويض جميع الأمور إلى الخالق  ، وإظهار التبري من الحول والقوة ، وأيضا ففيه تنبيه على فساد طريقة من استعان بغير الله  ، فإن المشركين كانوا يستعينون بالأصنام ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، والدهرية  والطبيعيون  يستعينون بالأفلاك ، والكواكب ، والطبائع وغيرها ، واليهود  كانوا يقولون في دفع عقاب الآخرة عنهم : أنهم من أولاد الأنبياء ، والنصارى  كانوا يقولون : ثالث ثلاثة ، فجميع الفرق قد استعانوا بغير الله . 
وأما المعتزلة  فهم في الحقيقة ما أسلمت وجوههم لله ؛ لأنهم يرون الطاعة الموجبة لثوابهم من أنفسهم ، والمعصية الموجبة لعقابهم من أنفسهم ، فهم في الحقيقة لا يرجون إلا أنفسهم ، ولا يخافون إلا أنفسهم ، وأما أهل السنة الذين فوضوا التدبير ، والتكوين ، والإبداع ، والخلق إلى الحق سبحانه وتعالى ، واعتقدوا أنه لا موجد ، ولا مؤثر إلا الله ، فهم الذين أسلموا وجوههم لله ، وعولوا بالكلية على فضل الله ، وانقطع نظرهم عن كل شيء ما سوى الله . 
 [ ص: 46 ] وأما الوجه الثاني في بيان فضيلة الإسلام    : وهو أن محمدا  عليه الصلاة والسلام إنما دعا الخلق إلى دين إبراهيم  عليه السلام ، فلقد اشتهر عند كل الخلق : أن إبراهيم  عليه السلام ما كان يدعو إلا إلى الله تعالى ، كما قال : ( إني بريء مما تشركون    ) [الأنعام : 78] . وما كان يدعو إلى عبادة فلك ، ولا طاعة كوكب ، ولا سجدة صنم ، ولا استعانة بطبيعة ، بل كان دينه الدعوة إلى الله والإعراض عن كل ما سوى الله . ودعوة محمد  عليه الصلاة والسلام قد كان قريبا من شرع إبراهيم  عليه السلام ؛ في الختان ، وفي الأعمال المتعلقة بالكعبة    : مثل الصلاة إليها ، والطواف بها ، والسعي ، والرمي ، والوقوف ، والحلق ، والكلمات العشر المذكورة في قوله : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه    ) [البقرة : 124] . ولما ثبت أن شرع محمد  عليه الصلاة والسلام كان قريبا من شرع إبراهيم  ، ثم إن شرع إبراهيم  مقبول عند الكل ؛ وذلك لأن العرب لا يفتخرون بشيء كافتخارهم بالانتساب إلى إبراهيم  ، وأما اليهود  والنصارى  فلا شك في كونهم مفتخرين به ، وإذا ثبت هذا لزم أن يكون شرع محمد  مقبولا عند الكل . 
وأما قوله : ( حنيفا    )  ففيه بحثان : 
الأول : يجوز أن يكون حالا للمتبوع ، وأن يكون حالا للتابع ، كما إذا قلت : رأيت راكبا ، فإنه يجوز أن يكون الراكب حالا للمرئي والرائي . 
البحث الثاني : الحنيف المائل ، ومعناه : أنه مائل عن الأديان كلها ؛ لأن ما سواه باطل ، والحق أنه مائل عن كل ظاهر وباطن ، وتحقيق الكلام فيه : أن الباطل وإن كان بعيدا من الباطل الذي يضاده فقد يكون قريبا من الباطل الذي يجانسه ، وأما الحق فإنه واحد فيكون مائلا عن كل ما عداه ، كالمركز الذي يكون في غاية البعد عن جميع أجزاء الدائرة . 
فإن قيل : ظاهر هذه الآية يقتضي أن شرع محمد  عليه الصلاة والسلام نفس شرع إبراهيم  ، وعلى هذا التقدير لم يكن محمد  عليه الصلاة والسلام صاحب شريعة مستقلة ، وأنتم لا تقولون بذلك . 
قلنا : يجوز أن تكون ملة إبراهيم  داخلة في ملة محمد  عليه الصلاة والسلام  ، مع اشتمال هذه الملة على زوائد حسنة وفوائد جليلة . 
				
						
						
