[ ص: 165 ]   ( فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين    ) ثم قال تعالى :   ( فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه    )  وفيه مسائل : 
المسألة الأولى : قيل : لما قتله تركه لا يدري ما يصنع به ، ثم خاف عليه السباع فحمله في جراب على ظهره سنة حتى تغير فبعث الله غرابا ، وفيه وجوه : 
الأول : بعث الله غرابين فاقتتلا ، فقتل أحدهما الآخر ، فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة ، فتعلم قابيل  ذلك من الغراب . 
الثاني : قال الأصم    : لما قتله وتركه بعث الله غرابا يحثو التراب على المقتول ، فلما رأى القاتل أن الله كيف يكرمه بعد موته ندم وقال : يا ويلتى . 
الثالث : قال أبو مسلم    : عادة الغراب دفن الأشياء فجاء غراب فدفن شيئا فتعلم ذلك منه . 
المسألة الثانية : ( ليريه    ) فيه وجهان : 
الأول : ليريه الله أو ليريه الغراب ، أي ليعلمه ؛ لأنه لما كان سبب تعلمه فكأنه قصد تعليمه على سبيل المجاز . 
المسألة الثالثة : ( سوأة أخيه    ) عورة أخيه ، وهو ما لا يجوز أن ينكشف من جسده ، والسوأة الفضيحة لقبحها . وقيل " سوأة أخيه" أي جيفة أخيه . 
ثم قال تعالى :   ( قال ياويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين    )  وفيه مسائل : 
المسألة الأولى : لا شك أن قوله : ( ياويلتا    ) كلمة تحسر وتلهف ، وفي الآية احتمالان : 
الأول : أنه ما كان يعلم كيف يدفن المقتول ، فلما تعلم ذلك من الغراب علم أن الغراب أكثر علما منه ، وعلم أنه إنما أقدم على قتل أخيه بسبب جهله وقلة معرفته ، فندم وتلهف وتحسر على فعله . 
الثاني : أنه كان عالما بكيفية دفنه ، فإنه يبعد في الإنسان أن لا يهتدي إلى هذا القدر من العلم ، إلا أنه لما قتله تركه بالعراء استخفافا به ، ولما رأى الغراب يدفن الغراب الآخر رق قلبه وقال : إن الغراب جاء ، وكان يحثي التراب على المقتول ، فلما رأى أن الله أكرمه حال حياته بقبول قربانه . وأكرمه بعد مماته بأن بعث هذا الغراب ليدفنه تحت الأرض علم أنه عظيم الدرجة عند الله فتلهف على فعله ، وعلم أنه لا قدرة له على التقرب إلى أخيه إلا بأن يدفنه في الأرض ، فلا جرم قال : يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب . 
المسألة الثانية : قوله : ( ياويلتا    ) اعتراف على نفسه باستحقاق العذاب ، وهي كلمة تستعمل عند وقوع الداهية العظيمة ، ولفظها لفظ النداء ، وكأن الويل غير حاضر له فناداه ليحضره ، أي أيها الويل احضر ، فهذا أوان حضورك ، وذكر " يا" زيادة بيان كما في قوله ( ياويلتى أألد    ) ( هود : 72 ) والله أعلم . 
المسألة الثالثة : لفظ الندم وضع للزوم ، ومنه سمي النديم نديما ؛ لأنه يلازم المجلس . وفيه سؤال :   [ ص: 166 ] وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال : " الندم توبة   " فلما كان من النادمين كان من التائبين فلم لم تقبل توبته  ؟ 
أجابوا عنه من وجوه : 
أحدها : أنه لما لم يعلم الدفن إلا من الغراب صار من النادمين على حمله على ظهره سنة . 
والثاني : أنه صار من النادمين على قتل أخيه ؛ لأنه لم ينتفع بقتله ، وسخط عليه بسببه أبوه وإخوته ، فكان ندمه لأجل هذه الأسباب لا لكونه معصية . 
والثالث : أن ندمه كان لأجل أنه تركه بالعراء استخفافا به بعد قتله ، فلما رأى أن الغراب لما قتل الغراب دفنه ندم على قساوة قلبه ، وقال : هذا أخي وشقيقي ولحمه مختلط بلحمي ودمه مختلط بدمي ، فإذا ظهرت الشفقة من الغراب على الغراب ولم تظهر مني على أخي كنت دون الغراب في الرحمة والأخلاق الحميدة فكان ندمه لهذه الأسباب ، لا لأجل الخوف من الله تعالى فلا جرم لم ينفعه ذلك الندم . 
				
						
						
